info@suwar-magazine.org

  لماذا يعجز السّوريّون عن التّغيير؟

  لماذا يعجز السّوريّون عن التّغيير؟
Whatsapp
Facebook Share

 

تغيَّرت أنظمةٌ كثيرةٌ في المنطقة وإن كان شكليّاً، وغيَّر بعضها جزئياً من نفسه، في حين لا زال السّوريون محكومون بنفس النّظام وأركانه وعقليته منذ أكثر من خمسين عاماً، لا جديد على السّاحة السّياسيّة، لدرجة تشعر معها وكأنّ النّظام الحاكم وعقليته هو قَدَر السّوريين ومصيرهم، على الرّغم من الثّمن الباهظ الّذي دفعوه منذ آذار 2011 في محاولتهم للخروج من قدرهم الّذي لم يفلحوا في تغييره أو وضعه على طريق التّغيير.

 

واقعٌ يدعو للتساؤل والاستغراب وللبحث أكثر في أسباب الاستعصاء السّوريّ على التّغيير، وربّما يحتاج للعودة إلى الوراء إلى زمن ترسيخ النّظام الحالي لسلطته في ستينيات القرن الماضي، حيث استولى البعث على السّلطة بعد فشل السّوريين في تحقيق منظومةٍ سياسيّةٍ واجتماعيّةٍ واقتصاديّةٍ موحدةٍ وقادرةٍ على بناء دولة مؤسّسات تحيد بالجيش جانباً، وتحمي السّلطة المدنيّة من تدخلاته الّتي تقف خلفها أيادٍ خارجيّةٍ كانت تسعى لجذب البلاد لصالحها.

 

إحدى أهم أسباب الفشل السّوريّ كان غياب الاقتصاد الوطني المنتج على مستوى البلاد واقتصاره على الاقتصاديات المحليّة لكلّ منطقةٍ كما كانت سابقاً، وبالتالي الحفاظ على إعادة إنتاج نفس البنية المجتمعيّة الدّائرة حول نفسها، بما لا يسمح بتحقيق انسجامٍ مجتمعيٍّ جديدٍ في ظلّ ظروفٍ جديدةٍ. أيّ فشل تكوين دولة مؤسّساتٍ نتيجة غياب أسباب قيامها، ليستمرّ الحال على ما عليه إلى أن جاءت الوحدة مع مصر وحاولت فرض قوانينها، لكن سرعان ما انهارت مع محاربتها من الخارج ومن أصحاب المصالح الاقتصاديّة الكبرى المعارضين للتأميم ولتحكم الدّولة بمفاصل الاقتصاد. ليأتي البعث بانقلابه معتمداً على تضرّر فئاتٍ واسعةٍ من سياسة الحكومة الّتي تولّت حكم البلاد بعد فشل تجربة الوحدة، واعداً تلك الفئات بالسّداد من مستغليهم مجيّشاً بالتالي الفقراء والرّيف في مسيرة مشروع حكمه، ومهيّئاً الاستقرار الّذي تتطلبه الطّبقة الوسطى.

 

تحالفت السّلطة مع كبار الاقتصاديين والتّجار، وبدأت بفتح اقتصاد البلاد تدريجياً أمام القطاع الخاصّ بعد نهوضٍ نسبيٍّ للقطاع العامّ، والّذي شكَّل أول نقلةٍ في سوريا نحو بداية بناء اقتصادٍ وطنيٍّ منتجٍ، لكن سرعان ما سيطرت عليه مافيات الفساد والعلاقات الزّبائنيّة  وأثقلت كاهله نتيجة غياب مؤسّسات رقابية حقيقية، في ظلّ نظامٍ بات همه الحفاظ على السّلطة وتقاسم الاقتصاد مقابل الولاء له،  وانزاح كليّاً عن وعوده بتحسين الظّروف المعيشية الّتي قدّمها لأبناء الطّبقات الفقيرة  وأبناء الأرياف، بعد إحكام قبضته على السّلطة.

