info@suwar-magazine.org

العيش في المربعِ الأمنيّ

العيش في المربعِ الأمنيّ
Whatsapp
Facebook Share

(الصورة من المربّع الأمنيّ في الحَسَكَة)

 

حيرةُ سُكَّان الحَسَكَة وشوارعُ مُنقسمةُ السيطرةِ بين جِهَات مُتَناقِضَة

 

"الفِرقَة الرَابِعَة" تَفرُض 18 ألف دولار عن كل شِحنِة أَدوية تَصِل للحَسَكَة

 

 

لمْ يَخطُر في بالِ "حياة" الموظفة في الشؤون الاجتماعيَّة والعمل، ذاتِ الأربعين عَاماً من مَدينة الحَسَكَة يوماً، أنَّ التقسيماتِ العَسكَريَّة ستفرضُ واقعاً جديداً على مَدينتها، وأنها غيرُ متفائِلةٍ بِأن تجري الأمور بخيرٍ في ظِلِّ وجود حلفاء يسعون وراء مصالحهم.

 

تقول حياة لـ مجلة صُوَر، " إن تطبيقَ قوانينِ الحُكومةِ السُّوريَّة لا تتعدى حدودَ المُربَّعِ الأمنيّ" وهو ما لمْ تَتوقعه يوماً. حيثُ لا يُسمَحُ لأجهزةِ الحُكومَة ومؤسساتها العملَ والقيامَ بأنشطتها المقتصرةِ على تسجيلِ القيودِ المدنية وتثبيتِ العُقود خارج حدود المربَّع الأمنيّ. وباتَ العنوانُ الرئيسيّ لسكان الحسكة تأقلمٌ حياتيّ وآراءٌ متباينة في مدينة منقسمة في ظل وجود قوَّتين محليَّتين متناقِضتين، قوات سوريا الديمقراطية المدعومة من الولايات المتحدة الأمريكية، والحكومة السورية المدعومة من روسيا.

 

"كراج النجمة" حدود الخصوم

 

يفصلُ شارع "فلسطين" التجاري، والذي يشكِّل لوحةً فسيفسائية عرقية من كورد وعرب وآشوريين وأرمن وسط الحسكة، مناطقَ التماس فاصلاً بينَ سيطرةِ القواتِ النّظاميةِ وعناصر "الأسايش" والأخيرة هي شرطةٌ محليةٌ تتبعُ الإدارةَ الذاتيةَ لشمالِ وشرق سوريا. وتنتشر حواجز كلِّ قوّة على جانبي السوق، حيث نصبت "الأسايش" نقاط تفتيش مقابل كل حاجز عسكري يَتبعُ للنظّام، لكنْ يختلف الأمر في منتصف الشّارع بـالقرب من كراج النّجمة، حيث تتشاركُ ضمنه القوتان السّيطرة على باقي الشّارع.

 

 

عبد الله الشاب الثلاثيني، يعمل في محل لبيع الأحذية مجاورٌ لكراج الّنجمة، يقول: "تولي بِنظرك تشاهدُ دوريَّة عسكريَّة برفقة شرطة المرور التابِعة للنّظام وعلى بعد خطوات منها يقف عناصر من (الأسايش) أو شرطة مرور الإدارة الذّاتية دون أيّ اعتراض من كلا الطّرفين في تنظيم سير المركبات والمارّة"، سيما كان يحدثُ سابقاً اشتباكات بين الطرفين تنتهي بالتزام كلٍّ مكانه.

 

ترتسم الضحكة على ثغرِ عبد الله وهو يصف في حديثه لـ مجلّة صور، أنَّ موقعه في نقطة التقاء القوّتين، النظّام وقسد يتيح له حرية الحركة دون أيّ مُساءلة كونه مطلوب لتأدية الخدمة الإلزامية للحكومة السّوريّة. وأنَّ خطواتٍ معدودة لمنطقة النّظام تعرضه للاعْتقال.

 

يبدأ المربع الأمني في الحسكةِ من شارع القامشلي غرباً ويشملُ ساحة الرئيس والأبنية الحكومية والقصر العدليّ وسرايا المحافظة وجزءاً من السوق المركزيّة، لتنتهي عند الحارة العسكريّة شرقاً، إضافةً إلى سيطرتها على فوج جبل كوكَب الواقعِ على بعدِ 15 كيلومتراً شمالَ شرقي الحسكة، ويعدُّ أكبر قِطعة عسكريّة خاضعة لسيطرة النظام في مدينة الحسكة إلى جانب فوج 137 في مدينة القامشلي.

 

رسمت كل جهة عسكريّة حدودَ سيطرتها بسواترَ ترابيّة ونقاط تفتيش، ولا تدخل عناصر "أسايش" المنطقة الخاضعة لقوات النظام تجنباً لأيّ مواجهةٍ بينَ الطرفين، إذ اندلعتْ صيفَ 2016 اشتباكات عنيفة بين "الأسايش" وقوات النظّام للسّيطرة على الحيّ المسيحيّ وشارعِ فلسطينَ التجاريّ. بالمقابلِ يتمكَّنُ المدنيُّون من التّنقل بسهولة من حيّ إلى حيّ آخر دون تفتيشٍ أو تدقيقٍ في الأوراق الثّبوتية.

 

ويقولُ "عبد الرزّاق خلف" سائق تكسي أجرة (52عاماً) وهو خريج كلية التربية ويعمل مدرساً في مدرسة ابتدائية، أنه مضطر للعمل كسائق على السيارة لتأمين لقمة العيش التي أصبحت حُلماً لدى الموظّف في القّطاعات الحكوميّة نظراً لتدني الرواتب التي لا تتجاوز في أحسنِ الأحوال ما يعادلُ 25 دولار أميركيّ.

 

ويقول: "استصدرتُ رخصتان لقيادة السيّارة تلبية لقوانين القوّتين، اللتين تلزمان من يدخلُ منطقة سيطرتها بالرخصةِ الرسميّة المفروضَة، وخِلافُ ذلك يعتبرُ تمرُداً على الدّولة وخاصّة بالنسبة للشُّرطة النّظاميّة"، مضيفاً، لا يمكنُ للسّيّارات الخاصّة التي تحملُ لوحاتِ الإدارة الذاتية أن تدخلَ مناطق النّظام، بالمقابل يتجولُ عناصر النظام وآلياته بحريّة في باقي أرجاء المدينة.

 

مشفى وحيدٌ يتبع الحكومَة

 

فندق مُطلّ على ساحة الرئيسِ ضمن المُربّع الأمنيّ وسط الحَسكة حوّلته قوات النظام إلى مشفى يخضعُ لسيطرته، بعد خروجِ المشفى الوطنيّ ومعظم المشافي الخاصّة التي تقع ضِمن مناطقِ الإدارة الذّاتية عن سيطرته.

 

المشفى الحكوميّ "فندق اللؤلؤة" سابقاً، يعاني من نقصٍ في الكوادرِ والإمكانيّات الطبية كونَه يفتقرُ للأطباء المختصين، الذين توجّه معظمهم إلى العمل في العيادات أو مشافي الإدارة الذاتية، مما انعكس سلباً على مشفى المربع الأمنيّ.

 

وتقول لـ "مجلة صور"، الطبيبة المختصة في قِسم التّخدير والإنعاش عبير من مشفى "اللؤلؤة"، الذي يفتقر للبنية التحتية المؤهلة لإقامة مشفى، "تغيب غُرف الإنعاش والعناية المركّزة فيه، ويقتصرُ على عدد من العيادات كعيادة الأطفال والنسائيّة وتقديم الإسعافاتِ الأوليّة".

 

وتضيف: "قسمُ الكلية هو القسم الوحيد في المشفى الوطنيّ يخضع لإدارة النظام الحاكم في منطقة قسد، رُغم أنّ الأطبّاء المختصّين والكوادر الطبيّة العاملة فيه يستلمون رواتبهم من الإدارةِ الذاتيّة وذلك تحت صيغةٍ تمّ التفاهم عليها تصبّ في خدمة المواطن".

 

"18 ألف دولار عن كل شحنة أدوية"

 

تحدّث لـ "مجلة صور" عبد الحكيم رمضان (52 سنة) مالكُ صيدليّة بشريّة، يتنقل في مدينة منقسمة السّيطرة، إذ يقعُ منزله مقابلَ دائرة التجْنيد وسط المربع الأمنيّ الخاضع للنّظام الحاكم، فيما تقع صيدليّته في شارع فلسطين عند آخر نقطة تماسٍ تفصل بين مناطق النّظام ومناطق الإدارة الذاتيّة الكردية المعلنةِ بداية عام 2014 من حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي وأحزابٍ وجهاتٍ عربية ومسيحية.

 

 

يروي عبد الحكيم وهو عضو في مجلس السّلم الأهليّ بمدينة الحسكة ممثلاً عن المجلس الوطني الكردي المعارض، الصعوبات التي يواجِهها الواقع الطّبي في منطقة يتنافس النّظام والإدارة لضمها إلى مناطق سيطرته، وأنه قبل فترة وقعت اشتباكاتٌ عسكريّة بين عناصر النّظام وقوات الأسايش الكرديّة، امتدت إلى الشّارع الذي تقع فيه صيدليته، فاضطرّ إلى إغلاقها عدة أيام. يقول: "بعدما هدأتِ الأحداثٌ، فَتحت الصيدلية، تفاجأتُ بأنها سُرقت ونُهب معظم ما كان فيها". كما هو حال معظمِ المحال والمراكز التجاريّة والعيادات، وأضاف: "الأمر المؤسف أنه لا النّظام ولا الإدارة عوضتنا عن الخسائر الماديّة".

 

وعن غلاء أسعار الأدويّة ونقصها المرتبطُ بارتفاع سعر صرف الدولار، يقول رمضان: "إنّ الفرقة الرابعة في جيش النّظام يفرضُ إتاوات على شحنات الأدويّة المستوردة عن طريق دمشق إلى محافظة الحسكة، وقدرها 18 ألف دولار عن كل شحنة".

 

التعليم الحكوميّ هاجس الجميع

 

بناءً على رغبة الأهل في أنْ يلتحق ولدهم "روان درويش"، طالب في المرحلة الثانويّة، بأحد فروع الجامعة، انتقلت العائلة للعيشِ في منزل بالإيجار ضِمن المربّع الأمنيّ في مدينة الحسكة لإكمال تعليمه، بعدما فَرضتِ الإدارة الذاتيّة المنهاجَ الكرديّ في مناطق سيطرتها في مدينة الدرباسية منذ عام 2015.

 

"روان" حاله كحال الكثيرين، يشكو من صعوبة التركيز أثناء شرح الدروس لكثرة عدد الطلاب ضمن الشّعبة الصفيّة الواحدة، إلى جانب الضّغط الدراسيّ والاعتماد الكليّ على الدروس الخصوصيّة نتيجةَ الإجراءاتِ الاحترازيّة بإغلاق المدارس للحدِّ من انتشار جائحة كورونا، يقول: "تحضيراً لامتحان الشّهادة الثانويّة وزيادة ساعات الدروس الخصوصيّة وتكاليفه الباهظة مقارنة مع إمكانيّات عائلتي، أشعر بالقلق والمسؤوليّة".

 

ويُدرّسُ في مدينة الحسكة منهاجين دراسييّن وهما: المنهاج الرسميّ للحكومةِ السّوريّة باللغة العربية، والمنهاج الدراسيّ للإدارة الذاتيّة باللغات العربيّة والكرديّة والسريانيّة، غير أنّ إحجامِ الأهالي عن إرسال أطفالهم إلى مدارس الأخيرة بحجة أن المنهاج والشهادات الممنوحة غيرُ مُعتَرفٍ بها خارج حدود الإدارة، ما دفع الأهالي لإرسال أبنائهم إلى مدارس النّظام ضمن المربّع الأمنيّ لإكمال تعليمهم، والذي يضمُّ 12 مدرسةً لمراحل التعليم الأساسيّ والإعداديّ والثانويّ وعدداً منَ المعاهد إلى جانب مدارسَ أخرى خاصةٌ بالسريان والأرمن في منطقة قسد، حيث يتجاوز عدد الطّلاب في كل شعبة من ستين إلى ثمانين طالب وطالبة.

 

وبحسب ما قاله "رمضان"، يبقى الاعتماد الأساسيّ على دورات التّقوية ما يشكّل عبأً إضافياً على أهالي الّطلبة ويزيد الأعباء المعيشية وخاصّة الذين يسجّلون أبناءهم في مدارس الحكومة دون أنْ يرتادوها كونهم يقطنون ريف الحسكة ويجدون صعوبة في التّنقل، أو ملتزمون بوظائف في دوائر ومؤسسات الإدارة الذاتيّة والتي من ضمن قوانينها أن يتلقّى أبناء الموظّفين المنهاج المتّبع لديها.

 

وقالت "منظّمة الأمم المتحدة للطفولة" (اليونيسف)، في تقرير نشر بشهر آب/أغسطس من عام 2019، "إنّ أكثر من مليوني طفل داخل سوريا-أي أكثر من ثُلث الأطفال السورييّن- حُرموا من التعليم منذ بدء الحرب في بلادهم عام 2011"، فيما يواجه 1،3 مليون طفل خطر التّسرُّب، كما أنّ الأطفال السّوريين خارج سوريا لا يزال هناك أكثر من 800 ألف طفل منهم خارج المدرسة.

 

فالحياة في الحسكة صورةٌ مصغّرة عن العيش في سوريا، البلدِ الذي مزقته نيران الحرب، وتشتّت أبناؤه بين نازح ولاجئ ومهجر أبعدهم الموت عن عائلاتهم، وبعد أكثر من تسع سنواتٍ عجافٍ من دمار وقتل وتشريد، وتقسيمات عسكريّة وسياسيّة أنهكت سكانها في تأمينِ لقمة العيش.

 

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard