دخانُ خلافٍ روسيٍّ إيرانيٍّ أشعلَ أزمةَ البنزينِ في سوريا
"قيصر" يوقّف إمدادات النّفط لدمشق
السّيّد: الأزمات المتلاحقة تمهّد لتغييرات استراتيجيّةٍ سياسيّاً
اتّفاقاتٌ اقتصاديّةٌ سوريّةٌ ـ روسيّةٌ تستبعد الحليف الإيرانيّ
ما إن غادر الوفد الرّوسيّ الاقتصاديّ الحكوميّ سوريا مطلع أيلول الجاري، حتّى اشتعلت أزمة البنزين الخانقة. وتوقّفت مصفاة بانياس التي تزوّد البلاد بثلثي احتياجاتها من البنزين، والبالغة 4.5 ملايين ليترٍ يوميّاً، بحجة حاجتها الماسة للصيانة المتوقّفة منذ سبع سنواتٍ. التّوقيت الذي شهدته الأزمة ليس اعتيادياً، بل ثمّة موجباتٌ دفعت بأزمة البنزين إلى أن تطفو على السّطح، وتعصف بحيوات السّوريّين من جديد، أبرزها العامل السّياسيّ، ودخان الخلاف الرّوسيّ الإيرانيّ الذي بدأ بالظّهور منذ فترةٍ، وفقاً لما ذهب إليه المتابعون للقضية السّوريّة التي التقت بهم (صور)، فضلاً عن "دور المافيات" والقوى التي تتقاسم النّفط السّوريّ، وتوقّف التّوريدات، وتداعيات العقوبات الاقتصاديّة، وأبرزها قانون قيصر الأمريكيّ.
حافة الهاوية
طفت الخلافات على سطح العلاقات الرّوسيّة الإيرانيّة في سوريا، حاول الحليفان التّقليديان لدمشق محاصرة المشكلات وتطويقها، ولكنّ التّداخل المهول للمصالح المتضاربة لمجموع القوى المتناقضة في صراعها الكبير بسوريا، دفع بالخلاف الإيرانيّ الرّوسيّ إلى حافة الهاوية، وهو ما تجيد اللّعب عليه طهران وموسكو بجدارة.
ويعتقد الصّحفيّ السّوريّ المقيم في ألمانيا مصطفى السّيّد أنّ أزمة البنزين وأزمة الخبز المرافقة، والأزمات المتلاحقة التي تحيق بالمواطن السّوريّ، هي أحد "أهمّ أدوات تليين المواقف، تمهيداً لتطويعها، للقبول بتغييرات استراتيجيةٍ على الصّعيد السّياسيّ".
ويصف السّيّد في حديثه لـ (صُوَر) أنّ طوابير السّيّارات المنتظرة لدورها في محيط محطّات الوقود "سجّلت أطوالاً قياسيّةً غير مسبوقةٍ" في أزمة توزيع بنزين السّيّارات. ويقول إنّ هذه الأزمة "رُتِّبَت عناصرها بعنايةٍ، إثر التّنافس الرّوسيّ الإيرانيّ على اقتسام القرار السّوريّ الواقع تحت الضّغط الأمريكيّ، عبر محرك قيصر لضغطٍ طويل الأجل على الحكومة السّوريّة".
إيران التي خسرت العديد من قادتها الميدانيّين، لوحت هذه المرّة بعصا الدّعم الاقتصاديّ الذي تقدّمه لدمشق. فالاتّفاقات الرّوسيّة السّوريّة، والتي سينجم عنها 40 مشروعاً اقتصاديّاً مشتركاً، وفقاً لنائب رئيس الحكومة الرّوسيّة يوري بوريسوف، وغيرها من الاتّفاقات التي تمكّنت موسكو عبرها من إحكام سيطرتها على مجمل مُقدّرات الاقتصاد السّوريّ، فيما طهران تقدّم كلّ يلزم لهذا الاقتصاد ليبقى مستمرّاً، عبر الخطّ الائتمانيّ. كلّ هذا، أخرج الحليف الإيرانيّ عن طوره الهادئ، وبدَّل دبلوماسيّة الدّعم بقرارات الحرمان، وهي الورقة الاقتصاديّة ذات التّأثير الكبير التي يملكها الإيرانيّون في سوريا، بعد أن تمكنت روسيا من نسب الانتصارات العسكريّة على المعارضة المسلّحة لتدخلها الجويّ، واتّباعها سياسة التّسويات والمصالحات.
اللّاعب الوحيد
تدلّ المعلومات التي حصلت عليها (صور) من مصادرها في دمشق، بأنّ الغضب الإيرانيّ بلغ ذروته، وأن ما كان يجري في الغرف المغلقة من مطالباتٍ، والتّهديدات المتلاحقة، نفذتها إيران، ليس بوجه حليفها التّاريخيّ أيّ النّظام السّوريّ، بل أيضاً بوجه الحليف الرّوسيّ، الذي يؤمّن الغطاء السّياسيّ الدّوليّ لاستمرار التّدخل الإيرانيّ بسوريا، ويشارك مباشرةً في المعركة العسكريّة.
حاول الرّوس توجيه الرّسالة ما قبل الأخيرة للحليف الإيرانيّ، بأنّ سورية هي مجال نفوذٍ روسيٍّ مجرّدٍ، وأنّه يحقّ لموسكو فقط رسم الخريطة السّوريّة، وملامح البلاد القادمة، ومستقبلها، من خلال عقد سلسلةٍ من الاتّفاقيات الاقتصاديّة والاستثماريّة التي تجعل من موسكو اللّاعب الوحيد، والمتحكّم بسوريا ما بعد الحرب، عبر ربطها بتلك العقود.
وتشعر طهران بأنّ مساهمتها الكبيرة في الحرب السّوريّة، تحصد نتائجها موسكو. وتفيد بعض المصادر المتقاطعة، بـأنّ إيران تشعر "بالخذلان"، من دمشق وموسكو على حدٍّ سواء. وأنّ سحب البساط من تحت أقدامها في سوريا بات قريباً، إذ يُهيّئ الرّوس التّحضيرات التي تجعل من مغادرة الحليف الإيرانيّ من دمشق أمراً واقعاً، وضرورةً ملحةً تنفيذاً لتفاهماتٍ دوليّةٍ مرتقبةٍ.
رواية النّظام
رمى النّظام السّوريّ أزمة البنزين الحالية في ملعب العقوبات الأمريكيّة المفروضة على سوريا، وبالذات قانون قيصر الذي دخل حيّز التّنفيذ منذ منتصف حزيران الماضي، وأقرّ وزير النّفط في حكومة دمشق بسام طعمة بأنّ سوريا "تُعاني نقصاً حاداً في البنزين نتيجة العقوبات الأمريكيّة المشدّدة التي تعطّل واردات الوقود الحيويّة" معتبراً في تصريحات للتلفزيون السّوريّ الرّسميّ أنّ قانون قيصر "عطّل عدّة شحناتٍ من موردين" دون أن يكشف عنهم. لكنّ الواضح أنّ المقصود بالموردين، طهران فقط، التي حافظت على دعم دمشق بطرقٍ متعدّدةٍ. هذه الأسباب دفعت إلى تخفيض توزيع البنزين "ما بين 30 إلى 35 بالمئة"، وفقاً لوزير النّفط. ويوضّح الصّحفيّ السّيّد أنّ تقليص حصص الوقود للسيّارات وآليات النّقل "يؤدّي إلى خفض النّشاط البشريّ في سوريا، بذات معدلات خفض توزيع البنزين".
ويتجاهل مسؤولو النّظام السّوريّ بشكلٍ مقصودٍ، أنّ دمشق فقدت سيطرتها على حقول البترول المتركّزة في شرق الفرات، لا سيّما في دير الزور والحسكة، شمال شرق البلاد، واستحواذ قوّات سورية الدّيمقراطية (قسد) المدعومة من واشنطن على هذه الحقول، وقيامها باستثمار هذه الثّروة بطرقٍ مختلفةٍ، منها بيع النّفط الخام للنظام السّوريّ. في حين رأى أمين عامّ حزب الإردة الشّعبيّة المعارض قدري جميل أنّ نفط شمال شرق سوريا "يذهب هباءً منثوراً". كاشفاً بأن هذا النّفط يتمّ تقاسمه وفق النّسب التّالية "30% الدّولة السّوريّة، 30% الولايات المتّحدة الأمريكيّة، 20% تركيا، 20% قسد" معتبراً في تصريحات لقناة الميادين اللّبنانية أنّ "المافيات تتلاعب بحصة الدّولة السّوريّة" مصنّفاً النّفط بأنه أصبح "مالاً داشراً، وكلّه يذهب لتركيا".
صيانة المصفاة
حاول الوزير طعمة التقليل من العوامل الخارجيّة التي تسبّبت في تفاقم الأزمة، مشيراً إلى توقّف مصفاة بانياس عن العمل، والبالغة طاقتها 130 ألف برميلٍ يوميّاً، بسبب أعمال الصّيانة الدّوريّة، المتوقّفة منذ سبع سنواتٍ، مؤكّداً أنّ عدم صيانة المصفاة "شكّل خطراً على المصفاة والمنطقة السّاحليّة". وفي هذا الصّدد وجّه رئيس اتّحاد غرف الصّناعة السّوريّة فارس الشّهابيّ سؤالاً، وصفه "بالمؤرق"، يكشف بعض المستور في رواية صيانة تلك المصفاة: إذا كانت صيانة المصافي هي السّبب، فلماذا لم تقم الحكومة السّابقة بإجراء عمليّات الصّيانة، وإعادة إعمارٍ للمصافي أثناء فترة الحظر الطّويلة التي فرضتها على التّنقل (بسبب فايروس كورونا) خلال شهري نيسان وأيّار الماضيين، عندما كان الطّلب على البنزين في حدّه الأدنى؟ وتابع الشّهابيّ في أسئلته الاستنكاريّة عبر صفحته على الفيس بوك رصدتها (صور): هل كانت المصافي وقتها في وضعٍ ممتازٍ، ولا يدلّ على أيّ خللٍ؟ ولماذا لم تُجهّز مستلزمات الصّيانة من قبل؟ وهل سيتحمّل أحدٌ مسؤوليّة هذا التّقصير الكبير؟ مطالباً الحكومة بتقديم توضيحاتٍ لذلك.
غير مرغوبٍ فيه
يعتمد النّظام بشكلٍ كبيرٍ على واردات النّفط الإيرانيّ، التي تغطّي نحو 80 بالمئة من احتياجاته البالغة 136 ألف برميلٍ يوميّاً، والتي يُنتج منها النّظام نحو 24 ألف برميل يوميّاً.
وشوهدت ناقلتي نفطٍ إيرانيّتين ترسوان قبالة السّاحل السّوريّ، الأولى منذ نهاية حزيران الماضي، والثّانية منذ تموز الماضي، لكنهما لم تفرغا حمولاتهما. وتفيد المعلومات أن تسرباً نفطيّاً حدث دون أن يُكشف عن الأسباب. ومنذ توقيع سوريا وإيران اتّفاق خطّ الائتمان في 2013 ترسل طهران ناقلتي نفط شهريّاً الى سوريا، حمولة كلّ ناقلةٍ مليون برميلٍ. ورفضت (قسد) تزويد حكومة دمشق بالنّفط الخام، كما كانت تفعل ذلك سابقاً، بعد تحذيراتٍ أمريكيّةٍ شديدةٍ لقسد، منذ دخول قانون قيصر حيّز التّنفيذ. يُضاف إلى ذلك توقّف التّوريدات التي كانت تأتي عن طريق لبنان، عقب انفجار مرفأ بيروت في آب الماضي، ودخول لبنان في أزمةٍ سياسيّةٍ واقتصاديّةٍ خانقةٍ.
ويقدّر مركز عمران للدراسات الاستراتيجيّة، في دراسةٍ له منشورةٍ في حزيران الماضي، أنّ حجم إنتاج سوريا من النّفط الخام بلغ 24500 برميلٍ يوميّاً في العام الماضي، مقارنةً ب 385 ألف برميلٍ في 2010، بنسبة هبوطٍ 94%. واعتبر المركز، ومقرّه تركيا، أن هذا الحجم من الإنتاج "غير قادرٍ على الإيفاء سوى بـ 18% من الاحتياجات اليوميّة، إذ يبلغ الاستهلاك اليوميّ 136 ألف برميلٍ يوميّاً". وأمام ارتفاع كلفة استيراد المشتقات النّفطيّة التي يحدّدها رئيس حكومة النّظام السّوريّ حسين عرنوس ب " ملياري دولارٍ سنويّاً"، والدّمار الذي لحق بالاقتصاد السّوريّ عقب 10 سنواتٍ متواصلةٍ من الحرب، والخسائر الكبيرة التي تكبّدها، والمقدّرة بما يفوق 442 مليار دولارٍ، وفقاً للجنة الأمم المتّحدة الاقتصاديّة والاجتماعيّة لغربي آسيا (الأسكوا) في تقريرٍ جديدٍ لها أصدرته أيلول الجاري، لم يبقَ أمامه سوى الحليف الإيرانيّ الذي يزوّده باحتياجاته من النّفط. لكن استحواذ الحليف الرّوسيّ على الملف السّوريّ، طرح الكثير من التّساؤلات، وسجّلت العديد من المواقف الاستفهاميّة حول استعداد طهران المستمرّ لتأمين احتياجات دمشق من النّفط، برغم بروز مؤشّر، أنّ الوجود العسكريّ الإيرانيّ في سوريا لم يعد مرغوباً فيه دوليّاً.
ويلاحظ الصّحفيّ مصطفى السّيّد أنّ الرّئيس السّوريّ بشار الأسد "نجح في تجاوز معظم الأزمات التي أحاطت بحكمه لسوريا" منذ توليه السّلطة في 2000، وذلك "رغم ارتفاع الثّمن الذي كان مُكلفاً لمعظم السّوريّين، ولسوريا ككيانٍ سياسيٍّ حديثٍ، تهتز أسسه وحدوده التي وضعها الانتداب الفرنسيّ البريطانيّ لبلاد الشّام مع نهاية الحرب العالميّة الأولى" وفقاً للسيّد.
صراع قوىً
أزمة البنزين، ونظيرتها أزمة الخبز، اللتان أثقلتا كاهل السّوريّين، هما أحد أشكال صراع القوى المتعدّدة على مناطق النّفوذ في سوريا الجريحة، وما تبقى من أوراق ضغطٍ متبادلةٍ بيد حلفاء النّظام وأعدائه، تمهيداً للمرحلة القادمة. وإذ يعيش السّوريّون أزماتهم القاسية، يُغرّد نظامهم خارج سرب مطالبهم، وتطالبهم حكومتهم بالصّمود، فيما القوى المتحاربة تتصارع على مناطق النّفوذ، وتحاول ترسيخ حضورها القسريّ باتّفاقات متعدّدةٍ، غير متكافئةٍ.