ما هي مشكلةُ السّورّيينَ مع وزيرِ التّربيةِ الجديدِ؟
ما إنّ تمّ تكليف دارم الطبّاع وزيراً للتربية في التّشكيلة الجديدة للحكومة السّوريّة للعام 2020م، حتّى ثارت موجةُ سخريةٍ واستنكارٍ، شغلت حديث الّناس وعمّت مواقع التّواصل الاجتماعيّ، وشملت هذه الموجة بطبيعة الحال سوريي الدّاخل والخارج، والسّبب الظّاهريّ يعود إلى أنّ وزير التّربية الجديد يحمل في الأصل شهادةً في الطّبّ البيطريّ، وقبل أن يبتّ الوزير الجديد بأيّ قرارٍ، تمَّ الحكم عليه سلفاً: بأنه قادمٌ ليجهض ما تبقى من العمليّة التّعليميّة في سوريا.
وما زاد المسائل حدّةً عند السّوريّين أولى قراراته المتضمّنة عودة المدرسة في 13/9/2020م، على الرّغم من انتشار جائحة كورونا، وقد اتَّهم وزير التّربية كلّ من عارض قراره بالجهل والتّآمر، ومن جملة ما قاله: "أنا وجدت أنّ الحملة الفيسبوكيّة يقودها أشخاصٌ، قسمٌ منهم من الكادر التّربويّ، وقسمٌ ليس له علاقةٌ بالكادر التّربويّ لا يؤمن بالعلم أو له استفادةٌ خاصّةٌ من توقيف العلم"، وقدّم نصيحته الذّهبيّة بألّا تكون المعلومات فيسبوكية، بل مبنيةً على المحاكمة العقليّة، وبناءً على نصيحته سنبدأ محاكمتنا العقليّة لتصريحاته حول عودة المدرسة من جهةٍ، وردود الفعل حول هذه التّصريحات من جهةٍ أخرى.
صرّح وزير التّربية في احتفاله بعودة المدرسة: "إنّها لحظاتُ سعادةٍ تغمر الشّعب السّوريّ في كلّ أرجاء سوريا، وهو يستعدّ لحملة العودة إلى المدرسة، والمجتمع بكامله يستعدّ لتجميع الكتب التي بقي لها على الرّفوف أشهراً طويلةً".
السّعادة التي تكلّم عنها الوزير؛ والتي تشمل الشّعب السّوريّ وفي كلّ أرجاء سوريا بحسب ادّعائه بعودة المدرسة في 13 أيلول، ينفيها تقريرٌ صادرٌ عن جريدة عنب بلدي السّوريّة في 21/9 /2020م، جاء فيه أنّ المناطق الخارجة عن سيطرة النّظام، لها مواعيدٌ مختلفةٌ في العودة إلى المدرسة عن موعد المناطق الخاضعة لسيطرة النّظام، ففي محافظة إدلب، وفي ريف حلب الشّماليّ، وفي ريف اللاذقية، بدْءُ العام الدّراسيّ سيكون في 26 أيلول، في ظلّ ظروفٍ قاهرةٍ من قلّة عدد المدارس وضعف تجهيزاتها، أمّا في مناطق سيطرة الإدارة الذّاتيّة شمال شرقيّ سوريا؛ فيبدأ العام الدّراسيّ في 4 تشرين الأوّل، بينما يبدأ العام الدّراسيّ وسط صعوباتٍ في شمال غربيّ سوريا، وتُصارع مديريّة تربية حماة الحرّة التّابعة للحكومة السّوريّة المؤقّتة للبقاء، بسبب نقص الدّعم والخشية من عدم استمرار المديريّة بعملها وسط الصّعوبات التي تواجهها، بينما تغيب العمليّة التّعليميّة عن عشرات المخيمات في ريف إدلب.
إذا أخذنا تصريح وزير التّربية على محمل الجدّ، وأنّ هناك فعلاً سعادةً بعودة المدرسة، هذا يعني أنّ المناطق الخارجة عن سيطرة النّظام التي لن تعود للمدرسة في 13 أيلول، هي مناطق لم تعد سوريّة بالنّسبة للوزير، وهذا بحدّ ذاته اعترافاً ضمنياً بتقسيم الأراضي السّوريّة، وقد جاء تصريحه عن التّعلّم والتّعليم ليصبّ في نفس النّتيجة حين قال: "نحن مررنا بظروفٍ أصعب من كورونا بكثيرٍ، كنّا تحت القصف تحت الإرهاب تحت كلّ الظّروف نذهب إلى مدارسنا، ومعلماتنا هناك منهم شهداء وأطفالنا هناك منهم شهداء، ولم يثنينا ذلك عن التّعلّم، الدّولة السّوريّة وباهتمامٍ كبيٍر منها أعطت التّعليم أولوية، لم يتوقّف التّعليم يوماً واحداً".
اقرأ أيضاً:
الإصرار الرّسميّ على فتح المدارس أثناء الكورونا.. ماذا في الخفاء؟
اللّغة التّعميميّة التي استخدمها في خطابه، يمكن مقارنتها ببياناتٍ وإحصائيّات المنظّمات الدّولية حول الواقع التّعليميّ في سوريا، فقد جاء في تقرير (منظّمة الأمم المتّحدة للطفولة "يونيسف"): "إنّ ثلث الأطفال السّوريّين حُرموا من التّعليم جرّاء الحرب، فيما حُرم قسمٌ كبيرٌ منهم من الخدمات الصّحّيّة"، وهذه إشارةٌ أخرى تدلّل على أنّ سوريا بالنّسبة للوزير هي المناطق الخاضعة لسيطرة النّظام.
وردّاً على سؤال تعليق الدّوام للمرحلة الابتدائيّة جاء جواب وزير التّربية: "هل يمكن أن نغامر بجزءٍ من الطّلاب على حساب جزءٍ. طلابنا بالإعداديّ والثّانويّ أليسوا أبنائنا؟ ألا تهمّنا مصلحتهم؟ هذا الطّرح طرحٌ غير إنسانيٍّ، إذا كان هناك أيّ خطرٍ فالحكومة واعيةٌ جداً، ولن تقوم بأيّ عملٍ يضرّ الطّلاب"، لكنّ الحكومة التي وصفها الوزير بالوعي ذات السّلوك الإنسانيّ، بحسب الشّبكة السّوريّة لحقوق الإنسان هي المسؤولة عن 3 آلاف طفلٍ و561 قيد الاعتقال أو الاختفاء القسريّ، وفي تقريرٍ للمنظّمة الأمميّة 13 آذار/2020م "إن 575 ألف طفلٍ نزحوا من بيوتهم خلال الفترة الممتدّة بين كانون الأول 2019/وآذار 2020م"، نحن هنا نتكلّم عن الأحياء من الأطفال، مَن هم بحاجةٍ للتعلم، لذلك لم نورد التّقارير التي وثّقت مقتل الآلاف من الأطفال على يد النّظام السّوريّ وشركائه إيران وروسيا، فهل هؤلاء ليسوا بأبنائنا ومصلحتهم لا تهمّ الوزير؟ بالتّالي إنّ هذا الحرص الإعلاميّ المجّانيّ للحكومة لم يعد يخفى على أحدٍ.
"إذا لم يرغب الأهل بإرسال أطفالهم فهذا أمرٌ خاصٌّ بهم، هناك قوانينٌ وأنظمةٌ تطبّق في إلزاميّة التّعليم"، هذا ما صرّح به وزير التّربية لمن لن يرسل أطفاله إلى المدرسة، إنّ قانون إلزاميّة التّعليم الذي لوّح باستخدامه الوزير كتهديدٍ مبطّنٍ للأهالي، لم يسجّل تطبيقاً لأيّ عقوبةٍ منذ أن أُصدر عام 1986م حتّى الآن، ومن المعروف أنّ مناطق كثيرةً الآن لا يوجد فيها سلطةٌ للنظام رغم وقوعها تحت سيطرته، بالمحصلة هذا التّهديد لإجبار السّوريّين على إرسال أطفالهم إلى المدرسة، بالتوقيت الذي تفرضه الحكومة، يمكن قراءته كمحاولةٍ يائسةٍ لإثبات تماسك النّظام وقوّته، في الوقت الذي لم يعد له وجودٌ سياديٌّ داخل مؤسّساته المهمّة.
لم يكتف وزير التّربية بالاتّكاء على التّهديد بل تجاوز ذلك إلى التّآمر والتّخوين، ففي الاحتفالية التي أقامها بمناسبة عودة المدرسة التي أقيمت في 9/9/2020 صرّح : "نريد بهذا اللّقاء أن نبدّد كلّ شكوكم التي صنعتها صناعة تريد أن تخرّب عقولكم، وتريد أن تجعل مِنّا شعباً جاهلاً". ينطوي هذا التّصريح على تناقضٍ بين الاعتراف الرّسميّ بتفشي الكورونا، واستخدام وزير التّربية لنظرية المؤامرة؛ التي تريد أن تخرّب عقولنا وتجعل منّا شعباً جاهلاً، النّظرية التي أصبحت شمّاعةً لأيّ حدثٍ في أروقة النّظام، ولم تقف تناقضاته هنا، ففي المُشادّة التي تمّت بينه وبين عميد كلّيّة الطّبّ نبوغ العوا، وبغضّ النّظر، إن كانت هذه المشادّة مصطنعةً لتخدم هدفاً ما، فقد كانت أولى تناقضاته لتبرير قراره: أنّ نبوغ العوا لم يغلق الكلّيّة والمشافي وهو مستمرٌّ في عمله.
ليس من المفاجئ أن يكتمل هذا الردّ الطّفليّ بتخوينه الأطباء، حين اتّهمهم بإهمال إجراءات الصّحّة العامّة، وإذا كان هذا الطّرح السّاذج جعله يستنتج أنّ الأطفال أكثر وعياً من الأطباء، فهناك سذاجةٌ أكبر عندما اعتبر أنّ وعي الأطفال بسبب خوفهم؛ وبدورنا نسأل من عمق التّربية وعلم النّفس: متى كان الخوف يشكّل وعياً؟ فالوزير الذي ربط الخوف بالوعي، جعلته نفس السّذاجة يقارن مدارس سوريا بمدارس السّويد عندما قال: "بعض الدّول مثل السّويد لم توقف التّعليم إطلاقاً، ولم يكن هناك خطورةٌ على الطّلاب"، "أنت تعلم حجم مدارس سوريا المنتشرة على بقاع الوطن من ساحاتٍ وملاعبٍ وقاعاتٍ صفيّةٍ، وهذا يخفّف من الضّغط السّكنيّ بدوام الطّلاب والمعلمين الذين سينتشرون في أماكن فسيحةٍ في المدارس" يبدو هنا أنه كان يتخيّل المدارس السّويديّة بساحاتها وملاعبها وقاعاتها الصّفيّة، وليس المدارس السّوريّة ببنيتها التّحتيّة والفوقيّة المسحوقة.
يعرّف "جاد الكريم الجباعي" السّياسة بأنها "إدارة الشّؤون العامّة تشاركيّاً، وفقاً لمبادئ الفاعليّة والشّفافيّة والمساءلة والمحاسبة، والمرونة والجدوى والمسؤوليّة الاجتماعيّة والأخلاقيّة، والتّفاعل الخلّاق مع البيئة الطّبيعيّة والاجتماعيّة والثّقافيّة، ما يدمج المسألة الاجتماعيّة في المسألة الإيكولوجيّة الكبرى ومنظوماتها الحيويّة، أي بشروط إمكان الحياة الإنسانيّة وتطورها وشروط تحققها". هذا التّعريف للسياسة يجعل من جملة وزير التّربية: "التربية لا تخضع للسياسة"، جملةً صحيحةً، فالتّربية في سوريا حقيقةً لا ترتبط بالسّياسة على ضوء ما عرّفها جاد الكريم الجباعي، ولكنها بذلك ستأخذ المنحى المعاكس لما قصده وزير التّربية، فما قصده هو سياسة القوى التّسلّطيّة، وبالتّالي تصبح جملته كاذبةً كون وزير التّربية كان مديراً لتطوير المناهج منذ عهدٍ قريب، فليس من المعقول أن يكون قد نسي كيف يتمّ تسييس المناهج لدينا، والتي أشرف عليها هو بنفسه.
ونصل أخيراً لتحضيرات وزارة التّربية للعودة إلى المدرسة، فقد تكلّم وزير التّربية عن تحضيراتٍ مكتملةٍ ومتكاملةٍ من تعقيمٍ للمدارس، وتجهيز المقاعد والمرافق، ومعالجة الكثافة الصّفيّة، والدّور الفاعل لمديريّة الصّحّة المدرسيّة، ووضع مشرفٍ ومشرفةٍ صحيّةٍ في كلّ مدرسةٍ، وتأمين ميزان حرارةٍ إلكترونيٍّ لكلّ مدرسةٍ، وفحص جميع الطّلاب قبل دخولهم المدرسة، بالإضافة لاتّصاله عبر السّكايب مع مدراء التّربية في المحافظات، وتأكيد الجميع على جاهزية مدارسهم. وبمقارنة ما ذُكر من تحضيراتٍ مع واقع المدارس بعد افتتاحها، فإنّ كلّ هذه الإجراءات التي تكلّم عنها بقيت سجينة خطابه، وقد صدق عضو مجلس الشّعب "سهيل الخضر" عندما قال: "البروتوكول الصّحّيّ في وزارة التّربية لم يُحدث أيّ تغييرٍ في المدارس، سوى في مدرسة تمّت زيارتها من قبل وزير التّربية".
المحاكمة العقليّة التي أجريناها لتصريحات وزير التّربية حديث العهد، ليست بقصد إضافة إداناتٍ للإدانات التي نالها من الشّعب السّوريّ منذ توليه منصبه الجديد وحتّى الآن، وإنّما لنخلص إلى ثلاثة أسسٍ شكّلت الأعمدة الخفيّة لتصريحاته وهي: التّخوين، ونظرية المؤامرة، والكذب، وهذا ما يؤكّد أنه يتكلّم من حضن النّظام وبلسانه، فهذه الأسس هي ما يشكّل الطّبيعة التّسلّطيّة للنظام السّوريّ، ممّا يعني أنّ ما يقوله وزير التّربية هو لسان السّلطة، وأنّ ما قاله هو ما يتحتّم عليه قوله، والمعركة الدونكيشوتيّة التي يديرها اليوم، ما هي إلّا تمريرٌ لاستراتيجيات النّظام التّسلّطيّة، ومن بينها استراتيجيّة "الإلهاء" "نعوم تشومسكي"، والتي تنحصر وظيفتها في حرف المشكلة عن جهتها الحقيقيّة، عن طريق الإشغال المجانيّ للمجتمع، دون أن يكون لدى أفراده أيّ وقتٍ للتفكير.
فالمسألة في سوريا، كما شخّصها "جاد الكريم جباعي"، "مسألة نظامٍ اجتماعيٍّ – سياسيٍّ تسلّطيٍّ، وظيفة المؤسّسات الرّئيسة فيه هي تحقيق الانضباط الاجتماعيّ الكلّيّ معرفيّاً وفكريّاً وثقافيّاً وأيديولوجيّاً وسياسيّاً، ما جعل من المؤسّسات سجوناً لمحكومين مجردين من الكرامة الإنسانيّة والحقوق المدنيّة والسّياسيّة، وقلاعاً لحاكمين متعالين على المبادئ والقيم والقوانين".
بمعنى أنّه لا يمكن فصل وزارة التّربية والتّعليم في سوريا عن باقي المؤسّسات التي تنحصر وظيفتها الرّئيسة كما أشار "جاد الكريم جباعي"، في تعميم إملاءات السّلطة، التي تحتكر العمل المؤسّساتيّ لضمان بقائها ولخدمة مصالحها، ولهذا يصرّ الجباعي على أنّ النّجاح المؤسّسيّ أو عدم نجاحه قائمٌ على معرفة "الفرق بين مجتمعٍ مدنيٍّ يتّسم بمواطنةٍ نشطةٍ ومواطناتٍ غيوراتٍ ومواطنين غيورين على المصلحة العامّة، وعلاقاتٍ سياسيّةٍ قوامها الحرّيّة والمساواة، ونسيجٍ اجتماعيٍّ من الثّقة والتّعاون، وبين مجتمعٍ مصابٍ بلعنة السّياسات ذات البنيان الرّأسيّ، وحياةٍ اجتماعيّة تتّسم بالتّفكك والعزلة، وثقافةٍ من عدم الثّقة".
المشكلة إذن، أنّ العلاقة بين المؤسّسات والأفراد في الأنظمة التسلطيّة، تقوم أساساً على عدم الثّقة، فالمؤسّسات تنظر إلى الأفراد كأدواتٍ، وتجعلهم متساوون ـــــ بحسب الجباعي ـــــ في كونهم لا شيء، والأفراد في ضوء التردّي المستمرّ للسلطة وارتهاناتها للقوى الخارجيّة التي تتحكّم بها، أصبح من الطّبيعيّ أن يشكّل الشّكّ وعدم الثّقة العلاقة التي تربطهم بالمؤسّسات، باعتبارها الوجه الآخر للسلطة، ممّا يعني أنّ أيّ تصريحٍ سيصدر عن أيّ مسؤولٍ أو مديرٍ، سيقابَل بالشّكّ والرّفض كما حصل مع وزير التّربية، فلو اتّخذ وزير التّربية قراراً مختلفاً كتأخير عودة المدرسة إلى إشعارٍ آخر، سنجد نفس الاحتجاج والرّفض الذي تعرّض له قرار عودة المدرسة، المسألة برمّتها تتعلّق بمحاولة السّلطة في تحميل المسؤوليّة للمؤسّسات، وابتعادها عن النّقد المباشر عبر إشغال المجتمع وحرف تفكير الأفراد كما ذكرنا، ولكن أن ننسى أنّ المؤسّسات هي ذراع السّلطة في بسط سيطرتها، وأنّ مشكلتنا ليست مع هذه الذّراع وإنّما مع من يحركها، فإنّنا سننظر إلى الجهة الخاطئة، ونبقى حبيسي شهادة الوزير البيطريّة وقراراته.