الانتحار .. تمرّدٌ من نوعٍ آخر
"لديّ إحساسٌ عميقٌ بأنّني لست حقيقيّةً تامّةً، بل أنّني زيفٌ مُفتعلٌ ومصنوعٌ بمهارةٍ وكلّ إنسانٍ يحسّ في هذا العالم بهذا الإحساس بين وقت وآخر، ولكنني أعيش هذا الإحساس طيلة الوقت، بل أظن أحياناً أنّني لست إلا إنتاجاً سينمائياًّ فنّيّاً أتقنوا صُنعه". هذا ما قالته مارلين مونرو بإحدى لقاءاتها، وهي التي أنهت حياتها في حادثة انتحارٍ فيما بعد.
ما من أحدٍ ينتحر هنا بسبب عبثية الحياة واللاجدوى، ولا أحدٍ يترك رسالةً أو يعتذر لمن تركهم خلفه، ينتحرون مع اطمئنانهم بأنّهم خفّفوا من عبء وجودهم في هذا العالم، لا اعتذاراتٍ ولا رغبةٍ بتحمل يومٍ آخر، في سوريا فقط تفكّر بالانتحار مطمئناً بأنّ الكثيرين يفكّرون معك، وتنتحر وأنت راضٍ.
الحياة بكلّ حيويتها ومتعتها التي نسعى جميعاً لتذوقها بكلّ حواسّنا، الفنّ، الأدب، الجمال بكلّ أشكاله، النّتاج البشريّ بكماله وعظمته، الحرّيّة والعدالة والمساواة، كلّ هذا يَفْرُغ من معناه عندما نقرأ خبر انتحار أحدهم، تقفز جملةً أمام أعيننا (إنّه على حقٍّ، الحياة في عمقها بلا معنىً!).
يبدو في هذه الأيام أنّ الانتحار هو الشّكل الأسمى للشعور بالحرّيّة، والانعتاق من قيود السّلطات جميعها، بدءاً من سلطة الإنسان على ذاته وانتهاءً بالسّلطة السّياسيّة التي تحكمه، فالانتحار العلنيّ الذي بدأ يحدث مؤخّراً هو بمثابة رسالة تمرّدٍ على السّلطة والمجتمع بأكمله ورفض الخضوع لقوانينهما، فلحظة سقوط المنتحر وانتهاء حياته تمثّل صفعةٍ كبيرةً لنا جميعاً لأحكامنا وتصنيفاتنا، لمسيرة البشريّة عبر العصور وسعيها لتجميل نفسها دون جدوىً.
قراره بإنهاء حياته يضعنا أمام الاعتراف لأنفسنا بأنّنا أكثر خوفاً من إدراك الحقيقة والقبول بأنّ العالم أصبح أكثر جنوناً من أن نُكمل العيش فيه.
يحمل الانتحار في سوريا معانِ كثيرةٍ، فخصوصيّة ما يمرّ به السّوريّون منذ اندلاع الحرب حتّى الآن جعل المشهد العامّ يبدو جنونيّاً وغير قابلٍ للفهم.
حربٌ عبثيّةٌ ثمّ انهيارٌ اقتصاديٌّ، لجوءٌ وتشرّدٌ وقتلٌ، كيف يمكننا أن نُدرك ما يدفع شابًّا سوريّاً أو فتاةً للانتحار في ظلّ ظروفٍ معقّدة ومتشابكة كهذه، وما دور استعداده الفطريّ وبنيته النّفسيّة أساساً بهذا القرار.
أن تعيش في سوريا الآن هو انتحارٌ بحدّ ذاته؛ فمسار حياتك يخرج من بين يديك، ولا تعرف ما الذي يمكنك فعله تحت حكم سلطةٍ استخدمت كلّ ما هو غير إنسانيٍّ لاضطهاد شعبها وتعذيبه، ولا زالت مستمرّةً.
