مظاهرات السّويداء الجديدة.. ما لها وما عليها
شرائحٌ كبيرةٌ لم تعد ترضى بالوضع القائم، تراكمٌ لفقد الثّقة بالسّلطة وحلولها وسياساتها، جيلٌ شابٌّ أنهى دراسته ليجد أنه لا مستقبل أمامه يمكِّنه من أبسط سبل العيش، كلّ ذلك راكم الغضب، والنّقمة على السّلطة الحاكمة؛ التي ما لبثت تزيد من سياساتها في الإفقار وتمويل الحرب، والابتعاد عن مصلحة الشّريحة الكبرى من النّاس، وعدم إيلاء أيّ اهتمامٍ بمعيشتها، إلى أن بات الوضع مهيّأً للانفجار من جديدٍ، عبَّر عنه عشرات المتظاهرين قبل أشهرٍ في السّويداء بحملة "بدنا نعيش" التي غابت عن المشهد بضعة شهورٍ، ومن ثمّ عادت بسقفٍ أعلى تحت شعار "إسقاط النّظام". فهل ذلك تطورٌ طبيعيٌّ في مسار حركةٍ باتت أكثر نضجاً، وأكثر تجذراً وانتشاراً لترفع من سقف مطالبها، أم أنّ الحماس هو ما غلب عليها.
كانت حملة "بدنا نعيش" رغم عيوبها الكثيرة، وغياب التّنظيم فيها، وكذلك غياب أيّ برنامجٍ واضحٍ تحمله، كانت قريبةً ممّا يجول في صدور أهالي السّويداء، فهي حركةٌ تطالب بما يريدونه من تحسين الوضع المعيشيّ وتوزيعٍ عادلٍ للثروات واسترداد الأموال من النّاهبين الكبار ومحاسبتهم، وكأنّها تضغط بما يريدونه في حياتهم اليوميّة دون أن تضعهم في موقع الخطر، أو الصّدام مع السّلطة. لكنّ تجدّد المظاهرات بعد أشهرٍ تحت شعار "إسقاط النّظام"، وإن كان ذلك يعبِّر عن فقد الثّقة بالإصلاح، ويعبِّر عن رغبة الكثيرين بذهاب النّظام، غير أن وضع السّويداء في موقع مواجهةٍ دون التّنبه إلى مدى استعدادها له من ناحيةٍ، وإلى مدى قدرتها على دفع الثّمن لأجله أيضاً.
في البداية سارت المظاهرات لأيامٍ عدّةٍ متتاليةً في شوارع وأسواق المدينة وسط تقبّلٍ من أصحاب المحلاّت والمارّة لها، إذ أنها جاءت مع تدهورٍ كبيرٍ بسعر صرف اللّيرة السّوريّة، وانقطاع الدّواء، وارتفاعٍ جنونيٍّ في الأسعار، أشعر الجميع بأنّ السّلطة تخلّت عن مهامها في إدارة البلاد، وإنقاذ مواطنيها من العوز، ولم يعد يهمّها سوى البقاء ولو على حسابهم، لكن ذلك لم يكن يعني أن من راقه الأمر مستعدٌّ للخوض فيه ودفع تكاليف نتائجه، خاصّةً مع عدم وجود طريقٍ واضحٍ ينتهي بواقعٍ أفضل.
إضافةً إلى إنّ المظاهرات حملت شعارات وهتافات الحراك السّابق (عام 2011)، وهي التي غلبت عليها الشّعارات السّياسيّة فقط أو المهاجمة للنظام والشّاتمة له أحياناً، بل وتمّ رفع راية الحراك السّابق في إحدى المظاهرات، الأمر الذي أشعر النّاس باحتمالية تكرار السّيناريو ذاته الذي لم يثمر خيراً في البلاد أكثر ممّا أنتج من دمارٍ، خاصّةً وأنّ الغالبية باتت ترى أن تلك شعارات المعارضة الخارجيّة التي تحارب النّظام على السّلطة وليس من أجل الشّعب. وعليه فإن كانت غالبية سكّان المحافظة لا تريد النّظام فهي لا تريد دفع فاتورةٍ مجانيّةٍ أو التّضييق عليها من قبل النّظام دون نتيجةٍ، خاصّةً وأنّهم باتوا على قناعةٍ بأن مصير النّظام أصبح شأناً دوليّاً.
اقرأ أيضاً:
حراك السّويداء والرّهانات الصّعبة
نتيجة لما سبق غاب عن المظاهرات البرنامج والخطاب العقلانيّ الواضح، والبعد الاجتماعيّ والاقتصاديّ؛ وهو الحامل الأساسيّ الذي كان يمكن أن يزيد من تجذّر الحركة ،واتّساع صفوفها وكذلك اتّساع تقبلها من قبل الحاضنة الشّعبيّة، ولن يدفع بالغالبية للتردّد والخوف من المجهول، ولن يدفع كذلك الفئة الموالية الضّيّقة التي ما زالت حول النّظام إلى زيادة التّمسك به على الرّغم من تردي وضعها المعيشيّ.
حاصرت المظاهرات نفسها بنفسها، واستعجلت ذلك الحصار في أيامٍ قليلةٍ، واقتصر عملها على التّظاهر دون أن نرى عملاً موازياً له، حتّى انحسرت أعدادها إلى أقلّ من مئةٍ في اليوم الأخير الذي تهجّمت فيه القوى الأمنيّة عليهم بعد أن كان عددهم بالمئات، ممّا سهَّل على القوى الأمنيّة فضّ المظاهرة بعد أن عزلت نفسها عن المحيط.
في المقابل؛ قد يرى البعض أنّ الشّعارات السّياسيّة جاءت نتيجة فقد النّاس لثقتها بالإصلاح، ولمعرفتها المسبقة بعجز النّظام عنه إن كانت لديه الرّغبة فيه، وقد طرح أحدهم متهكّماً "وهل تريدون للسويداء أن تطالب بإسقاط المحافظ مثلاً" لكن ذلك الكلام أول ما يعنيه هو قلّة الخبرة السّياسيّة، فالمشكلة لم تكن في جوهر رفض النّظام من قبل المتظاهرين بل في اقتصارهم على المطالب السّياسيّة دون ربطها بالمطلب الاجتماعيّ والاقتصاديّ، وكذلك في طريقة الطّرح التي لم تسعَ للحشد، ولجمع موالين حولها بل قامت بالهجوم وبسقفٍ عالٍ، وكأنّ المتظاهرين عددهم بالملايين، وفي إحدى ساحات العاصمة الرّئيسيّة، أي أن إطلاق شعارٍ عالٍ جاء وسط موازين قوىً غير متكافئٍ بالمطلق، خاصّة وأنه خرج من مدينةٍ واحدةٍ فقط وفي ظرفٍ دوليٍّ مغلق.
كان بإمكان المتظاهرين أن يعبِّروا عن أوجاع الناّس من حولهم دون أن يكون في ذلك استجداء للنظام، وكذلك يمكن لهم أن يُعبِّروا عن مطالبهم السّياسيّة بالمطالبة بالخروج من الأزمة، وتطبيق الحلّ السّياسيّ والانتقال إلى مرحلةٍ سياسيّةٍ جديدةٍ في البلاد. وهناك الكثير من التّكتيكات التي يمكن للمتظاهرين العمل عليها لحشد النّاس من حولهم بأمانٍ وتعرية الخطاب المقابل، والوصول إلى الأهداف الكبرى على المدى الطّويل دون تنفير القاعدة الشّعبيّة.
لكن المطالبة من المظاهرات بتنظيم مطالبها ودراستها جيداً، يتطلّب منها بالدّرجة الأولى تنظيم صفوفها، وفتح الكثير من النّقاشات والحوارات وكذلك اللّقاءات مع النّاس، وهو ما يتطلّب منها قراءة الواقع جيداً ووضع قياداتٍ للحراك، وعدم ترك الأمور لحماسة الشّارع، وللحظة التّظاهر ولأهواء كلّ فردٍ.
من هنا كان على المتظاهرين دراسة واقع السّويداء جيّداً، وفهم ما يريده المحيط، مهما كانوا على ثقةٍ بأنّهم يتكلمون بما يجول في صدورهم، فلا يجب أن ننسى أن اعتقال تشي غيفارا جاء بمساعدة فلاحٍ برّر ذلك بأنّ معارك تشي غيفارا كانت تخيف أغنامه. أي أنّه عمل ضدّ من يقاتل لأجله لأنّ الانعكاس المباشر لمعارك تشي غيفارا أضرَّ به.
إذاً، لا يكفي الهتاف بما يجوب في صدور النّاس كي يقفوا معك، فقد تأتي النّتيجة المباشرة بما هو أسوأ لهم، ولا يكفي الهتاف بما يتمناه النّاس لتحقيق مطالبهم، فقد تتقاطع ودون سوء نيّةٍ مع أهداف أعدائك الحقيقيين وإن كانوا معك بالظّاهر. لذلك وبعد مُضيّ تسع سنواتٍ من الحرب في سوريا بات جليّاً لمن يريد القراءة بدقّةٍ للواقع، أنّ هناك من خرج سلميّاً ليكتشف أنه يخدم من يحارب على السّلطة ويريدها لمصالحه الضّيّقة، وهناك الكثيرون ممّن يناوئون السّلطة، وأعينهم على الاستفادة من مناوئتها فقط، أو على الاستفادة من غيابها. فليس كلّ من يمشي معك في الطّريق له الهدف ذاته، هناك من لا زال يعتقد أن معارضته للنظام تكفي كي تجعل منه يحاكي مصلحة النّاس، في حين أنّ مصلحة النّاس تكمن في ربط المسألة السّياسيّة بالاقتصاديّة، وهنا سينفضّ عنك الكثيرون ممّن يناوئون السّلطة لأجل مصالحهم فقط، وهؤلاء لا يجب تحيّتهم والتّوجه لهم في المظاهرات، ونسيان مصلحة من حولك من النّاس.
ختاماً، طريق التّغيير في سوريا طويلٌ ولن ينتهي بسقوط النّظام حتّى، لذلك عليك أن تعمل بهدوءٍ وعقلانيّةٍ، وتعي من هم شركائك في التّغيير المنشود، وكيف تحلّ مشاكلهم، وتسير بها، وتكسب حاضنتهم لتنتقل إلى الخطوة التاّلية، بدل الاقتصار على أهدافٍ عموميّةٍ قد يستخدمها غيرك لدعم مصالحه فقط.
تسع سنواتٍ باتت كافية لجعل أيّ حركةٍ تقرأ الواقع وتتحرّك بعقلانيّةٍ، ولنترك خلفنا مقولات تقديس العفويّة، والشّعارات المعمّمة، والحماس غير الواقعيّ، فالتّغيير يتطلّب العقلانيّة والتّروّي بقدر ما يتطلّب الشّجاعة والحماس.