 

اقرأ أيضاً:

 

حكومات سورية نفّذت مشاريع لزيادة الفقراء

 

وبالتالي لم يفرز الشّكل الاقتصاديّ لسوريا فئاتٍ اجتماعيّةٍ مغايرة لما سبق نتيجة حفاظ السّلطة على العلاقات السّابقة لحماية نفسها دون سعيها لتشكيل هويةٍ وطنيّةٍ، وعدم إشراكها للفقراء في الشّأن العامّ بل احتمائها بهم فقط في وجه أيّ خطرٍ يهدّدها، واستغلت سلطتها في بناء علاقاتٍ قائمةٍ على الولاء وتوزيع الثّروة بدلاً من بناء مؤسّسات الدّولة الّتي قد تفسح المجال أمام منافسيها السّياسيين، وبالتالي حافظت من خلال تلك العلاقات والحكم بقبضةٍ أمنيّةٍ على وجودها الّتي تتنافى مع وجود دولة مؤسّساتٍ حقيقيةٍ.

 

استمرّت السّلطة بتلك السّياسة حتّى بعد انهيار المنظومة الاشتراكيّة، بل زاد تباعدها عن الفقراء والعمال والفلاحين ورسخت حكمها باستمرار تجييش الولاء لها، وتهديد من يخرج عنها بقبضتها الأمنيّة، في حين استطاعت التّغلب على احتمال أيّ خطرٍ من منافسيها السّياسيين بتشتيتهم تارةً واعتقالهم تارةً، واستغلال الخلافات بينهم، إلى أن دفعت بالكثيرين منهم إلى الابتعاد عن العمل السّياسيّ، والتّوجّه نحو الحديث عن المجتمع المدنيّ.

 

بعد استلام الأسد الابن للسلطة ازداد الحديث عن المجتمع المدنيّ من قبل المعارضين، وحمل السّياسيون والمثقفون بتوجهاتم الّتي باتت واضحةً بليبراليتها لواء المناداة بالتّغيير المنشود. في حين ازداد توجّه السّلطة نحو اقتصاد السّوق وفتح البلاد أمام الأسواق الخارجيّة ومنح كبار التّجار والاقتصاديين حرّية التّغول في تغيير نمط اقتصاد البلاد، لتصبح بذلك السّلطة في وادٍ والفئات الشعبية في وادٍ آخر، وسرعان ما بدا واضحاً ازدياد تلك الفجوة إلى أن أدّت إلى الانفجار عام 2011.

 

انتهى المطاف بالسّياسيين والمثقفين ممن تحدّثوا عن إحياء المجتمع المدنيّ بالاعتقال والتّشتيت والتّخوين، خاصّة أنهم لم يبادروا للعمل بين المتضرّرين الحقيقيين من سياسات النّظام الاقتصاديّة، من أبناء الطّبقات الفقيرة والمتوسطة وأبناء الأرياف؛ واقتصرت نشاطهم على محاولة استقطاب بعض الأفراد من النّخب السّياسيّة والمثقفة.

 

في عام 2011 وصلت البلاد إلى حالة من الانقسام الحاد انفصلت فيها شرائحٌ واسعةٌ من فئاتها الشّعبية الّتي كانت تساند سلطة البعث أثناء استيلائها على السّلطة في السّتينيات من القرن الماضي وذلك لرفضها لأيّ عملٍ سياسيٍّ خارج فلكها، ومعادتها الواضحة لأيّ رأيٍ حرٍّ، كلّ ذلك حال دون حصول تغيّرٍ واضحٍ في التّركيبة المجتمعيّة الّتي كانت سائدة قبل استلام البعث للسلطة. إذ بقي الانتماء للمكونات حاضراً في وعي غالبية السّوريين وإن لم يكن علنياً.

 

من هنا يغدو من الطّبيعي أن يؤدّي أيّ تخلخلٍ في السّلطة إلى خلخلةٍ في تركيبة المكونات وعلاقتها مع بعضها البعض، فالسّلطة كانت ضامنةً تعايش المكونات بشروطها. وأيّ تهديدٍ للسلطة المتغوّلة في المجتمع وتسييره سيهدّد بالضرورة النّسيج المجتمعيّ.

 

بالتالي كان من الطّبيعي وربّما الحتمي أن يؤدّي الحراك الشّعبي في سوريا إلى ما يشبه الحرب الأهلية، وفي الحرب يمتلك النّظام الجيش والسّلاح والتّحالفات الإقليميّة والدّوليّة الدّاعمة سياسيّاً وعسكريّاً ومالياًّ، بالإضافة إلى حشدٍ واسعٍ من الموالين له والمتخوفين من انفلات زمام الأمور من السّلطة، وبالتالي تحرّر القبليات الطّائفيّة والقوميّة من عقالها مع غياب الهوية الوطنيّة السّوريّة الجامعة الّتي فشل النّظام في تشيكلها رغم حكمه للبلاد كلّ تلك السّنوات، وزاد التّخوف أنّ المعارضة كانت واضحةً في استقوائها باستحضار الانتماءات الثّانويّة في مواجهة النّظام.

 

 

إذاً الحرب الأهلية دون أيّ مواربةٍ هي نتيجةٌ حتميةٌ لانفلات أيّ صراعٍ في سوريا من زمام السّيطرة، ومع إتيان النّظام بتحالفاته الإقليميّة والدّوليّة استطاع التّغلب عسكرياًّ على معارضته المشتتة بل والمتصارعة أحياناً والمنفصلة عن أيّ تغطيةٍ سياسيّةٍ دوليّةٍ لها.

 

وعليه حصلنا بعد سنين من الحرب الدّائرة في سوريا على نظامٍ تمّ مصادرة قراره وسيادته لصالح الحلفاء الّذين جاء بهم، ومنفصلٍ عن شعبه الّذي لم يعدّ يهمه أمر عيشه بالمطلق في ظلّ استقوائه عليه بآلة القمع الّتي حقّقت له انتصاره العسكريّ، وحصلنا كذلك على معارضةٍ خارجيّةٍ منفصلةٍ عن الشّعب ومنكسرةٍ بعد أن رهنت أمرها لدولٍ لها مصالحها في سوريا دون رؤية مصلحة الشّعب السّوريّ. وبالتّالي فإن الشّعب خارج حسابات كلٍّ من النّظام والمعارضة على السّواء؛ فلا النّظام يأخذ شرعيته من الشّعب ولا المعارضة كذلك، ممّا أبعدهم عن التّوجّه إليه لكسب ثقته.

 

في ظلّ هذا الانفصال الّذي نشهده اليوم على السّاحة السّوريّة السّياسيّة حيث الأطراف السّياسيّة بعيدة عن الشّعب لم يبق للسوريين طريق للسير فيه من أجل تحقيق التّغيير المنشود وتحسين أوضاعهم، ولا برامج عملٍ واضحةٍ أمامهم يسيرون خلفها أو يشجعونها، بل كان جلّ همهم الخلاص من الحرب الدّائرة والّتي لا يملكون قرار إنهائها أيضاً أو التّدخل في مسارها.

 

من هنا؛ وإن خرجت بعض المطالب والحركات المنادية بتحسين الأوضاع المعيشيّة فقد اقتصرت على مناطق بعيّنها ولم ترق لمستوى العمل العامّ على مستوى البلاد، وكذلك لم تستطع تشكيل جسمٍ سياسيٍّ جديدٍ قادرٍ على النّمو في الشّروط الحالية والتّأثير في ساحة العمل السّياسيّ الفارغة حالياً.

 

الأمر الّذي أدّى إلى انتهاء تلك الحركات دون أثرٍ؛ هو عدم تمكنها من إقناع السّوريّين بقدرتها على إحداث تغييرٍ ما، دون إعادة شبح الحرب إلى الواجهة. وبالتالي لا يمكن دعوة النّاس إلى إعادة المغامرة مرّة أخرى، لمحاولة تغيير الواقع السّوريّ من دون تغييرٍ في المعطيات وبرامج واضحة الطّريق والهدف، قد تعيد إنتاج ذات الحالة السّابقة من الحرب والخراب، خاصّة في ظلّ الوضع الدّوليّ القائم والّذي ترسخ بعد سنوات الحرب.

 

لذلك من العادي جداً أن نرى حدثاً بأهمّيّة ما حصل في قضية رامي مخلوف من فضحٍ وتعريةٍ لسيرورة الاقتصاد السّوريّ ومدى فساده دون أن تخشى السّلطة من ردّة فعل ما من الشّارع نظراً لافتقاره لأيّ وسيلة عملٍ سياسيّةٍ أو جسمٍ سياسيٍّ وازنٍ يمكن أن يستغل الحدث.

 

لا يمكن تغيير علاقات السّوريّين ببعضهم البعض دون تغيير الواقع الّذي وضعهم قبالة بعضهم البعض، وبالتّالي فإنّ أيّ تغييرٍ لا يحمل برنامجه الاقتصاديّ الاجتماعيّ الّذي يقلب المعادلة كاملةً، لن يحمل أيّ جديدٍ، وطالما أنّ الشّارع لا زال يفقتد إلى ذلك الخطاب فلن يحصل التّغيير مهما كانت التّضحيات لأجله ثمينةً.

 

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard