مجتمعات الغِلّ، وأخلاق الشماتة والتشفّي
"إن المباركين في ملكوت السماوات سيرون عقاب الملعونين، ليكون نعيمهم أكبر"
تدلّ هذه العبارة المنسوبة للاهوتي القرون الوسطى توما الإكويني1274-1225)) على علاقة ضمنية بين الشعور بالظلم، وتحقيق العدالة والاقتصاص والتشفي. وتوضح كيف تكون للشماتة بالعدو الظالم، قاهِر إرادة الضعفاء والمظلومين، والطيبين، لذته الخاصة، كما تدل على الوعد المؤجل في إرواء ظمأ المضطهدين والمغلوبين والمسحوقين على هذه الأرض بعد تحقيق تلك العدالة الموعودة.
بداية تعبّر الشماتة من حيث الاصطلاح والتعريف، عن حالة من الفرح والسرور الناجمة عن تحقق الأذيّة أو الإحراج للخصم، العدو، وهي شعور بالسعادة والرضا عن النفس يأتي من معرفة أو مشاهدة معاناة، فشل، أو إذلال الآخرين. ولا نستطيع اعتبار هذا السلوك غريباً أو دخيلاً على الطبيعة البشرية إنه جزء من تكوينها النفسي، وغالباً ما عايشنا هذه التجربة بشكل شخصي، لنأخذ على سبيل المثال: تعطّل جهاز الموسيقا الصاخب لأحد جيراننا المزعجين، إنه يبعث في نفسنا شعور بالرضا والسعادة، وربما انفجار إطار دراجة نارية تثير الضجة والإزعاج ليشعرنا بشماتة لذيذة ترضينا، لا سيما إذا لم نشاهد أذية واضحة أو قاسية على السائق المزعج ونضطر لإسعافه. كما أن حالات الشماتة بين الأصدقاء والتي تأخذ طابع المزاح لطالما كانت موجودة، إلا أنها تبقى في سياق من الود، وقد تتحول إلى تعاطف، ومن الممكن أن تنقلب إلى تضحية جسيمة لدفع الأذى عن الصديق الذي كنت أمازحه قبل قليل بتعثره أو سقوطه.
بينما تكون حالات التشفي في لحظات الحروب الدموية بين الدول والجماعات، حينما يغيب الوعي، وتسود الهمجية، واضحة بأقسى صورها. وفي مقابل الشماتة يضفي الناس قيمة أخلاقية رفيعة على السلوك المسمّى "الروح الرياضية" الذي يعامل الخصم المنافس باحترام وتقدير عالٍ، ويرفض استغلال ضعفه.
يمكن إرجاع الشماتة بالاستناد إلى الدراسات الأنتروبولوجية، إلى الإنسان القديم الذي عاش على الجمع والالتقاط والصيد، وكان حفظ البقاء هاجسه وغريزته المباشرة، وفي حين قد تكون موارد الغذاء شحيحة، فمن المتوقع أن تظهر درجة من السعادة حينما يفشل المنافسون، لأن ذلك يعني فرصة أفضل مع تلك الموارد. لا حاجة إلى أن تكون تلك السعادة خالصة وظاهرة، بل قد تكون سرّية، ممزوجة كذلك مع شعور بالتعاطف وربما المساعدة، لكنها تظل موجودة، هناك في القبو السفلي للنفس، تفرض الطبيعة شروط وجودها.
اقرأ أيضاً:
ولعل مراقبة سلوك الأطفال يوضح أن الأساس النفسي الكامن خلف الشماتة لا يرتبط وجودياً بالآخر، بل يتجذر بتحقيق سعادة خالصة وخاصة للذات. ويظهر على هذا النحو متعلقاً، موجهاً، مرتبطاً بالآخر في حالتي الصراع من أجل البقاء بما يحمله من جانب تدميري للآخر إذا تطلب الأمر، وتأكيد الذات بما يحمله من رغبة بالانتصار والتملّك في حالات التنافس.
وفي حين نعيش في مجتمع منكوب يمدّنا بكل أسباب الصراع، والأيديولوجية الإقصائية، فليس غريباً ما نشهدُه من انتشار واسع لهذه الخاصية النفسية المدمِّرة، وإن كانت بدرجاتٍ ونسب مختلفة. وقد عملت وسائل التواصل الاجتماعي على إظهار هذه المشاعر لتصبح علنيّةً صريحة وواضحة، وعامة بعد أن كانت ضيقة ومحدودة.
ولعل خطورة هذا المشهد تتضح في الكوارث والدمار الذي يصيب منطقة ما، فتعلو أصوات كثيرة تتشفى بها وتكيل لها اللوم. ليس انفجار بيروت المرعب الذي عصف بمدينة كاملة ما أشير إليه فقط، فهو أحد الأمثلة الكثيرة لما نشهده من شماتة صريحة تظهر بين شعوب الدول المغلوبة على أمرها، وبين ملل وطوائف وإثنيات وقوميات الدولة الواحدة، ومحافظاتها، وقراها، وعائلاتها، وصولاً إلى أفراد الأسرة الواحدة لا سيما حينما يكونون على حالة من الخلاف في التوجهات والآراء السياسية.
