مأساة إدلب وريفها على وقع صفقات الضامنين
أشلاء مبعثرة في كل مكان، والدماء الطازجة تنزف مكوِّنة بُرَكاً صغيرة من الدم الأحمر يتصاعد منه البخار، هناك جنين ملقى على الأرض لا يزال مع حبله السري معلقاً بقطعة من أشلاء أمه، وهو يصدر ارتعاشات الموت الأخيرة قبل أن يرى الحياة !!
بينما لا يزال صوت الطائرة الحربية يدوِّي عالياً في سماء قرية حاس في ريف إدلب الجنوبي، صرخات الألم، تملأ المكان، هكذا تضع النازحة هبة الشيخ عثمان من قرية كرناز جنينها في يوم الجمعة 16/8/2019 بقرية حاس، في الوقت الذي تنظر فيه الأم إلى عائلة ابنتها بكل حزن وأسى مدهوشة مما حصل لهم !!
يتعرض المدنيون في إدلب وريفها منذ أكثر من ستة أشهر وبشكل يومي للقصف من قبل طيران قوات النظام السوري والقوات الروسية، موزعاً الرعب والموت والدمار في الأرجاء على الرغم من اتفاق خفض التصعيد بين الضامنين الروسي والتركي.
والدة هبة (50 عاماٍ) لا تكفُّ عن البكاء طوال الوقت، وتقول بأنها هربت مع ابنتها وزوج ابنتها، من كرناز في 2017 خوفاً من كثافة القصف تزامناً مع دخول قوات النظام إليها.
انتقلت عائلة هبة إلى قرية حاس 30 كم شرقي مدينة كفرنبل، وسكنوا في مبنى يسمى باسم "الوفاء للنازحين" اعتقدت العائلة أنها في منطقة أكثر أمناً من غيرها، وأن هبة تستطيع أن تضع مولودها بعيداً عن خطوط التماس مع قوات النظام، غير أن استهداف طائرة روسية للمبنى في إحدى غاراتها الجوية كانت كفيلة بقتل هبة وجنينها مع زوجها دفعة واحدة.
كان مروان (25عاماً) يعمل حارساً للمبنى من بين ناجي مبنى "الوفاء السكني" الذي تعرض للقصف حينها، يبدي استغرابه من استهداف المبنى قائلاً " القصف لايفرق بين موالين للنظام أو معارضين له، حيث أن قسماً كبيراً من سكان المبنى، ومن خلال احتكاكي معهم ليس لديهم أي نشاطات ثورية، أغلبهم نازحون مدنيون من مناطق خطوط التَّماس، والمواجهة يلتمسون أماكن آمنة لعيشهم.
في مدينة أخرى من مدن إدلب المنكوبة تتجرع شذا وريم مع أخيهما الأكبر مرارة الفقد الأليم حين انتزع الموت فجأة منهم أمهم وإخوتهم الأربعة، ثم بعد فترة توفي أبوهم الذي مات في أحد مشافي تركيا في العناية المشددة متأثراً بجراحه جراء القصف أيضاً.
يقول أحمد الولد الأكبر " نزحنا مع أبي إلى أريحا من مدينة سنجار في 2017 قبل أن تسيطر عليها قوات النظام، كان أبي يعمل مدرساً، وأمي ربة منزل، كنا نظن أنا أصبحنا في مكان آمن، ولم نكن ندري بأنه لم يعد في سوريا من مكانٍ آمن".
بدموع غزيرة تعبر أخته الصغرى عن ألمها الشديد بالقول: "ليس هناك ألم يوازي فقدانك لوالديك وأربعة من أخوتك فجأة، وكأنهم لم يكونوا في حياتك يوماً، وبهذه الطريقة البشعة" تساؤلات حائرة يطلقها سكان تلك المناطق عن مدى الفائدة من قصف المباني السكنية، وهدمها فوق رؤوس قاطنيها بحجة محاربة الإرهاب!!
اقرأ أيضاً:
مقتل 10 مدنيين في غارات جوية روسية على إدلب
يراكم النزوح على السكان المحليين أعباء مالية ثقيلة لا يقوى الكثير منهم على تحملها، بالإضافة إلى فقدانهم لأعمالهم ومصادر رزقهم في ظروف اقتصادية صعبة بسبب الحرب المستمرة، يضطرون إلى ترك منازلهم، والنزوح إلى أماكن أخرى بحثاً عن الأمان، فتزداد حاجتهم وفقرهم بسبب ازدياد المصاريف كإيجار البيوت وغيرها.
في كل مرة ينجو نعيم البالغ من العمر (55 عاماً) من الموت في قرية كفروما غربي معرة النعمان، ولكن هذه المرة كانت قاسية جداً، حيث يصف نعيم شعوره أثناء سقوط البراميل المتفجرة فوق المبنى الذي يعمل به، فيقول "أحسست أثناء سقوط البرميل فوقنا بخوف شديد، وصرت أتساءل عن الطريقة التي سوف أموت فيها، وأتخيل كمية العذاب حين تخرج روحي من جسدي، جراء موتي بهذه الطريقة، وشعرت حينها بأن العالم بأكمله ظالم، ومتآمر علي "لأنه يرفض الخروج من بيته أو أن يترك عمله".
يعمل نعيم في تصليح السيارات من أجل توفير مصروف عائلته المكونة من 8 أفراد في الشمال السوري يتعرض يومياً لحالة من الخوف والرعب شديدين بسبب القصف المستمر على المنطقة.
لكن خوف الكبار ليس أشد ألماً من خوف الأطفال الذين باتوا يتعرضون لأمراض نفسية وجسدية قاتلة جراء شعور الخوف، فلم تتحمل الطفلة إيمان (14 عاماً) من مدينة كفرنبل، حيث مات والدها بسبب قصف سابق في العام 2015 استهدف المدينة بقنابل عنقودية حينها.
وعن سبب موت إيمان تحدثت أمها موضحة بأن ابنتها لم تتحمل صوت الطائرة المرعب أثناء تنفيذ الضربات على المدينة في الحملة الاخيرة 16 /8/ 2019 ما أدى إلى إصابتها بارتفاع مفاجيء في نسبة سكر الدم، ووفاتها بعد غيبوبة دامت أيام.
في حين يلجأ ابن عمها الذي يبلغ من العمر 4سنوات للصراخ مرتعشاً من صوت الطائرة كلما سمعها، حيث يجلس مع أخته الأصغر في زاوية الغرفة ويضع الوسادة فوق رأسه، قررت أم إيمان أخيراً أن تنزح مع عائلة أخي زوجها وابنتيها المتبقيتين بعد فقدانها لابنتها إيمان.
لا توجد إحصائية جديدة للحملة الأخيرة على إدلب منذ 2 شباط وحتى الآن حول عدد الأطفال الذين تأثروا نفسياً جراء القصف الجوي المستمر، لكن منظمة "أنقذوا الطفولة" أجرت إحصائية في الفترة الواقعة بين كانون الأول وأذار 2016 في سبع محافظات سورية كانت تسيطر عليها المعارضة، تبين ارتفاع عدد الأطفال المصابين بالصدمات النفسية إلى درجة من الممكن أن تسبب لهم ضرراً دائماً مدى الحياة.
في مشهد تراجيدي غير مآلوف في 24 تموز 2019 أثناء الحملة العسكرية على إدلب تحاول الطفلة رهام ذات الخمس سنوات أن تنقذ أختها روان أثناء تعرض منزلهما لصاروخ من طائرة حربية استهدفت المباني السكنية فتمسك رهام بيد أختها الأصغر روان التي انزلقت محاولة إنقاذها من السقوط، لكن يبدو أن الحمل كان ثقيلاً عليها فلم تستطع الاستمرار على هذا الوضع ما أدى إلى سقوط الطفلتين معا للأسفل حيث استقبلتهما كتل الحجارة والقضبان الحديدية القاتلة كل ذلك حدث على مرأى من الأب الذي لم يستطع فعل شيء لإنقاذ ابنتيه.
لا يوفر القصف المستمر على إدلب وريفها البنية التحتية من المنشآت الطبية والمشافي والمدارس حيث تؤكد منظمة منسقو استجابة سوريا، وهي منظمة إنسانية غير ربحية بأن 230 منشأة من مدارس ونقاط طبية تم استهدافها منذ بداية الحملة العسكرية على إدلب، و40 بلدة وقرية تم تدميرها في ريفي حماة وإدلب بالإضافة إلى 60 قرية وبلدة أخليت من سكانها.
في خيمة بين أشجار الزيتون في قرية أطمة الحدودية تبدو حياة ميس وعائلتها كحياة الإنسان البدائي تطبخ على الحطب اليابس بينما يراقب أطفالها نضوج الطعام وهم جالسون حولها بشغف، تضيء خيمتها ليلاً بواسطة سراج بدائي قديم لأنها لا تملك المال لتشتري به ألواح الطاقة الشمسية كغيرها.
تعرَّض منزل ميس في قرية بسقلا جنوب كفرنبل للقصف من الطيران الحربي أثناء الحملة الأخيرة على إدلب تقول ميس "لم نعثر على مكان في المخيمات بسبب كثرة أعداد النازحين فنصبنا خيمنا في العراء وبين أشجار الزيتون نحن ومجموعة من العوائل".
تصف ميس حالتها قائلة "أشعر بالخوف من الحشرات والزواحف، فقد تعرض ابني للدغة عقرب كادت أن تودي بحياته لولا إسعافه إلى المشفى"، غير أن المخيمات نفسها لم تعد آمنة في ريف إدلب حيث تسكن عائلة أبي مازن النازحة من قرية حاس مخيم قاح الحدودي الذي تعرض للقصف في يوم 20 تشرين الثاني /نوفمبر، وتسبب ذلك بإصابة وموت العديد من النازحين بينهم أطفال، كما يقول أبو مازن مما اضطر العديد منهم للهرب بعيداً أثناءها، وهم في حيرة من أمرهم. تقول زوجته "لا ندري إلى أين سنذهب بعد اليوم، أو إن كان هناك مكان آمن في سوريا ؟"
يُنشَر هذا التحقيق بالتعاون بين مجلّة صُوَر وشبكة (أنا هي)