الحياة هنا أصبحت غريبةً ومخيفةً، وكأنّنا نعيش خارجها متفرجين على أعمارنا، وأيامنا تمضي دون معنىً، دون فعلٍ حقيقيٍّ نابعٍ من رغباتنا الدّاخليّة، فكلّ أفعالنا ميكانيكية خاليةً من المشاعر والإرادة، وكأنّ أعضاءنا الحيويّة تُتابع عملها وتحرّكنا بالدّافع الغريزيّ الأول، دون أيّ مشاعرٍ إنسانيّةٍ أخرى.
لا وجود لفرصٍ كافيةٍ للعمل، والموجودة لا قيمة لها، دخل الفرد لا يكفيه لتمضية خمسة أيامٍ من الشّهر، وأصبح الوضع المعيشيّ يشكِّل ثقلاً كبيراً لا يحتمله أحدٌ.
القلق والضّغط النّفسيّ يرافق السّوريّين في تحرّكاتهم، لا يمكنك مجالسة أحدهم إلا وتتحدّث عن ذلك الشّعور الذي ينتابنا جميعاً، الآن بعد تسع سنواتٍ من الحرب ولا ندرك ماهيّة هذا الشّعور، بأنّك أنت لست نفسك، وحياتك منفصلةٌ عنك تمضي وحدها دون رغبةٍ منك، الشّعور بالخوف والعجز والفراغ، ورغبةٍ بمعرفة ما الذي سيحدث إن كان سيبقى واقعنا هذا ماثلًا لوقتٍ طويلٍ، حاجتنا لإيجاد جوابٍ واحدٍ يكفي لنكفّ عن التّساؤل، فإمّا أن نرضى بواقعنا أو ننهي حياتنا.
ما الذي يدفع الشّباب السّوريّ للانتحار اليوم، سؤالٌ لا جواب له، عليك أن تعيش هنا لتعرف.
تأثيرات الحرب و اضطراب ما بعد الصّدمة، الانهيار الاقتصاديّ و العجز الكامل عن العيش بالحدّ الأدنى، الجائحة وتأثيرها، التّعطل عن العمل، العُزلة التي فُرضت علينا جميعاً، وتحوّل العلاقات إلى افتراضيّةٍ دون مشاعرٍ أو تواصلٍ مباشرٍ، يمكننا أن نفترض الكثير من الأسباب لكن لا يمكننا ملامسة السّبب الحقيقيّ الذي دفع تلك الفتاة لرمي نفسها عن الجسر، ودفع ذلك الشّابّ لقتل أطفاله ونفسه. الانتحار حالةٌ خاصّةٌ ومعقّدة والوصول إلى دخيلة المنتحر والمشاعر التي تعتريه لحظة انتحاره شيءٌ مستحيلٌ .
مناقشة الانتحار فعلٌ غير مجدِ كعقاب سيزيف، وكالانتحار نفسه، كيف لنا أن نصف فعلاً لم نجربه، ولا نستطيع سؤال من جربه عن ماهيّته، أسبابه ودوافعه، عن مشاعره في تلك اللّحظة، المشاعر الأصدق على الإطلاق إذ أنها دفعته بحقيقتها وقوّتها لقتل نفسه، إمكانياتنا لفهم المنتحرين وأسبابهم تبقى ضئيلةً جداً، وعبارةً عن افتراضاتٍ لحقيقةٍ يصعب أن نلمسها حتّى نجربها بأنفسنا، هل سببه حقّاً صدمةٌ عنيفةٌ، أم حادثٌ مروّعٌ؟ أم أن أبسط الأشياء قد تدفع شخصاً ما للانتحار في لحظةٍ يدرك فيها أنّه لم يعد هناك معنىً لشيءٍ، وأنّ الموتَ هو الخلاصُ، رسائل المنتحرين لا تُخبرنا سوى بالقليل، كأسف الشّخص وحزنه على من تركهم خلفه، لكنها لا تخبرنا بشيءٍ عن أفكاره وما يعتمر بداخله في تلك اللّحظات، ممّا يجعلنا عاجزين عن معرفة أسباب الانتحار وفهمه.
اقرأ أيضاً:
لا إمكانية للنجاة في عقل من قرر الانتحار، ولا رجوع عنه، هي لحظةٌ واحدةٌ يصبح فيها العالم لا مرئياً ولا أهمّيّة له، تختفي جميع الأشياء، العلاقات، المتع البسيطة والكبيرة من عقله، كلّ الأفعال تصبح فارغةً من محتواها وكأنّها لم تعاش يوماً أو تحسّ، ربّما يكون سبب الانتحار بسيطاً أو عظيماً لا فرق، فالحدث البسيط قد يؤجّج كلّ المشاعر العظيمة المكبوتة داخل الفرد، لينهي حياته في لحظةٍ واحدةٍ دون تفكيرٍ بالطّبع، فالتّفكير بالانتحار كفكرةٍ يمكن أن يريحنا و يبعدنا عن الإقدام على فعله، وهذا ما يفعله الكثير من البشر في فترة ما من حياتهم، الانتحار فعلٌ لحظيٌّ بقرارٍ نابعٍ من الأعماق لا جدال فيه، مجرّد التّفكير ينفي حدوثه، ولكن ما هو ذلك الألم الذي يدفع الشّخص لإيجاد راحته بقتل نفسه؟ كيف تصبح الحرّيّة المطلقة والخلاص مرتبطين بقتل الذّات ومنع الجسد عن الاستمرار في حركته وأفعاله.
لم يكن الانتحار في سوريا رائجاً من قبل، لأسبابٍ عديدةٍ، فالمجتمع السّوريّ بغالبيته متديّنٌ والدّين يُحرّم قتل النّفس، كما أنّ الأخلاقيات العامّة والعادات تنتقص من قيمة من يفكّر بالانتحار، لذلك بقي هذا الفعل بعيداً عن الأذهان لفترةٍ طويلةٍ، مصنّفاً كفعلٍ ينمّ عن ضعفٍ شديدٍ وكفرٍ بالله والحياة والآخرة.
بدأت ظاهرة الانتحار بالانتشار بعد الحرب حيث وصل عدد المنتحرين في عام 2015 إلى 135 حالةً ، ومنذ نهاية عام 2019 و حتّى الشّهر الثّالث من العام الحالي شهدت سوريا تزايداً في حالات الانتحار خلال هذه الأشهر القليلة ، لأشخاصٍ مختلفي الأعمار فمنهم بأعمارٍ صغيرةٍ ومنهم شُبّانٌ وشابّاتٌ وحتّى متقدّمون بالسّنّ، لكنّ الدّافع وراء الانتحار يختلف من شخصٍ لآخر، يمكننا اعتبار الحرب إذاً والوضع المعيشيّ، واقتصار الحياة على تلبية الحاجات الأوليّة، والقلق النّاجم عن الجهل بما ستؤول إليه الأمور، أسباباً ساعدت على القيام بفعل الانتحار والتّخلّي عن حياةٍ فارغةٍ لا مستقبل لها.
تبقى إمكانية تزايد حالات الانتحار محتملةً، فالموت النّفسيّ الذي يشهده المجتمع ينهار بشكلٍ يوميٍّ، والاكتئاب الذي أصبح طبيعيّاً وموجوداً لدى الجميع؛ هي دوافع إضافيةٌ للقيام به، ولكننا هنا لا يمكننا تجاهل البنى النّفسيّة، وما تعرّض له الشّخص خلال حياته من إساءاتٍ ورضوضٍ نفسيّةٍ ودورها في ميل الشّخص للسوداويّة والتّفكير بإنهاء حياته، إمكانية تزايده أو عدمها أمرٌ غير قابلٍ للقياس، وخاصّةً في مجتمعٍ شرقيٍّ، لا يملك ثقافة الطّبّ النّفسيّ، واللّجوء إلى العلاج في الحالات التي تتطلّب ذلك.