info@suwar-magazine.org

شرقي الفرات وجيوسياسية الموت

شرقي الفرات وجيوسياسية الموت
Whatsapp
Facebook Share

 

 

العمليات العسكرية التركية والاجتياح للشمال الشرقي من سوريا خلال الأيام الماضية وضعت الكثيرين من الساسة والدبلوماسيين في حيرة من أمرهم وعلى رأس هؤلاء صناع القرار في أعلى مستوياته في الولايات المتحدة الأمريكية.

 

إن اللعبة الجيوسياسية التي عانى ويعاني منها السوريون منذ بداية الثورة والتي كان ثمنها باهظاً على المجتمع السوري (أكثر من نصف مليون سوري فقدوا حياتهم حتى الآن) جعلت إمكانية تصور وبحث سيناريوهات أو توقعات ضرب من ضروب الخيال لذلك فإن التركيز على الوقائع الجارية على الأرض والماثلة أمامنا هو الخيار الأكثر أماناً لعدم الانجرار إلى الأوهام أو التصورات غير الواقعية.

 

فبعد قرار الانسحاب الأول من الرئيس ترامب بدأت الجهود الدبلوماسية الأمريكية في التحرك من أجل إيجاد صيغة تفاهم بين الأتراك من جهة وقسد ( حلفاء الأمريكان ) من جهة أخرى حيث تمثلت هذه الجهود بجولات مكوكية للسيد جيفري (المبعوث الخاص لسوريا ) بين واشطن، وتركيا وعين عيسى التقى خلالها العديد من القيادات بين الطرفين، وكان الملفت في هذه الزيارات التركيز على كيفية الوصول إلى استقرار سياسي وأمني دائم، وكان واضحاً اهتمام الدبلوماسية الأمريكية بكيفية خلق حالة توازن في القوة بين العرب والكرد، وإعطاء مساحة أكبر في المستويين السياسي  الأمني للمكون العربي وخاصة في الرقة .فهم يدركون  ( أي الامريكان ) حجم الحساسية العرقية بين الطرفين.

 

التحرك الملفت الاخر جاء من قبل الجنرالات والقادة العسكريين إلى جانب السياسيين والذين لعبوا دوراً مهما في الحوار غير المباشر بين قسد والجيش التركي، والذي أثمر عن توقيع اتفاق بين الطرفين بقيت بنوده غامضة إلى اليوم من حيث الشكل والمضمون.

 

بعد الاتفاق الاآف الذكر نشطت الدبلوماسية الأمريكية مرة أخرى بين شمال شرقي سوريا وتركيا، وبالتحديد بين الرقة وأورفا، وحتى غازي عنتاب. وقد عقد الدبلوماسيون الأمريكيون عدة لقاءات كانت جميعها تتمحور حول آفاق العمل المستقبلية، والتي تهدف إلى بناء استقرار سياسي وأمني واقتصادي أكثر في المنطقة، هذه الجهود التي قامت بها الخارجية الأمريكية رآها الكثيرون مؤشرات إيجابية تدل على جدية الإدارة الأمريكية في إيجاد حل مستدام ليس فقط في الشمال بل التفكير أن يكون جزء من اتفاق سياسي شامل لكل سوريا.

 

وعلى صعيد آخر بدأ الهجوم الروسي السوري على إدلب وريف حماه وسط اكتفاء الضامن التركي بتصريحات، وتنديدات لم تؤثر كثيراً، وعقد مؤتمر الآستانة بين الأطراف الضامنة بدون أن يؤدي إلى إيقاف الهجوم، والذي سيطر النظام في مرحلته الأولى على عدة بلدات، وبقيت النقاط التركية في مكانها بدون اتخاذ أي اجراء أو تحرك كما بقي ما يسمى بالجيش الوطني في عفرين وجرابلس ساكناً في مكانه.

 

وعلى الضفة الأخرى كانت شخصيات من مسد (مجلس سوريا الديمقراطي) تقوم بجولات مكوكية متنقلة بين عدة عواصم ومدن أوربية أجرت خلالها حوارات مع سوريين من مختلف المكونات لإيجاد آفاق جديدة تمهد لانخراطهم ضمن العملية السياسية، في الوقت الذي كان السيد بيدرسون يقوم فيه بجولات ولقاءات مع ضامني الآستانة لوضع اللمسات الأخيرة على اللجنة الدستورية، والتي تم الإعلان عنها في ٢٣ أيلول الماضي.

 

وبعدها بدأ تطبيق الاتفاق الأمريكي التركي على الأرض من خلال إزالة جميع التحصينات بين مدينتي تل أبيض رأس العين السوريتين بتنسيق، وتعاون كامل بين المؤسسة العسكرية الأمريكية ونظيرتها التركية من ناحية وقسد من ناحية أخرى، وتم تسيير دوريات مشتركة أمريكا-تركيا. وبنفس الوقت وصلت شحنات جديدة من الأسلحة إلى قسد، وبالتحديد إلى رأس العين وتل أبيض.

 

ذلك لم يرضي الرئيس التركي أردوغان فبدأ بتصعيد لهجته وتهديداته وبدأ يعرض مشروعه القائم على تشكيل منطقة آمنة وإعادة ٢ مليون لاجئ، وبناء مدن أحلام لهم.

 

لم يتوقع أحد ان هذه اللهجة العدائية سوف تكون مقدمة لعمل عسكري فقد اعتبرها الكثيرون ضمن سياق خطابات الابتزاز السياسي المعتادة للحصول على بعض الدعم السياسي أو المالي من أوروبا.

 

ثم بعد اتصال هاتفي مع ترامب تفاجأ العالم ببيان من البيت الأبيض يعلن فيه سحب ٥٠ جندي أمريكي من المنطقة الواقعة بين رأس العين وتل أبيض، ثم بعد يوم من عمليات جس النبض أعلن أردوغان بدء الاجتياح العسكري التركي. الأمر الذي سبب الحيرة وترك الجميع في حالة من الذهول حتى عند أعلى القيادات الأمريكية، وصناع الرأي الذين لم يكن لديهم علماً بهذا التطور الخطير.

 

 المشهد يشير إلى أن رجلاً متفرداً بقراراته يجلس على كرسي البيت الأبيض هو صاحب القرار حتى دون العودة إلى أغلب قياداته، وإن الحدود التي يتحدث عنها ترامب والمسموح لأردوغان بموجبها التحرك تتلخص في سيطرة أعلى ممر يمتد من رأس العين إلى تل أبيض بعمق يصل إلى ٣٠ كيلومتراً، "وهي نفس المنطقة التي تم إزالة التحصينات فيها"، وما التبريرات والتهديدات التي أطلقها إلا من أجل تخفيف وطأة الضغوط عليه على المستويين الداخلي والدولي.

 

كما أن المؤشرات تشير إلى أن إنكار (ترامب) إعطائه الضوء الأخضر لأردوغان غير منطقي، فيبدو أن الغاية منه إبعاد شبح الخيانة عن نفسه بعد أن وصفته الغالبية العظمى من أعضاء الكونغرس الأمريكي (جمهوريين وديمقراطيين، وقادة رأي وأعضاء سابقين من إدارته مثل نيكي هيلي) بأن العملية تشكل خيانة للكرد، كما أن هاشتاغ (ترامب يخون الكرد) احتل المراتب الأولى في التويتر، حيث وصل إلى قرابة ٢٠٠ ألف إعادة تغريد، وكما أنه من المستحيل أن يصدق أحد أن تركيا قادرة على اتخاذ قرار فردي بالهجوم على منطقة خاضعة للسيطرة الأمريكية يوجد فيها جنود أمريكيين وآلاف المعتقلين من تنظيم داعش الذي كلف الولايات المتحدة أموالاً طائلة للقضاء عليه،  وحتى لو افترضنا أن الرجل صادقاً فأين عظمة أمريكا التي تحدث عنها أثناء حملته الانتخابية، فجميع الدول اليوم أصبحت تتعدى على هذه العظمة.

 

وأخيراً مؤشرات الاختلاف واضحة بين الإدارات الثلاثة في الولايات المتحدة (البيت الأبيض -الكونغرس – وزارة الدفاع) حتى إنها ظهرت داخل البنتاغون نفسه كما أنه من الإشارات الأخرى وجود تقاطع مصالح روسية تركية من جهة وأمريكية تركية من جهة أخرى، مما أعطى مؤشر تفاهم تجاه العملية العسكرية. علماً أن هذا الاجتياح لا يصب سوى في مصلحة الرئاستين الأمريكية والتركية ومصالح الرجلين (ترامب وأردوغان) الشخصية فكلاهما يواجه وضعاً داخلياً صعباً كان قريباً من الإطاحة بهما.

 

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard