info@suwar-magazine.org

حراك السّويداء والرّهانات الصّعبة

حراك السّويداء والرّهانات الصّعبة
Whatsapp
Facebook Share

 

ما يحدث في مدينة السّويداء من احتجاجاتٍ ومظاهراتٍ على خلفية الأوضاع المعيشيّة الصّعبة، وانهيار العملة السّوريّة، لا يمكن التكهن بما سيؤول إليه الحراك في المستقبل، إنّه كحلبة ملاكمةٍ بين خصمين غير متكافئين مع وجود جمهورٍ واسعٍ يتابع ومن حولهم الكثير من المقاولين والمراهنين السّياسيّين.

 

والمعروف عن لعبة الملاكمة أنّها تتطلّب السّرعة وخفّة الحركة، واللّياقة والطّاقة والتّحمل، والقوّة الذّهنيّة، ويجب أن تتعلّم الدّفاع والهجوم معاً، ولا يعتبر توفّر ما سبق ذكره كافياً للفوز بمباراةٍ واحدةٍ، فالملاكم يحتاج إلى رسم استراتيجيّةٍ لإسقاط خصمه أرضاً، وهذه الاستراتيجيات تعتمد على دراسة نقاط ضعف وقوّة الخصم، ومن ثمّ بناء استراتيجيّته، ولا يحدث إلا نادراً أن يسقط أحد الملاكمين من الجولة الأولى أو الثّانية، وهي تحتاج إلى توفّر ظروفٍ معيّنةٍ، ولكن الملاكم في الغالب ينتظر إلى الجولات الأخيرة، وقد يصل للجولة العاشرة من أجل إسقاط الخصم أرضاً بالضّربة القاضية، بعد أن يتمّ إنهاك قواه، وأحياناً قد لا يكون مضطرّاً لإسقاطه بالضّربة القاضية فيكفيه الفوز بفارق النّقاط، كذلك هي الحال عندما يتعلّق الأمر بتغيير سلطةٍ مستبدّةٍ كالنّظام السّوريّ.

 

يقول المثل الصّينيّ: إنّ توقيت الحرب أهم من الحرب، وتوقيت انطلاق المظاهرات في السّويداء كان مثاليّاً، فقد جاء بعد سنوات الصّراع الّتي أثقلت كاهل السّوريّين على جميع الأصعدة، وبعد جائحة كورونا (كوفيد١٩) الّتي اجتاحت العالم وما خلّفته من دمارٍ اقتصاديٍّ وتفكّكٍ سياسيٍّ، وقبيل تطبيق قانون قيصر الّذي تسبّب في فقدان اللّيرة السّوريّة ٧٠٪ من قيمتها الشّرائيّة، وانهارت أمام الدّولار وسط انغلاق أفق الحلّ القريب. كلّ هذه العوامل ساهمت في إكساب المظاهرات زخماً كبيراً مترافقاً مع مطالب اجتماعيّةٍ مرحليّةٍ متعلّقةٍ بالأوضاع الاجتماعيّة والاقتصاديّة الّتي تعيشها السّوريّات والسّوريّون.

 

ولكن سرعان ما تراجع هذا الزّخم عندما تمّت العودة إلى شعار الثّورة السّوريّة السّياسيّة، وهو ((إسقاط النّظام)) ممّا أدّى إلى تراجع المشاركة الشّعبيّة لأنّ السّياسة هي إحدى العوامل المفرّقة في الدّول الّتي تعيش حالة حربٍ. الحراك الذي بدأ في السّويداء كان أمام فرصةٍ مهمّةٍ جداً في توحيد التّيارات الثّلاثة العريضة على الصّعيد الاجتماعيّ، وهي (التّيار المؤيّد للنظام، والمعارض له، والتّيار الوسط) كان بالإمكان الإبقاء على استقلاليّة المظاهرات سياسياً، وردم الفجوة الاجتماعيّة، وانتظار الجولات الأخيرة لكسب الفوز.

 

اقرأ أيضاً:

 

الحرائق تلتهم محاصيل السويداء ومحميتها الطبيعية (الضمنة)

 

ففي سوريا اليوم تشير التّقديرات إلى أنّ أكثر من ٨٠٪ من السّوريّين والسّوريّات يعيشون تحت خطّ الفقر، أي أنّ غالبية الشّعب السّوريّ أولوياته تتعلّق بالأمان والحصول على مقومات العيش الكريم البسيطة، وهي تشكّل القاعدة الأساسيّة للهرم الاجتماعيّ الاقتصاديّ، في اليوم الأول؛ خاطبت مطالب الحراك في السّويداء معظم السّوريّين والسّوريّات الذين يعيشون تحت وطأة ظروفٍ معيشيّةٍ صعبةٍ على كامل الجغرافيا السّوريّة، وليس في السّويداء وحدها، ولكن سرعان من انقلب الهرم رأساً على عقبٍ، وأصبحت الشّعارات تخاطب وتمسّ شريحةً صغيرةً من أنصار التّغيير الاجتماعيّ السّياسيّ، وتقلّصت تلك الشّريحة لتشمل أنصار الثّورة فقط، ولأنه لا يوجد إطارٌ جامعٌ مانعٌ يحدّد ماهيّة هذا التّيار فيمكن القول إنّ كلّ من يندرج تحت لواء علم الثّورة، وهو غير معروف التّوجّه، فتجده علمانيّاً، وقوميّاً، ودينيّاً، وليبراليّاً، ويساريّاً، ويمينيّاً، له حواملٌ وتحالفاتٌ عدّةٌ، سواء مؤسّساتٍ سياسيّةٍ، أو عسكريّةٍ أو دينيّةٍ أو حتّى مدنيّةٍ.

 

محاولات إلباس الحراك في السّويداء لباس الثّورة بكلّ أخطائها من جمهور الثّورة في الدّاخل والخارج أفقد هذا الحراك المدنيّ اللاّ عنفي الّذي يتمّ العمل عليه منذ سنواتٍ من قبل المجتمع المدنيّ في السّويداء بريقه وجعله في خانة الاصطفافات السّياسيّة الضّيقة.

 

 فالخطاب الثّوريّ وبرنامجه السّياسيّ مع حوامله لم يعدّ يمثّل كلّ السّوريّين ولا جامعاً لهم وحتّى لأنصار الثّورة أنفسهم، فاليوم هو الجمهور الأضعف والأكثر تفكّكاً وضياعاً، وهو محمّلٌ بالكثير من الأخطاء الأمر الّذي جعله يتقلّص ويتقلّص، فهو فاسدٌ في مكانٍ ومرتكبٌ لانتهاكات حقوق الإنسان وجرائم الحرب في مكانٍ آخر، وهو إسلاميٌّ سُنّيٌّ بالمعنى السّياسيّ في مكانٍ آخر بسبب الاستيلاء عليه من تياراتٍ سياسيّةٍ محليّةٍ وإقليميّةٍ، فهو لم يعدّ ذلك الملاكم القويّ الّذي يمكن الرّهان عليه.

 

فقدان المظاهرات لاستقلاليتها السّياسيّة مبكراً أدّى إلى فقدان القاعدة الجماهيرية الواسعة والتأييد الشّعبيّ، فكان من الشّأن الحفاظ على المطالب الاجتماعيّة والاقتصاديّة أن تكسبه تأييداً أكثر بكثيرٍ ممّا هو عليه الآن، الانجراف إلى إحداث تغييراتٍ سياسيّةٍ كبيرةٍ بسرعةٍ أفقد المظاهرات فرصة الانتشار والتّوسع الأفقي داخل وخارج السّويداء، ويمكننا قياس ذلك من خلال عدد المظاهرات وحجمها سواءً في الدّاخل أو الخارج، فالسّوريّون أنهكتهم الحرب، وأنهكهم تشبّث البعض بأدوات، وخطاب التّغيير الّذي أثبتت التّجارب فشله، وأنهكتهم قراصنة السّياسة البارعون في أخد الكلّ وإعطاء اللاّ شيء.

 

للأسف في لعبة الملاكمة لا يمكن تغيير الاستراتيجيّة الّتي بدأت بها فإذا اخترت اتّباع استراتيجيّة الضّربة القاضية، فعليك أن تكون قويّاً جداً، وتعرف كيف، ومتى، وأين توجّه ضربتك القاضية، وإذا اخترت استراتيجيّة النّقاط، فعليك أن تجيد الدّفاع والهجوم إلى آخر جولةٍ.

 

مازال هناك وقتٌ للمجتمع المدنيّ في السّويداء بمؤسّساته المختلفة، وقياداته أن يتدارك ويفرض استقلاليته السّياسيّة، ويخرج من عباءة الخطاب الضّيّق الّذي يحاول البعض فرضه، فالدّيمقراطيّة وحقوق الإنسان، والحريات السّياسيّة والفرديّة والدّينيّة هي أوسع، وأشمل وأكثر استقطاباً.

 

وأخيراً، في لحظةٍ ما تشعر أنّ هناك تيارين قد التقيا دون أن تدرك كيف، فالسُنّيّة السّياسيّة والدّرزيّة السّياسيّة يوجد لها عاملٌ مشتركٌ قويٌّ وهو العروبة، وتشعر بانجرافٍ نحو إثبات وطنيّةٍ لا وجود لها، فسوريا ما تزال دولة ما قبل الوطنيّة في تكوينها، طموح شعبها الوصول إلى وطنٍ يضمّ الجميع، بموجب دستورٍ مُتّفقٍ عليه، وليس بموجب صكوك الوطنية والغفران، بنات وأبناء السّويداء في كلّ مكانٍ غير مدينين لأحدٍ بإثبات أيّ شيءٍ.

 

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard