انهيار اللّيرة السوريّة يَقلِب حياة السوريين ويصيب الاقتصاد بالشلل
ارتفاع أسعار الدّولار ملأ أدراج التُّجّار بأوراقٍ نقديّةٍ لا قيمة لها... وأفرغ جيوب النّاس
الصّعود الصّاروخيّ "للشوئسمو" ينغّص حياة السّوريّين.... ويُصيبها بالشّلل
الحديث عنه من الممنوعات بقراراتٍ ومراسيمٍ، ولكنّ تأثيره وسلطانه يطال كلّ التّفاصيل
يسرى يونس
"الشوئسمو" أو الدّولار (وهو مصطلحٌ متداولٌ لتجنب ذكر اسمه) يجثم على صدور السّوريّين وينغّص حياتهم لدرجة الجوع، وقرارات منع حتّى ذكر اسمه لم تجد نفعاً! فمع كلّ صباحٍ يتابع أصحاب الفعّاليّات الاقتصاديّة وعامّة النّاس أخبار سعر الدّولار كأول خبرٍ بعدما ناموا على آخر أخبار سعره الذي لا يتوقّف عن القفز بين ساعةٍ وأخرى، ورغم كلّ محاولات لجمه ظلّ الدّولار يقفز قفزاتٍ وصلت مداها عقب وضع قانون قيصر حيّز التّنفيذ حيث تجاوز سعره 3 آلاف ليرةٍ سوريّةٍ، أي أن سعره في أسبوعٍ تجاوز كلّ قفزاته خلال سنوات الحرب، تلك القفزات التي كانت تشكّل ضغطاً كبيراً على حياة السّوريّين، عندما كان تحت عتبة الألف ليرةٍ!
أصحاب محلاّت كثيرةٍ توقّفوا عن العمل وعمدوا إلى عرض محلاّتهم للاستثمار في ظاهرةٍ لم تحدث من قبل، لأنّ الاستثمار في أجار العقارات أصبح أكثر جدوىً كما حصل مع بعض أصحاب المحلاّت في منطقةٍ حيويّةٍ وعريقةٍ كسوق الحميديّة، وهنالك محلاّتٌ أغلقت أبوابها تماماً ريثما يهدأ الجنوح الزّئبقيّ لدولارٍ لا تتوفّر فيه الكثير من المعلومات عمّا يحصل له ومعه.
كلّ صباحٍ
تقول الدّكتورة في الإعلام راميا حداد من دمشق: إنّ أسعار الدّولار تشكّل صدمةً كبيرةً في كلّ صباحٍ، وترى أنّ هنالك شيئاً غير طبيعيٍّ في الموضوع، لأنّ الدّولار كان قبل شهرٍ من هذه الأيام بسعر 500 ليرةٍ سوريّةٍ، وكان يتحرّك بين50- 100 ليرةٍ بين الفينة والفينة، ولكنّ ما يحصل الآن لم تشهده ولم تسمعه من أحاديث أمها رغم أنها بلغت الخمسين عاماً.
تضيف د. حداد أنها وغيرها من السّوريّين يجب ألّا يكونوا معنيّين بأسعار الدّولار، ولكن عندما تتسوّق تكتشف أن سعر كيلو السّكّر ارتفع عن ليلة أمس أكثر من مئتي ليرةٍ، وعندما تسأل لماذا يقولون لها: الدّولار، لذا تقول: إنّ سيرة الدّولار تفرض علينا دون أن نسأل عنه، وتصف ما يحصل بالكابوس الذي لا يمكن تصديقه، وتعتقد أنهم سيصحون يوماً، ويكتشفون أنه كان حلماً مزعجاً وانتهى.
تعتقد حداد أن دوافع رفع أسعار الدّولار غير اقتصاديّةٍ وهي واضحةٌ للبسطاء بل هي سياسيّةٌ، وتستشهد بأموال السّوريّين في لبنان التي ضاعت عليهم، وتفصّل حداد في طريقة العيش لأسرة مثل أسرتها كانت تُصنّف ضمن الطّبقة المتوسطة، لكن مع الهبوط الكبير لليرة السّوريّة أصبحت تنحدر إلى الأسر الفقيرة، خاصّةً مع عائلة مثل عائلتها مؤلّفةٍ من خمسة أبناء يدرسون في الجامعات، لذا تعتمد بشكلٍ أساسيٍّ على المُؤْنَة لتأمين وجبات كلّ يومٍ، وتوقّفت كلّ المشاريع الأخرى، بما فيها شراء الألبسة.
وترى أنّ سياسة الحكومة المطلوبة لهذه المرحلة تختلف عن سابقاتها، إذ يجب عليها تقديم المساعدات الكبيرة للمشاريع الصّغيرة والمتناهية الصّغر، وليس إرهاقهم بالضّرائب والثّبوتيات ودفعهم للعمل في الظّلّ، ويجب استثمار كلّ ما يمكن استثماره كتدوير القمامة وتجنّب الهدر والحدّ من عادات الاستهلاك المبالغ فيها عند العائلات الأفضل حالاً.
قرارٌ خاطئٌ
كانت الكثير من الأسر السّوريّة تؤجّل شراء ما تحتاجه من سلعٍ يجدون أسعارها غير منطقيّةٍ ظنّاً منهم أن هذا الوضع لن يدوم، وأن هذه الأسعار غير منطقيّةٍ، ولكن يصابون في خيبةٍ كبيرةٍ عندما يسمعون بالأسعار الجديدة بعد الصّعود الكبير في أسعار السّلع التي تركوها في الأمس على نيّة أن ينخفض سعرها.
يقول الثّلاثينيّ هادي محمد، الذي يعمل أعمالاً حرّةً بعدما تسرّح من الجيش، إنه يندم على كلّ سلعةٍ لم يشترها قبل يوم وكان يرى سعرها غير مُنصفٍ، ويضيف أنه يستعدّ للزواج وهمّه الآن البحث عن الأرخص بغض النّظر عن الجودة، وأن أسعار الدّولار المجنونة حوّلت كلّ الهمّ إلى تأمين الموادّ الغذائيّة الأساسيّة فقط، وأصبحت أيّ مادّةٍ جانبيّةٍ نوعاً من الرّفاهية كالفاكهة مثلاً، حتّى أن استهلاك موادّ كالمتة والدّخان مثلاً أصبح مشكلةً حقيقيّةً تستهلك راتب الموظف، وبنظرةٍ تشاؤميّةٍ يرى محمد أنّه لا يوجد أيّ تحسّنٍ بالأفق، وأنّ الحكومة غير قادرةٍ على ضبط أسعار منتجاتها أساساً، ويستشهد على ذلك بسعر علبة دخان الحمراء التي تبيعها الدّولة بسعر 250 ليرةٍ، بينما يبيعها التّجار بنحو 800 ليرةٍ، وبعض أنواع الدّخان الأجنبيّ من النّوع الوسط قاربت الألفي ليرةٍ.
ويؤكّد أنّه كان ينوي شراء "طقمٍ جلوسٍ" ارتفع سعره بين ليلة وأخرى من 800 ألف ليرةٍ إلى مليون و400 ألف ليرةٍ!
ساميا حسن موظفةٌ في القطاع العامّ على الفئة الرّابعة، وأمٌّ لستة أولادٍ لا تتابع أخبار الدّولار مباشرةً كما تقول، لكنها لا تتوقّف عن إبداء صدمتها عقب كلّ استفسارٍ عن سعر هذه السّلعة أو تلك ممّا تحتاجه بشكلٍ يوميٍّ كموادّ التّنظيف، والزّيوت والسّمون وغيرها من الموادّ الغذائيّة، فتكتشف أن الدّولار حلّق مجدّداً بعدما سمعت أنه انخفض في الأمس!
وكتعبيرٍ عن ضيق الحال اعتمد البعض على التّعبير بأسلوبٍ ساخرٍ، كنشر أحدهم "البوست" التّالي: "يلي عندو نحاس..يلي عندو ألمينوم..يلي عندو كلية للبيع... سعر الكلية اليوم 30 مليون ليرة بس"!
