اشتباكٌ وخطابُ كراهيةٍ بين السّهلِ والجبلِ تُشعِلهُ الفصائلُ
اشتباكٌ وخطابُ كراهيةٍ بين السّهلِ والجبلِ تُشعِلهُ الفصائلُ
ابنتا الجنوبِ السّوريِّ (القريا وبصرى).. السّواترُ التّرابيّةُ بديلاً للمحبّةِ
العويد: مخاوفٌ من توسّعِ البيئةِ المشجّعةِ على التّصادمِ
أبوعمر: روسيا وإيران حَرَّكَتَا أزلامهُمَا لإثارةِ الفوضَى
تدحرجت كُرة النّار بين السّهل والجبل، سُرعتها هذا العام كانت بواقع مواجهتين داميتين، بين ابنتي الجنوب السّوريّ (القريا وبصرى الشّام)، الأوّلى في آذار والثّانية في أيلول المنصرمين، بحصيلةٍ مُعلنةٍ تبلغ عشرات القتلى ومئات الجرحى، ومحاولاتٍ روسيّةٍ وإيرانيّةٍ للاستحواذ فرديّاً على الجنوب السّوريّ. فيما أبناء درعا والسويداء هم وقود هذه المعركة، التي يُشعلها قادة الفصائل المسلّحة من كلا الجانبين. إذ رُفعت السّواتر التّرابيّة بين القريا وبصرى الشام، وأُقيمت المحارس، وأَطلت مخالب العنف والعسكرة. أما الجغرافيا الواصلة بينهما (نحو 15 كم)، والتي كانت حقولاً زراعيّةً تفيض بالقمح، فبدّل معالمها قادة الفصائل، وحوّلوها إلى ساحات معاركٍ واستهدافٍ. هنا يستبدّ الرّضوخ لإرادة قوى النّفوذ الأجنبيّ بالعقد الاجتماعيّ التّاريخيّ، ويحاول الرّصاص أن يَتغلّب على القمح.
فصائلٌ وعصابةٌ
ثبّت الجيش السّوريّ أربع نقاط تمركزٍ له بين القريا في ريف السويداء الغربيّ، وبصرى الشّام بريف درعا الشّرقيّ، للحدّ من الانفلات الأمنيّ الذي تقوده الفصائل المسلّحة بالسويداء، واللّواء الثّامن الذي يقوده أحمد العودة في بصرى. اللافت أنّ جميع الفصائل المذكورة واللّواء التّابع للفيلق الخامس مرجعيتهم الحلفاء، الرّوس والإيرانيّين والنّظام السّوريّ. ويرى الأكاديميُّ واثق أبو عمر أنّ المواجهات المتكرّرة "مرتبطةٌ بالصّراع بين الرّوس والإيرانيّين على الجنوب". ويشرحُ أستاذُ الاقتصاد والتّمويل في الجامعة العربيّة الدّوليّة في حديثه لـ (صور) بأنّ "إيران تحاول التّغلغل في السويداء من خلال العصابات، وأهمّها ما يسمّى بالدّفاع الوطنيّ"، كاشفاً عن أنه في الأسابيع الأخيرة "وزّعت إيران المزيد من السّلاح على ميليشيا الدّفاع الوطنيّ" في جنوب المحافظة ثمّ دفعتهم إلى "مهاجمة عصابة أحمد العودة بدعوى "تحرير أراضي القريا المحتلّة" وفقاً لتعبيره. وكانت ميليشيا العودة (اللّواء الثّامن) توغّلت عقب مواجهات آذار الماضي لمسافة ستة كيلومتراتٍ في الأراضي الزّراعيّة التّابعة للقريا، وأقامت المحارس فيها. ويؤكّد أبوعمر أنّ "الرّوس يحرّكون أزلامهم وكذلك الإيرانيّون، بهدف إثارة الفوضى والفتنة بين السويداء ودرعا لإضعافهما، وتسهيل السّيطرة عليهما، وخلط الأوراق والتّخلّص من أكبر عددٍ من سكّانهم".
وينطلق الصّحفيّ محمّد العويد من بديهيّةٍ أوّليّةٍ؛ هي "تحميل القوى الإقليميّة والدّوليّة اللاعبة في السّاحة السّوريّة، والمُسيطرة على مراكز القوى العسكريّة والسّياسيّة، مسؤوليّة أيّ اشتباكاتٍ في أيّ جزءٍ من الجغرافيا السّوريّة". وفيما يتعلّق بالجنوب السّوريّ "تتّضح سيطرة الجانب الرّوسيّ، صاحب القرار النّهائيّ"، وفقاً للعويد الذي يرى أنّ ثَمّة إشكاليّةً هنا تتمثّل بأنّ "السّيطرة غير مكتملةٍ"، لأنّ الرّوسيّ "محكومٌ بلعبة توازناتٍ مع حلفائه"، سواءً الجانب السّوريّ وما يمثّله من قوىً على الأرض، أو الجانب الإيرانيّ الذي "ثَبُتت قدرته على الاختراق" واستثماره في جوانب مختلفة أبرزها "الجانب الدّينيّ"، إضافةً إلى "اللّاعب الإسرائيليّ الحليف للروسيّ، ومخاوفه وحساباته". ويرى العويد أنّ كلّ العوامل السّابقة "تتداخل في الجنوب السّوريّ، إذ يبحث كلّ طرفٍ عن أولوياته، بمعزلٍ عن التّوافق الشّكليّ الظّاهر". معتبراً أنّ اللّاعبين السّابقين "تخلّوا" عن الأصل في تحقيق حالة تناغمٍ، والتي ستنعكس على مجمل الحالة البشريّة" ما أدّى إلى "سهولة اختراقها والسّيطرة عليها". ويتوقّع العويد " توسّع البيئة المشجّعة على التّصادم، مع زيادة رقعة الفقر والجوع وندرة العمل، وتحريض الأطراف بحسب المصالح والتّبعيّة، وغياب أيّ قدرةٍ للنظام السّوريّ على حماية النّاس وتوفير الحدّ الأدنى لحياتهم."
النّيران الخامدة
يهيّئ قادة اللّواء الثّامن في بصرى وفصائل السويداء المسلّحة كلّ الظّروف التي تؤدّي إلى تفجير برميل البارود، ويسعى هؤلاء بسلوكهم وخطاب الكراهية الذي يتبادلونه، واستخدامهم مصطلحاتٍ مرفوضةٍ قطعيّاً من قبيل" احتلال"، إلى إشعال النّيران الخامدة، ويتبادلون الأدوار في الاعتداء على النّاس، وبثّ أجواء الخوف جراء عمليّات الخطف والسّطو والسّرقة.
ويُسجّل الصّحفيّ السّوريّ المقيم في باريس العويد "تخوّفهُ مِن ألّا يكون الاشتباك الحالي هو الأخير" بين القريا وبصرى، مدعّماً رأيه بأنّ اللّاعب الإيرانيّ "أراد دوماً بعث رسائل تؤكّد دوره وحضوره وقدرته على التّحرّك، ولن يُسلّم دوره تحت رغبات الآخرين، ويخرج دون حصّةٍ من الكعكة السّوريّة". ويذهب العويد في قراءته لمشهد الجنوب السّوريّ، بأنّ الإيرانيّ "إذا نجح في قصقصة أجنحة يرعاها الرّوسيّ (اللّواء الثّامن)، سيجلس على طاولة التّفاوض لا على أطرافها"، سيّما وأنّ حضوره بدأ "بالتّراجع" في غرب حوران وشمالها، وبالتّالي "فرصته مواتيةٌ في شرقها"، ولم تخرج محاولة اغتيال العودة وقادته من رعايته، والرّوسيّ لن يسمح بذلك، والضّحايا هم أبناء السّهل والجبل، وفقاً للعويد الذي يُصرّ على "عدم إلصاق تهمة العمالة" بطرفٍ دون الآخر، كون مدن الصّفيح "قابلةً للاشتعال لأنّها متروكةٌ، وليس لعمالة قاطنيها".
وردّاً على سؤال (صور) لماذا يختار المتنافسون الجنوب السّوريّ؟ يُجيب العويد بأنّ التّنافس "على مجمل السّاحة السّوريّة"، في دير الزور بدأ الرّوسيّ بتشكيل الفيلق الخامس، وهو ما يعتبره الإيرانيّ "أرضاً حصريةً له"، وبالاقتصاد يتقدّم الرّوسي ويتراجع الإيرانيّ، لكنّ الجنوب أكثر "مجهريّةٍ" في السّاحة السّوريّة، لأنّ الحديث هو عن ثلاث محافظاتٍ متجاورةٍ، ويمكن لكلّ "لاعبٍ أنّ يَتحرّك ويُغيّر قواعد الاتّفاق الهشّ أصلاً بين الرّوسيّ والإيرانيّ والإسرائيليّ"، وفقاً للعويد.
وكانت روسيا شمّلت الجنوب السّوريّ، ضمن مناطق خفض التّصعيد 2017، وأنجزت المصالحة في درعا ضمن توافقٍ أمريكيٍّ إسرائيليٍّ أردنيٍّ في صيف 2018، وهذا كلّه يندرج في إطار صفقة أو اتّفاق الجنوب السّوريّ ( القنيطرة، ريف دمشق الغربيّ، درعا، السويداء) الذي كان من أبرز نتائجه سحب الميليشيات الإيرانيّة ومعدّاتها من تلك المنطقة، والمقدّر عددها بنحو ألف مقاتلٍ، و 24 راجمة صواريخ ومنظومةً صاروخيّةً و145 وحدةً من أنواع الأسلحة والمعدّات العسكريّة، واستقرارها شرق دمشق، على بعد 140 كيلو متر من الحدود السّوريّة عند نقطة التقائها مع المناطق التي تحتلها اسرائيل.
رمزيّة بصرى والقريا
استهداف القريا وبصرى، هو تطاولٌ على رموزٍ تاريخيّةٍ في الوجدان السّوريّ، ومحاولاتٌ متجدّدةٌ لتشويه الصّورة المثلى للرموز الوطنيّة. وتتمثّل رمزيّة القريا، كونها منبع الثّورة السّوريّة الكبرى، وموطن قائدها العامّ سلطان الأطرش. القريا عنوةً، من بين أكثر من 20 قريةً تابعةً للسويداء تمتدّ على طول الحدود الإداريّة الفاصلة بين المحافظتين، ويقابلها أيضاً نحو 20 قريةً تتبع لدرعا. وتشكّل القريا رمزاً تراثيّاً ووطنيّاً بالنّسبة لأهالي السويداء بخاصّةٍ، والسّوريّين بعامّة. وهي جزءٌ من الذّاكرة الجمعيّة السّوريّة، يتوسطها متحفٌ ضخّمٌ يضمّ مقتنيات الثّورة السّوريّة الكبرى، وهي صرحٌ يدلّ على ثورةٍ تميّز رجالها بوعيٍ وطنيٍّ، مكّنهم من تسجيل الانتصارات على الاستعمار الفرنسيّ 1925 ـ 1927، وهي الثّورة التي كانت الحامل الموضوعيّ لإنجاز الجلاء التامّ في 1946. رمزيّة القريا أنها احتضنت أدهم خنجر، ومنها أعلن بيان الثّورة، وفيها رفض الأطرش محاربة الجيش السّوريّ الذي وجّهه أديب الشّيشكليّ في مطلع خمسينيّات القرن الماضي، للانتقام من السويداء.
اقرأ أيضاً:
كذا الأمر بالنسبة لبصرى الشّام، والتي تُعدّ من أغنى مدن التّاريخ، فيها صورةٌ مختصرةٌ لمجد الرّومان في تلك المنطقة، تشتهر بمسرحها التّاريخيّ (مدرّج بصرى)، وآثارها التي تعود لآلاف السّنوات، وكانت عاصمةً دينيّةً وتجاريّةً لعدّة حضاراتٍ، وهي مصنّفةٌ ومسجّلةٌ دوليّاً في اليونسكو ضمن قائمة مواقع التّراث العالميّ. هذا الحامل الوطنيّ والتّاريخيّ، يتناقض مع لغة خطابٍ خشبيّةٍ، تنضح من مخزون الكراهية، وتنزلق إلى القاع.
يعتقد أبوعمر بأنّ اختيار بصرى القريبة من القريا، فضلاً عن المكانة التّاريخيّة لكلتا المنطقتين، له علاقةٌ "بطموحاتٍ حزب الله والإيرانيّين، بالعودة إلى بصرى، وإعادة من تمّ ترحيلهم من سكّانها الموالين لإيران، وسبيلهم لذلك أزلامهم من ميليشيات الدّفاع الوطنيّ وكتائب البعث وفصائل عميلةٍ أخرى يقودها قوّادون من السويداء".
لا يتعلّق الأمر بلعنة الجغرافيا، وما بين بصرى الشّام والقريا، ليس مجرّد حدودٍ إداريّةٍ مرسومةٍ، فثمّة علاقاتٌ قويّةٌ ترضخ للاعتبارات الوطنيّة، وهي أعلى درجات العلاقات سموّاً. يشترك أهالي المنطقتين بعلاقات جوارٍ وعملٍ وأخوّةٍ، والطّارئ بينهما هو حالات الاعتداء التي يقوم بها عددٌ من الفصائل المسلّحة، رغم اختلاف تسمياتها وأهدافها. وخلال سنوات الحرب السّوريّة، حافظت السويداء ودرعا على العلاقة المميّزة بينهما، وحاول العقلاء فيهما، منع كلّ يدٍ تحاول العبث بمصيرهما، بالقوّة أحياناً وبطرقٍ ثانيةٍ معظم الأحايين، وهذا ما جنّب المحافظتين حالات الخرق وخلق الفتنة. باستثناء هجوم هيئة تحرير الشّام (جبهة النّصرة سابقاً) المدرجة على قائمة الإرهاب العالميّة، في آب 2014 على قرية داما بالرّيف الغربيّ للسويداء، وما تقوم به عصابات الخطف المتواطئة في المحافظتين. لكن السُبحة لم تكرّ، وكان لدى الجيران من الحكمة والحزم، لمنع الانزلاق، ووقف التّدهور المتوقّع، إلى أن نُفِذت صفقة الجنوب، التي تقاسمت النّفوذ بالمنطقة، وبدلت الفصائل المسلّحة وجهة فوهات بنادقها.