إن مجتمعات الاستبداد السياسي، والاضطهاد الاجتماعي، وكذلك التربوي، والتي تعادي الاختلاف، والحريات، والتفرّد، تنتج هُويات هشّة لأفرادها، ففي حين لم ترَ هذه الهُويّات في الآخر المختلف عنها سوى النقيض المعادي، فخسرت بذلك ثراء التنوع، وعقل الوفرة. فإن شخصية الأفراد التي نشأت داخل هذا المجتمع، وتعرضت عبر تاريخها أيضاً للتهميش والاضطهاد والقهر، أصبحت تنكر نفسها، وتعي محدوديتها وهشاشتها، وهي لا تجد سبيلاً لتأكيد ذاتها إلا من خلال الاعتداء على كل مختلف عنها، عبر تهميشه بالاستهزاء، أو إلغاءه بالتخوين أو التحقير. وهي عبر هذه الآلية النفسية الدفاعية تعيد اعتبارها لنفسها، وتؤكد ذاتها، بالاعتماد على إخفاقات الغير، وأوجاعه، ونكباته، وعذاباته، ومآسيه. إنها في الحقيقة تعبّر عن القهر والمظلومية والشعور بالعجز والانحطاط الذي تجتره وتعيد إنتاجه.
إن هذا الشعور السابق الذي يظهر كشماتة، يعبر عن نفسه أيضاً بأكثر من طريقة، فهو يتخذ شكل السلوك السادومازوشي، كالإدانة الدائمة للضحية، وجلد الذات. وليست مقولة "كما تكونوا يولى عليكم" سوى تعبير عن هذا الاستحقار الضمني للذات، وللجماعة، وإقرار بالعجز، والخصاء. وما الدعوات إلى إعادة الانتداب والاستعانة بالقوى الأجنبية التي ظهرت مؤخراً إلا استطالة لليأس، وتأكيداً على الشعور بعقدة الخصاء. هذه العقدة التي تعبر عن نفسها أيضاً في طريقة التعلّق بزعيم وقائد يمثل الرجولة والبطولة والحذاقة، والذي "يعوض من خلاله المقهور خصاءه ويخفف من قلقله" على حد تعبير مصطفى حجازي، الذي أكد في كتابه "التخلف الاجتماعي" أن في مرحلة الاضطهاد التي تمر بها المجتمعات المتخلفة تُسقَطُ مشاعر الذنب والتبخيس الذاتي على الآخر، ليس على المتسلط بل على الشبيه المقهور، أو الأكثر قهراً مما يعطي انطباعاً وإن كان وهمياً، بالإفلات من ذلة القهر".
وعندما يستفحل القهر، ويستشري الحرمان والجهل، وينفلت المصير كلياً من السيطرة الذاتية، يجد الإنسان تبريراً لذلك بالقدريّة أو التكفير عن الآثام، ويرتهن لقوى خارجية، وهذه القدريّة تفرض ضرورة القبول، وتمنع التمرد والرفض، فهي بالتالي تعزز الاستسلام، والاتكالية، ولا تكتفي بالمحافظة على الواقع كما هو بل تستطيل في تفسير وفهم كل ما يدور حولها اعتماداً على هذه النزعة العدمية السالبة للحياة، الواعدة بالنعيم.
فهل من وصل النعيمَ وهنئ السلام والبركة الإلهية، وعَرف الحق وكَنِزَ الحقيقة، يحتاج التشفي والتشمت بالظالمين الملعونين المعذبين في جهنم، ليزيد من لذّته ومتعته، وسروره الأبدي؟! تنم تلك العبارة المذكورة سالفا، عن إسقاط ما هو أرضي – بمضامينه وتعيناته السيكولوجية وحامله الاجتماعي والاقتصادي، وخلفيته السياسية والاستبدادية- على ما هو (سماوي أبدي دائم ثابت عدل وحق). وهي في حقيقة الأمر دعوة للصبر على الظلم وتكريس للقهر والاضطهاد، إنها تكريس لمجتمعات الغِل ولأخلاق التشمت والتشفي، على الأرض وفي السماء. وليست هذه الدعوة ذات الطابع الديني إلا نموذجاً نجده في كل ثقافة قهر واضطهاد، تستلب الحياة، وتقطع الصلة مع الإنساني، وتورث عن طريق التربية لأخلاق الضعفاء، حسب تعبير فريدريك نيتشه، والذي سخِر من هذه الأخلاق وكشف زيفها وعقمها، ودعا بالمقابل إلى أخلاق السادة الإنسانيين والأقوياء، على هذه الأرض وعليها وحدها فقط.