الإغلاق أفضل
كما يعاني المستهلكون من صباحات الدّولار المتذبذة، كذلك الحال مع أصحاب الفعّاليّات التّجاريّة، يقول رامي أحمد صاحب محلّ أحذيةٍ في محافظة اللاذقية مازحاً: إنه مع كلّ صباحٍ يتعوّذ من الشّيطان قبل أن يتابع أخبار الدّولار، وأنهم يحاولون تأخير فتح محلاّتهم قدر الإمكان ريثما يتأكّدون من سعر الصّرف، ومن حساب خسائرهم، لأنّهم لا يستطيعون رفع الأسعار بشكلٍ فوريٍّ وتبعاً للسعر اليوميّ للدولار، وأنّ الأمر يتطلّب منهم في منطقةٍ منخفضة القدرة الشّرائيّة كمنطقة عمله إلى التّفصيل في الشّرح للزبائن عن سعر كلّ قطعةٍ، كيف أصبحت جملتها؟ وما هي خسائرهم؟ ويكون جُلّ الهمّ الحصول على رأس مال القطعة، وأحياناً أقلّ من هذا لكي يتمكّن الزّبون من شرائها، وأنّ الكثير من المحلاّت أحجمت عن تجديد بضاعتها لأنّ الأسعار الجديدة لا زبائن لها، لذا يبيعون دون تجديد البضاعة!
بينما يفتح ياسر أحمد، صاحب محلّ ألبسةٍ في منطقة مخالفاتٍ، درج مكتبه ليُشير إلى الكم الكبير من الأوراق النّقديّة الموجود في الدّرج، ويصفها بعديمة النّفع، بعد التّدهور الكبير في قيمة اللّيرة، فأغلب أصحاب رؤوس الأموال الكبيرة لا ينامون قبل أن يقلبوا جنيّ يومهم من اللّيرة إلى الدّولار، وقد يكون هذا من عوامل زيادة الطّلب على الدّولار وارتفاع سعره.
ويؤكّد أحمد أنه لا يجدّد محتويات محلّه التي تتراجع يوميّاً، مقابل ارتفاع مصاريف المحلّ، فالمحلّ الذي كان مصروفه 10 آلاف ليرةٍ أصبح أكثر من 20 ألف ليرةٍ!
وأنهم كانوا يحاولون جذب الزّبائن بتقديم هدايًا خفيفةٍ عقب كلّ عمليّة بيعٍ، لكنّهم الآن يحاسبونهم حتّى على سعر الكيس لأنه أصبح مُكَلِّفاً.
وتحدّث أصحاب بعض المحلاّت عن عجزهم في وضع التّسعيرة على أسعار السّلع المعروضة في محلاّتهم، الأمر الذي يعرّضهم للمساءلة من قبل وزارة التّجارة الدّاخليّة وحماية المستهلك، لأن سعر المنتج الوطنيّ يرتفع بذات نسبة المستورد كما قال بعضهم.
المشكلة الأكبر
تتسبّب أسعار الدّولار بما يُشبه الشّلل في حياة السّوريّين، ومع ذلك الموضوع الأخطر الذي يخشونه هو نقص الموادّ، إضافةً لارتفاع أسعارها، كما يحصل في موضوع إنتاج الدّواء، حيث توقّفت الكثير من المعامل عن العمل بسبب ارتفاع سعر الدّولار وعدم تعويضهم عن فرق السّعر، وعدم السّماح لهم برفع الأسعار، وأصبح الحصول على الأدوية الأكثر طلباً كأدوية الضّغط والسّكّريّ والغدة...الخ معاناةً حقيقيّةً.
الإنتاج ثمّ الإنتاج
النّاشط الاجتماعيّ ياسين إسحاق يقول عن صباحات السّوريّين مع الدّولار: إنّ القوانين تمنع الحديث بالدّولار، ولكن الحكومة تُسعّر منتجاتها على أساسه، بل إن مؤسّسة التّجارة الدّاخليّة تأخذ 15% من المستوردات للقطاع الخاصّ، علماً أنها لا تموّل سوى ربع مستوردات التُّجّار والباقي يشترونه من السّوق السّوداء.
يضيف إسحاق إنّ قيمة الدّولار في سوريا مرتبطةٌ بقدرتنا على الإنتاج وذلك لوقف نزيف العملة الصّعبة، ويرى أن هذا ممكنٌ عن طريق زيادة مساحات الأراضي المزروعة بالأعلاف مثلاً عوضاً عن استيرادها، ويضيف متّهماً "إنّ هذا سيُضرّ بمستوردي الأعلاف"، ويرى أنّ هذا مثالٌ من عشرات الأمثلة على التّوجّه نحو الاستيراد دون رعاية الإنتاج.