حطب الشّتاء
يمكن أن تنطفئ النّيران التي يُشعلها اللّواء الثّامن وفصائل السويداء المسلّحة، وأنّ كومة القشّ التي رماها الرّوس والإيرانّيون وغيرهم بين السّهل والجبل، يمكن تحويلها إلى حطب الشّتاء، بدلاً من أن تكون شارة البداية لإشعال اللّهب الفتنويّ والطّائفيّ. ويربط الدّكتور أبوعمر حلّ هذه المشاكل حالياً "بالحلّ السّياسيّ المنتظر"، داعياً إلى "صحوة النّاس، ولجم أزلام إيران في السويداء، وعدم الانزلاق خلفهم، تحت أيّ مسمّىً ولا سيّما (الفزعة)، وتركهم مع أزلام روسيا يصفون بعضهم بعضاً". ويتوقّع الأكاديميّ في الجامعة العربيّة الدّوليّة أنّ السويداء "ستدفع المزيد من الدّماء والضّرائب" إذا "لم تتّحد" الفصائل غير التّابعة، "تحت قيادةٍ واحدةٍ وبمرجعيّةٍ سياسيّةٍ" من المثقفين والعقلاء "لاتّخاذ القرارات السّليمة والمواقف القويّة ضدّ ميليشيات إيران وحزب الله". ويدعو الأستاذ الجامعيّ إلى "تشكيل مرجعياتٍ من السويداء ودرعا للتنسيق في مواجهة الفتنة" التي يسعى لها الجميع، وخاصّةً "إيران التي تترنّح وتحاول اللّعب في السّاعات الأخيرة لشعورها بجدّيّة الغرب وروسيا في إخراجها من المنطقة".
ولا يبدي الصّحفيّ العويد "تفاؤلاً" بالحلول الممكنة حالياً "لصعوبتها"، باعتبار "التّعويل" على لغة العقل والحكماء والمشايخ والوجهاء تسبقه "لغة التّمويل والإعداد والقوّة، ومنابعها وتبعيتها"، وما لم تُحسم القضية السّوريّة و"يتموضع" كلّ لاعبٍ في حدوده التي ترسمها ملامح الأيام القادمة فإنّ "أبواب التّشاؤم مشرّعةٌ". ويحمّل العويد "المحتل الرّوسيّ منفرداً، مسؤوليّة حماية المنطقة الجنوبيّة وجغرافيتها وأهلها من التّشظّي أو الاشتباك، والفصل بكلّ القضايا العالقة بدءاً من السّلاح الفصائليّ، وصولاً لإدارة المحافظات، والمعتقلين والإفراج عنهم، وسبل عيش النّاس وعودة الرّاغبين، وتوفير ما يمكن من بيئةٍ معقولةٍ، بانتظار الخارطة النّهائيّة للسلام السّوريّ وتجلّياتها الحائرة بين الرّوسيّ والأمريكيّ وحدهما."
الانزلاق
هو الاستقواء بالقوّات الأجنبيّة المتغلغلة في سوريا، أو تلك الباحثة عن نفوذٍ، والتي تشجّع أذرعتها للمضي في اختلاق أسباب المواجهة والتّصادم. ورغم المحبّة التي جمعت السّهل والجبل، بدا إشعال فتيل الحرب، أسهل بكثيرٍ، من إطفاء نيران الفتنة. إذ تراجعت حكمة العقلاء من الجانبين، أمام أزيز الرّصاص، ولغة التّخوين، وخطاب الاستقواء الفارغ، المتبادل بين القريا وبصرى الشّام، والذي وجد له استطالاتٍ عميقةٍ بين مكوّنات المحافظتين الجنوبيّتين (درعا والسويداء) المنفردتين بالتّوصيف عن بقية المحافظات الأخرى، والمتكاملتين بالمعنى، "السّهل والجبل"، ما يهدّد العيش المشترك بينهما، ويُنذر بانزلاق أبنائهما إلى حيث يريد المخطّطون.