عن الموت المُعلن والموت شِبه المُعلن
ساعدوا الفقر والجراد علينا نحن نحيا بمعجزات السّماء
(الأخطل الصّغير)
كان ذلك عام 1914، في عهد السّلطان العثمانيّ السّفاح، عبد الحميد الثّاني، حين تضافرت الحرب مع المجاعة والطّغيان على بلاد الشّام. وما أشبه اليوم بالأمس البعيد؛ منذ تسع سنواتٍ والسّوريون والسّوريات يعيشون في "موت مُعلن"، وغير قليلٍ منهم يعتاشون منه، فتنمو ثرواتهم بقدر ما يقتلون ويدّمرون وينهبون. منذ تسع سنواتٍ والسّوريات والسّوريون يسكنون/ـن في موتٍ معلنٍ، يسكنهم/ـن، ويحتلّ منازلهم/ـنّ وأسرَّتهم/ـنّ أو فُرُشهم/ـنّ، ويقاسمهم/ـن لقمة العيش.
هذا الموت المُعلن لا يدبّ في الأرواح دبيباً، ويتسلّل إليها تسلّلاً، على عادة الموت الطّبيعيّ، ولم يعدّ يأتي بين الحين والحين فجأةً أو على غفلةٍ، أو على حين غِرّةٍ، كما يقال، ولم يعدّ يوهن الأجساد قبل أن يخطف الأنفاس؛ إنّه موتٌ آخر، من نوعٍ آخر وطبيعةٍ مختلفةٍ، موتٌ له هويةٌ؛ يحمل هويته مزهوَّاً بها، ويعلن عن نفسه، بالرّصاص والقذائف والصّواريخ والبراميل المتفجّرة والغازات السّامة.. والرّايات والأعلام والقنوات الفضائيّة والتّراشق بتهم الإرهاب والخيانة.. فلا يلتبس أمره على أحد، إلا على الحكومات والدّول الكبرى والدّول الصّغرى، ومجتمع الدّول، وعلى "المحلّلين السّياسيين". هل نقول: إنّ السّوريين والسّوريات صاروا مدمنين ومدمنات على الموت، وعلى القتل والتّدمير والتّعفيش، مثل الإدمان على التّدخين والمخدرات، أو على الخوف والطّاعة، بلا أملٍ، في أفق انتظارهم، ولا رجاءٍ، بلا مستقبلٍ ولا عاقبةٍ؟
منذ بداية العام 2011، والسّوريون يواجهون الموت بجميع أشكاله العبثيّة، لا يعرف أحدهم ما إذا كان سيموت في قاربٍ مطاطيٍّ في مياه بحر إيجة، أم بقذيفةٍ عمياء تسقط فوق رأسه وهو جالسٌ أمام التّلفاز يستمع إلى آخر أخبار الحرب اللّعينة، أم وهو في الشّارع، أو وهو واقفٌ في طابورٍ أمام فرنٍ أو في سوقٍ شعبيّةٍ أو أمام مستشفىً.. كأنّه منذورٌ لجميع آلهة الحرب، ومن نذره هم أولئك الّذين لم يبالوا يوماً لا بحياته ولا بموته، لا بصحته ولا بمرضه، فهما سيّان، متساويان مثل جميع الأشياء المتساوية في التّفاهة. حين تتساوى الحياة والموت والصّحة والمرض.. حين تتساوى جميع الأشياء تفقد الأشياء قيمها ومعانيها، ويفقد النّاس إنسانيّتهم.
في الأمس البعيد تواطأ الطّغيان مع الحرب والقحط والجراد، واليوم يتواطأ الاستبداد مع الجوع ومع جائحة كورونا، الّتي رأى فيها من يعدّون أنفسهم قيّمين على الدّين ومسؤولين عن خلاص النّفوس ابتلاءً من ربّ العالمين لاختبار إيمان الشّعوب، ويرى فيها العقلاء اختباراً للدول والحكومات، الّتي حجرت على النّاس في بيوتهم وحظرت التّجوال والتّقارب الاجتماعيّ، فتوقف العمل أو كاد في المؤسّسات والشّركات، وفقد العاملون والعاملات مصادر دخلهم/ـنّ ومواردهم/ـنّ، وتفاوتت مواقف الدّول والحكومات من شعوبها، من حيث القيام بوظائفها الاجتماعيّة والإنسانيّة، فضخّت بعضها أموالاً طائلةً في شرايين الاقتصاد ودعمت الشّركات الخاصّة، ولا سيّما الصّغيرة منها، لكي لا تتوقّف عن دفع الأجور والرّواتب، وأحاطت مواطناتها ومواطنيها بالعناية والرّعاية، بقدر ما تستطيع. وحدها أنظمة التّسلّط والاستبداد والفساد، كما في العراق وسوريا ولبنان، فرضت حجراً منزليّاً عامّاً، وتعبئةً عامةً أو حالة طوارئٍ، وتركت الشّعوب تواجه الجائحة وحدها، بل حوّل الفاسدون في كلٍّ منها الجائحة إلى فرصةٍ لمزيدٍ من الفساد والنّهب والقمع والتّضييق على النّاس.
في سوريا خاصّةً، حيث يعيش 80% من السّكّان المتبقين فيها حالةً غير مسبوقة من الفقر، بلغت في أوساط الفئات الفقيرة جداً درجة الجوع العاري، الّذي يهدّد الحياة، تخلّت الحكومة عن جميع مسؤوليّاتها أكثر من ذي قبلٍ. ولولا أنّ المصيبة تجمع النّاس وتوحد مشاعرهم، وتحفّز ذوي المروءة على التّضامن مع الآخرين لكانت ضحايا الجوع أكثر من ضحايا جائحة كورونا في البؤر الّتي انتشرت فيها. هل يجب أن نشكر الجائحة الطّبيعيّة لأنها أيقظت الوجدان الجمعيّ، الّذي كان قد قتله الاستبداد والفساد؟!
لا بدّ أن يصاب الإنسان بالدّوار إذا كانت المعلومات الّتي نشرتها الصّحف ووكالات الأنباء الرّوسيّة صحيحةً، وأنّ أزمات الكهرباء والغاز والوقود، وربّما أزمة الطّحين وغيرها هي أزماتٌ مُفتعلةٌ، للتغطية على الفساد، وأنّ جلالة "البطاقة الذّكيّة"، مثلاً، ليست لمعالجة الأزمة والتّغلب على الصّعوبات، وهي غير قليلةٍ، وليست من أجل عدالة التّوزيع والحدّ من الاحتكار، بل هي وسيلةٌ جديدةٌ لسرقة المواطنين، كما قالت الصّحف الرّوسيّة ذاتها.
اقرأ أيضاً:
كيف تتحايل الأُسر السّوريّة على العيش مع أجورٍ مُتآكلة؟
البطاقة الذّكيّة صارت هي المتحكّمة في الموادّ الأوليّة من قوت المواطنين، كالزّيت والسّمن والسّكر والأرزّ والشّاي، وقد أضافت الحكومة في الآونة الأخيرة خطّة توزيع الخبز عن طريق هذه البطاقة في بعض المحافظات السّوريّة، بذريعة حماية المواطن من فايروس كورونا، مع أن الهدف الأساسيّ هو الإمعان في إذلال المواطن وقهره والسّيطرة عليه عن طريق التّحكّم في لقمة عيشه، غير أن المواطنين أحبطوا تلك الخطّة بإثارة الرّأي العامّ عن طريق وسائل التّواصل الاجتماعيّ، مما جعل الحكومة تتراجع عن تنفيذ الخطّة في بقية المحافظات السّوريّة، علاوةً على أنّ الحكومة السّوريّة لم تتّخذ الإجراءات الاحترازيّة اللازمة لالتزام المواطنين بالحجر، كتوفير الخدمات أو تقديم تعويضاتٍ نقديّةٍ تغنيه عن الخروج إلى العمل.
الجميع شاهدوا ما تداولته وسائل التّواصل الاجتماعيّ من توجيهاتٍ وتوصياتٍ لمتابعة الحجر المنزليّ والتّشديد على الالتزام به، إلاّ أن الشّعب السّوريّ الّذي لم يكن ملتزماً بما فيه الكفاية، كبقية شعوب العالم، وصِف بالغباء وعدم المبالاة، لكننا نستطيع أن نطرح سؤالاً أخلاقيّاً؛ هل تحقّق للشعب السّوريّ في الحجر المنزليّ ما تحقّق لشعوب العالم؛ من خدماتٍ صحيّةٍ ومعيشيّةٍ وحمايةٍ اجتماعيّةٍ، وغيرها لضمان استمرار الحياة الإنسانيّة؟ هل هناك غير المسنين السّوريين من يفتّشون في حاويات القمامة عمّا يقتاتون به ويقيتون أطفالهم؟
اكتفت الحكومة السّوريّة بفرض الحجر المنزليّ على جميع أفراد المجتمع، دون أن تنظر إلى الحالة الماديّة للجزء الأكبر من المواطنين والمواطنات الّذين يعملون واللّواتي يعملن في القطاع الخاصّ، إما بأجرٍ يوميٍّ، أو بمرتّبٍ شهريٍّ، هؤلاء لا يجدون حتّى ما يكفي من الغذاء والدّواء، فكيف لهم أن يلتزموا بالحجر المنزليّ في ظلّ الجوع والقهر؟
ليس غريباً على الشّعب السّوريّ أن يخترع البدائل ويبدع فيها، فقد بادر كثيرون، وبادرت بعض منظّمات المجتمع المدنيّ، في جميع المحافظات السّوريّة إلى إغاثة المحتاجين ومدّ يد العون للأسر المستورة، ومن فقدوا مصادر عيشهم ومن تقطعت بهم السّبل، ولو في الحدود الدّنيا. ولكن هل التّكافل الاجتماعيّ وأعمال البرّ والإحسان تعفي الدّولة من مسؤوليّتها تجاه مواطنيها وحمايتهم في الأزمات والكوارث حسب ما ورد في الدّستور، وهل تعجز الحكومة عن ضبط الأسعار ولجم الجشعين والمستغلين من التّجار والباعة على الأقلّ؟
كيف يمكن لذوي الدّخل المحدود، الّذين لا تتجاوز مرتّباتهم أربعين ألف ليرةٍ سوريّةٍ شهرياً (حوالي 30 دولاراً) والعاملين والعاملات بأجرٍ يوميٍّ لا يتجاوز ثلاثة آلاف ليرةٍ سوريّةٍ، (أيّ أقلّ من ثلاثة دولاراتٍ) أن يعيشوا، إذا كان الكيلو غرام الواحد من اللّيمون الحامض، مثلاً، بألفي ليرةٍ سوريّةٍ، والكيلو غرام الواحد من البندورة بتسعمئة ليرةٍ سوريّةٍ، ...
"خليك بالبيت وموت من الجوع".