يضيف المهتمّ بالشّأن الاقتصاديّ رامي علي، وهو مديرٌ في منشأةٍ غذائيّةٍ في القطاع الخاصّ، أنّ القاعدة في الاقتصاد هو تأمين الدّولة للبنية التّحتيّة للإنتاج، وإصدار التّشريعات التي تسهّل عمل المنتجين فمساحة منطقةٍ كالغاب في سورية تساوي مساحة دولةٍ كهولندا، وتمتاز أراضيها بخصوبةٍ تفوق أراضي هولندا لكنها غير مستثمرة بالشّكل الذي يؤمّن الإنتاج المحليّ، ويرى أن هوية الاقتصاد للاستغناء عن سطوة الدّولار يجب أن تكون إنتاجيّةً، وأن تكون الضّرائب على المنتجين أقلّ الضّرائب، بينما ضرائب الرّسوم الثّابتة هي الأعلى، عندها قد تتحسّن القدرة الشّرائيّة للناس، لأن طريقة إدارة الدّولار غير شفّافةٍ، ولا يتوفّر الكثير من المعلومات حول واقع العملة الصّعبة في البلد.
دعمٌ معنويٌّ
تخلّل الفترة السّابقة ترويج الكثير من الأخبار الإيجابيّة بقصد تقديم الدّعم المعنويّ بغية تحسّن وضع اللّيرة، وعن إجراءات يتمّ اتّخاذها ستحسّن سعر الصّرف ويمكن اللّيرة من العودة إلى قوّتها، وقد دعا رئيس غرفة صناعة دمشق وسيم القطان على حسابه الرّسميّ على فيسبوك: "ليبادر الجميع إلى انتزاع حالة الهلع والخوف والسّيطرة على العامل النّفسيّ الذي يبدو من أخطر العوامل المساعدة على تأزيم الموقف وإضعاف اللّيرة وبالتّالي الاقتصاد عموماً" وربّما من الحكمة في هذا الظّرف العصيب ونتائج الحصار ألاّ نترك عواطفنا السّلبيّة والجنوح نحو الارتباك".
ولكن كان استمرار ارتفاع الأسعار يأتي على كلّ هذه المبادرات لتبقى السّاحة مفتوحةً أمام مزيدٍ من السّخريّة من الحالة المزريّة التي وصلتها النّاس مع تهاوي أسعار اللّيرة كالقول:
"إنّه لا أحد يستطيع تكسير رأس الدّولار وتثبيت سعر الصّرف إلا مبادرة ليرتنا عزتنا.. والسّندويشة بليرة!"
وفي بوستٍ آخر:"المغضوب 2200 في الرّقة وما بيشترو، وفي حلب 2350 والسّمسار بقلك ببيعك ب 2900 وبشتري منك ب 2300".
من ربط حياتنا بالدّولار؟
أين هو قانون حماية العملة الوطنيّة في مواجهة المضاربين والمتسببين بانهيار العملة؟ سؤالٌ يتكرّر عشرات المرّات من السّوريّين.
الخبير التّنمويّ أكرم عفيف يحمّل الحكومات المتلاحقة مسؤوليّة ربط الدّولار بحياة السّوريّين، وتحويل كلّ شيءٍ إلى مستوردٍ، ويرى أن المستوردات الكثيرة مدعاة للقلق، وأنّ الطّعام السّوريّ تعرّض للتدمير الممنهج، فإنتاج المداجن يعتمد على الموادّ العلفيّة المستوردة ويصبح من الطّبيعيّ أن ترتفع أسعار منتجاتها مع كلّ ارتفاعٍ لأسعار الدّولار، وهنا تصبح مشكلة المنتج، أنّ المستهلك لن يتمكّن من شراء إنتاجه بسبب ارتفاع أسعارها، وهنالك حلولٌ لهذه المشاكل، كالعمل على إنتاج المكوّن العلفيّ محليّاً.
ويتساءل عفيف ما الذي يمنع من الاتّجاه نحو الإنتاج المحليّ، وما الذي يربطنا بالّدولار ويحوّلنا إلى شحادين؟ ويسخر عفيف من فكرة الاعتماد على سلّةٍ غذائيّةٍ لشعبٍ مثل الشّعب السّوريّ يوجد لديهم موسمٌ جديدٌ كلّ 10 أيامٍ، ويعتقد أنّ طريقة تسويق هذه المحاصيل تحلّ الكثير من المشاكل الاقتصاديّة في البلاد، لتبقى المساعدات لدولٍ أو شعوبٍ فقيرةٍ كالشّعوب الإفريقيّة مثلاً، وليس لدولةٍ غنيّةٍ وشعبٍ نشيطٍ كالسّوريّين.
ظاهرةٌ مرضيّةٌ
ويعبّر آخرون عن خطورة ربط الأسعار المحليّة بالدّولار، ويصفونها بالظّاهرة غير الصّحيحة.
يرى عضو غرفة حماية المستهلك د. أدهم شقير أنّ الأمر يصل إلى دولرة اللّيرة، وهذه ظاهرةٌ مرضيّةٌ والتّخلص منها يحتاج إلى وقتٍ طويلٍ وجهدٍ أكبر، وإلى معرفة من يتلاعب بالأسواق والأسعار، ومن يستطيع التّأثير على الأسعار في السّوق، وأنه كطبيب أسنانٍ يشعر بهذه المسألة وبصعوبتها عندما يحتاج إلى شراء موادٍّ جديدةٍ لزوم عيادته، ويجد أنّ كلّ التّجّار يسعّرون على سعر السّوق السّوداء، رغم أنه لا يعرف فيما إذا تمّ شراؤها أو دخلت تهريباً أم تمّ شراؤها بدولارٍ نظاميٍّ، وهنا كانت المشكلة أنّ الأسعار تتغيّر من ساعةٍ إلى أخرى ومن يومٍ إلى آخر.
يضيف د. شقير أن المشكلة الأكبر عندما تتعلّق الأسعار بغذاء النّاس، حيث أن تغيّرات الأسعار لا تتوافق مع أيّ منطقٍ أو قانونٍ طبيعيٍّ لتغيّر الأسعار، وهذا يدعى فوضىً، ويرى أنّ هذا ناتجٌ عن ضعف التّحكّم بالأسواق من قبل المؤسّسات الرّقابيّة في البلد، وكذلك لتمرّد بعض التّجّار على التّعليمات الحكوميّة، وعدم التّسعير بالدّولار وتغيير السّعر من لحظةٍ لأخرى.
وروى د. شقير ما سمعه من بائع فلافلٍ أنه اشترى ربطة الخبز السّياحيّة في يوم 8 حزيران بفارق 100 ليرةٍ زيادةٍ في الصّباح، و200 ليرةٍ بعد الظّهر أي ارتفع سعرها خلال بضع ساعاتٍ 300 ليرةٍ سوريّةٍ! ويرى أن هذه الفوضى التي لا تخاف من القوانين أو العقوبات هي مؤشرٌ على عدم وجود ضوابط وآلياتٍ صحيحةٍ للتحكّم بالأسعار، ويقول: إنّنا أمام مسألةٍ أدّت إلى فقر النّاس وإلى فجوةٍ بين دخلهم الذي يحصلون عليه باللّيرة السّوريّة، وبين وضع التّجّار ومقدمي السّلع والخدمات الذين يسعّرون خدماتهم على سعر السّوق السّوداء.
ويدعو د. شقير إلى اتّخاذ إجراءاتٍ سريعةٍ تُعيد الثّقة بالمؤسّسات الرّقابيّة لأن نسبة الفقر ازدادت وانخفضت القدرة الشّرائيّة للناس، إضافةً لفقدان بعض السّلع الأساسيّة للحياة مثل الزّيوت والسّمّون والكثير من محلاّت بيع المفرّق أغلقت لعدم استقرار الأسعار ولأنهم يدّعون الخسارة.
وينهي د. شقير حديثه بالتّساؤل عمّن يتحكّم بسعر الصّرف ومن يطلق الإشاعات؟ ومن يقاوم هذه الإشاعات؟ وكيف نعيد الثّقة إلى الإعلام وإلى الاقتصاد وكيف تتعاون الوزارات المختلفة كفريقٍ واحدٍ مع الإعلام لمحاربة الإشاعات والمعتدين على قوت النّاس؟
في أحدث تصريحٍ لوزير التّجارة الدّاخليّة وحماية المستهلك طلال البرازي خلال إعداد هذا التّحقيق وعد بأن يتحسّن سعر الصّرف ويستقرّ قريباً، وذلك خلال اجتماعه مع تُجّار دمشق، الذي عُقد لدراسة واقع الأسواق التّجاريّة وضمان انسياب السّلع واستقرار الأسعار كما ذكرت غُرفة التّجارة.
- - - - - - - -
على وقع انهيار اللّيرة السّوريّة.. غلاءٌ وسلعٌ مفقودةٌ وأجورٌ مُتدنّيةٌ
هاديا منصور
اضطرّ أبو سامر من ريف إدلب لإغلاق محلّه لبيع اللّحوم بعد أن غدا الإقبال نادراً على شرائها، بعد الارتفاع الجنونيّ في أسعارها بالتّزامن مع الارتفاع غير المسبوق في قيمة صرف الدّولار، وهو ما أدّى لتوقّفه عن العمل ريثما تستقرّ أمور الصّرف المتأرجحة بين هبوطٍ وصعودٍ.
وضعٌ مأساويٌّ جديدٌ تعيشه سوريا، فاللّيرة السّوريّة في أدنى مستوياتها، والغلاء يطال أبسط مقومات المعيشة، وراح ينتشر على مواقع التّواصل الاجتماعيّ فيديوهاتٍ لرجالٍ يشكون الحال التي وصلت إليه أحوال النّاس، يبكون رغيف الخبز، وتوقّفَ أرزاقهم، لا تقتصر هذه الحالة على منطقةٍ معيّنةٍ دون أخرى، فالحالة تَعُمّ البلاد اعتباراً من مناطق سيطرة النّظام إلى المناطق التي تسيطر عليها المعارضة شمال سوريا، وصولاً إلى مناطق الإدارة الذّاتيّة شمال شرق سوريا.
يرى أبو سامر أنّ إغلاق محلّه سيكون أقلّ خسارةً من فتحه ويقول: " اللّحوم تكون معرضةً لأن تفسد إذا لم يتمّ بيعها بيومٍ أو يومين وخاصّة مع ارتفاع درجات الحرارة، ومع توقّف الحركة الشّرائيّة لا يمكنني الاستمرار وإلا سأخسر مبالغ كبيرٍ بدلاً من أن أربح".
ليس أبو سامر وحده من عمد إلى إغلاق محلّه بعد تدهور القيمة الشّرائيّة في إدلب وريفها بفعل ارتفاع الدّولار، وإنّما عمدت محلّاتٌ عديدةٌ للإغلاق بانتظارك ما ستؤول إليه الأمور.
يَعْزُو التّاجر فوزي دياب إغلاق محلّه التّجاريّ لارتفاع الدّولار ويعتبر أن ذلك سيكون أقلّ ضرراً بالنّسبة له من خسارته ثمن البضائع الموجودة لديه في المستودعات، لأنّه سيبيع اليوم بسعرٍ ويشتري غداً بسعرٍ أعلى وهو ما سيعرّضه لخسارةٍ كبيرةٍ.
وقد وصل سعر صرف اللّيرة السّوريّة أمام الدّولار شمال البلاد إلى ٣٥٠٠ ليرةٍ سوريّةٍ مقابل الدّولار الواحد حتّى قبل تطبيق قانون قيصر السّاري حالياً منذ ١٧ من الشّهر الجاري، وشهدت الأسواق السّوريّة ارتفاعاً هائلاً في أسعار السّلع كافّةً ليؤدي ذلك إلى توقّف الحركة في الأسواق. فالصّيدليات رفعت سعر الأدوية بشكلٍ كبيرٍ تماشياً مع ارتفاع الدّولار قبل أن تُغلق أبوابها بسبب فقدان عددٍ كبيرٍ من الأدوية وخاصّة الهامّة منها، كأدوية الضّغط والسّكّر والرّبو والسّرطان، وغيرها من الأمراض المزمنة مع استمرار انهيار اللّيرة السّوريّة.
لا تعلم خديجة الحسن الخمسينيّة، والتي تُعاني من مرض السّكّريّ والضّغط كيف لها أن تأمّن أدوية الضّغط والسّكّريّ بعد فقدانها من الصّيدليات وتشكو قائلةً: "غدوت أتنقّل بين صيدلياتٍ عدّةٍ وأقطع مسافاتٍ بعيدةٍ بحثاً عن أدويتي، وإذا وفِقْتُ ووجدتها في إحدى الصّيدليات توجّب عليّ أن أدفع عشرة أضعاف ثمنها".
من جهتهم يشكو العمال المياومة في مناطق عدّةٍ من ريف إدلب تدني أجورهم وتقاضيهم أتعابهم باللّيرة السّوريّة مع الارتفاع الجنونيّ في سعر صرف الدّولار الأمريكيّ، والذي ارتفعت معه أسعار مختلف السّلع مازاد وضعهم المعيشيّ سوءاً يوماً بعد يوم.
غالباً ما يفكّر الشّابّ صهيب العلي كيف لأجرته التي لا تتجاوز ٣٠٠٠ ليرةٍ سوريّةٍ يوميّاً، أي ما يعادل دولاراً واحداً، والتي يتقاضاها مقابل عمله في البناء، أن تسدّ نفقات أهله النّازحين في مخيمات دير حسان الحدوديّة شمال إدلب، وخاصّة بعد الارتفاع الكبير في الأسعار مؤخراً.
يقول صهيب: " أكثر ما يؤلمني هو أن ارتفاع الدّولار وارتفاع الأسعار لا يقابله ارتفاعٌ في الأجور، فكيف لنا نحن العمال أن نتدبّر أمورنا بأجرةٍ لا تكاد تكفي فقط لشراء الخبز وبعض الخضار ". مشيراً إلى أن سعر ربطة الخبز وصل مؤخراً إلى ١٠٠٠ ليرةٍ سوريّةٍ، وكلّ عائلةٍ تحتاج وسطيّاً إلى ربطتين من الخبز يوميّاً، عدا عن تأمين الوقود والمياه ومستلزمات النّظافة وغيرها من حوائج الاستعمال اليوميّ.
وفي السّياق يعمل حيان صطيف بخسارة يوميّة لا تقلّ عن ٥٠٠٠ ليرةٍ سوريّةٍ خلال بيعه للمشروبات الغازيّة، التي يشتريها بالدّولار ويبيعها باللّيرة السّوريّة، حيث يقول: " يستغرق بيعي للحمولة حوالي الأسبوع، وفي هذه الفترة يطرأ ارتفاعٌ جديدٌ على سعر صرف الدّولار الأمريكيّ، فيكون ما ربحته خلال هذه الفترة قد ذهب خسارة فروقات التّصريف " ولذا يستعدّ حيان لتصفية بضائعه لأنّ المهنة غدت "مصدر خسارةٍ أكثر منها للربح " وفق تعبيره.
يبدو أمر الغلاء مأساويّاً بالنسبة للعمال الذين يتقاضون أجورهم باللّيرة السّوريّة، التي انخفضت قيمتها مؤخراً بشكلٍ كبيرٍ، فكيف الحال بالنّسبة لشريحةٍ واسعةٍ من المدنيّين العاطلين عن العمل ممّن لا يجدون من يهتم بهم أو يقدّم لهم أيّ مساعداتٍ علماً أنّهم المعيلون لأسرٍ كبيرةٍ ومعظمهم نازحون.
نهلة الشّيب نازحةٌ تقيم في مخيمات أطمة، وهي المُعيلة الوحيدة لأطفالها الخمس بعد وفاة زوجها بالقصف على بلدتها حيش أواخر ٢٠١٨ ، تعيش الشّيب مع أولادها على المساعدات الإغاثيّة، فهي لا تملك أيّ مهنةٍ أو خبرةٍ أو شهادةٍ تؤهلها للعمل، وارتفاع الأسعار زاد من معاناتها ، تقول: " لم أعد أستطيع حتّى شراء الخبز لأولادي ، أحياناً أحصل على حصةٍ من الخبز من المنظّمات ولكنها ليست ثابتةً وغالباً ما اضطرّ لشرائه " وتشير إلى أنّها تلجأ أحياناً للعمل الشّاق في الحصاد والأراضي الزّراعيّة بأجرةٍ زهيدةٍ في سبيل تأمين الخبز لأبنائها.
ثمّة علاقةٌ مضطربةٌ بين خطي الأسعار والأجور والفرق بينهما يبدو كخندقٍ يقع فيه الكثيرين مرغمين لعدم قدرتهم على الموازنة بين الاثنين، فقد مسّ ارتفاع الأسعار جميع فئات المجتمع، وإن كان العمال والعاطلين عن العمل الأكثر تأثّراً، وهو ما دفع الكثيرين للتركيز فقط على الاحتياجات الأساسيّة والتي لا يمكن حتّى تلبية بعضها رغم كلّ المحاولات.
ويؤكّد فريق منسقو استجابة سوريا، بأن نسبة الفقر في الشّمال السّوريّ الخاضع لسيطرة المعارضة المسلّحة وصل إلى 80% بالمئة، وأغلب العمال في المناطق الشّماليّة لا يتجاوز دخلهم اليوميّ ٥٠٠٠ ليرةٍ سوريّةٍ، وهي غير كافيةٍ لسدّ احتياجات العائلة اليوميّة والتي تحتاج إلى ٢٠ ألف ليرةٍ سوريّةٍ وسطيّاً في ظلّ الغلاء الكبير الحاصل.
وعن أسباب تدهور انهيار قيمة اللّيرة السّوريّة الأخير يرى محلّلون أنّها تعود للسياسات النّقدية للمصرف المركزيّ، التي أثبتت فشلها على مدار سنواتٍ، مثل إفراغ خزينة الدّولة لتمويل حرب النّظام على الشّعب، وعدم وجود بدائل وطنيّةٍ لتأمين موارد ماليّة لرفد خزينة الدّولة، وهو ما أصابها بالعجز عن تأمين النّقد الأجنبيّ المطلوب لعمليّات التّجارة الخارجيّة والتّمويلات المصرفيّة، إضافةً لانتشار الفساد والنّهب والسّرقات في المؤسّسات الحكوميّة، وبلوغه أعلى المستويات ضمن مؤشّرات الفساد العالميّ، وهو ما يُعدّ من الأسباب غير المباشرة لفقدان الثّقة باللّيرة السّوريّة، وتهريب الطّبقة الفاسدة المقرّبة من النّظام أموالها إلى الخارج خوفاً من فرض مزيدٍ من الإتاوات عليها لتمويل الحرب.
في حين عزا خبراء آخرون انخفاض سعر صرف اللّيرة إلى قِلّة النّاتج المحليّ، إضافةً لأحداث لبنان والعقوبات الاقتصاديّة على النّظام السّوريّ.
ما دفع برنامج الأغذية العالميّ، التّابع للأمم المتّحدة، إلى قرع ناقوس الخطر بسبب الزّيادة السّريعة في انعدام الأمن الغذائيّ في سوريا، حيث يعاني 9.3 مليون شخصٍ من انعدام الأمن الغذائيّ، وهو ما يمثّل زيادةً قدرها 1.4 مليون شخصٍ في ستة أشهرٍ فقط.
قال المتحدّث باسم الأمم المتّحدة ستيفان دوجاريك خلال المؤتمر الصّحفيّ اليوميّ: "في الأسابيع الأخيرة، بدأ تأثير تدهور الاقتصاد والتّقلّب الشّديد في سعر الصّرف غير الرّسميّ في الظّهور على العائلات التي تكافح بالفعل للتعامل مع تأثير تسع سنواتٍ من الأزمة".
وكأحد الحلول التي لجأت إليها مناطق المعارضة السّوريّة ممثّلةً بالمجالس المحليّة وحكومتي "الإنقاذ" التّابعة لجبهة النّصرة "والمؤقّتة" التّابعة للائتلاف السّوريّ المعارض، تمّ طرح فكرة استبدال اللّيرة السّوريّة بالتّركيّة في جميع المعاملات التّجاريّة، ورغم أن فكرة استبدال العملة السّوريّة بالتّركيّة في مناطق سيطرة المعارضة ليست بالجديدة، وكانت قد طُرحت في مناسباتٍ سابقةٍ بهدف قطع أيّ صلةٍ مع النّظام السّوريّ والدّولة السّوريّة، لكنها لم تُفعّل بشكلٍ واسعٍ كما اليوم.
وعلى الرّغم من اعتماد اللّيرة التّركيّة في التّعاملات اليوميّة لا زالت الأسعار تتأرجح وفقاً لليرة السّوريّة ولا يوجد أسعارٌ مثبّتةٌ، كما أنّ أجور العمال لم ترقَ بعد للغلاء الحاصل ولم يتمّ تحسين الأجور بأيّ قرارٍ من السّلطات الحاكمة ليبقى الفقراء الضّحية الكبرى لما آلت إليه أمور تدهور قيمة اللّيرة السّوريّة الأخير.