الظّواهر المدنيّة في تجربة حزب العمل الشيوعي في سوريا
يدرس الكاتب والباحث راتب شعبو" قِصّة رابطة العمل الشّيوعيّة في سورية" فصلاً من تاريخ اليسار الجديد، في كتابه الصّادر عن دار المرايا للإنتاج الثّقافيّ في القاهرة، ورابطة العمل الشّيوعيّ كانت إحدى التّجارب السّوريّة الّتي تأسّست في سبعينيّات القرن الفائت، مع بداية توسّعٍ في تأسيس الجمعيات والتّجمّعات والأحزاب السّوريّة لتأصيل المدنيّة في سياق المجتمع السّوريّ.
التّأسيس
ينطلق الكاتب من تشكيل الحلقات، مروراً باجتماعاتها الموسّعة الأوّل والثّاني والثّالث، الذي رسم الحالة السّياسيّة والتّنظيميّة والفكريّة بقرار التّحوّل إلى رابطة العمل الشّيوعيّ في آب عام 1976 حيث أصدرت الرّابطة (13) كرّاساً وهي:
أولاً - " الخطّ الاستراتيجيّ: ملامح الصّراع الطّبقيّ العالميّ، المسألة الأمميّة والحركة الشّيوعيّة العالميّة، مسألة أشكال النّضال والانتقال إلى الاشتراكية، الوحدة العربيّة ومسألة الأقليّات، الثّورة العربيّة والحزب الشّيوعي العربيّ، المسألة الفلسطينيّة، البرجوازيّة الصّغيرة والسّلطة السّوريّة، الطّبقة العاملة السّوريّة، الحركة الشّيوعيّة المحلّيّة، الجبهة والتّحالفات، جدل بناء الحزب الشّيوعيّ في السّاحة السّوريّة".
وثانياً: وثائقٌ من الاجتماع الثّالث الموسّع.
وثالثاً: لماذا رابطة العمل الشّيوعيّ.
مع هذه الكرّاسات ظهرت جريدةٌ دوريّةٌ أطلق عليها اسم" الرّاية الحمراء"، وإلى جانبها مجلّةٌ نظريّةٌ فصليٌّة، هي مجلّة" الشّيوعيّ" نظريّةٌ، فكريّةٌ سياسيّةٌ، صدر منها أكثر من (12) عدداً، ومجلّة" البروليتاري" تُعنى بالصّراع الدّاخلي في التّنظيم، وكانت الأقليّة السّياسيّة والفكريّة في التّنظيم تنشر العديد من الآراء والمواقف فيها، وتكتب النّقد للخطّ السّياسيّ الذي تُعبّر عنه الأكثرية في لجنة العمل، والهيئة المركزيّة.
ومن الأدوات السّياسيّة المدنيّة؛ التي دعت إليها رابطة العمل الشّيوعيّ في نهاية سبعينيّات القرن الفائت هي" الجبهة الشّعبيّة المتّحدة"، حيث يذكر الكاتب، وفق الرّابطة في العدد(35) من الرّاية الحمراء أنّ الجبهة الشّعبيّة المتّحدة؛ هي " الأداة التّنظيميّة للطبقات الشّعبيّة القادرة على صُنع الثّورة الاجتماعيّة، نواتها الأساسيّة هم العمال والفلاحون، وإنّ كانت سوف تضمّ البرجوازيّة الصّغيرة، وبشكلٍ خاصٍّ شرائحها الدُّنيا، هذا هو الحلف الطّبقيّ الشّعبيّ في سورية الّذي سوف يتجسّد أو يجب أن يتجسّد في شكلٍ تنظيميٍّ أي في جبهةٍ شعبيّةٍ متّحدةٍ".
وتضيف الرّاية أنّ "المسألة لا تقف عند هذا الحدّ فلا بدّ لنا أن نحدّد برنامج هذه الجبهة وهدفها الاستراتيجيّ، والذي نعتقد أنه لا يمكن أن يكون إلا برنامج الثّورة الاشتراكية من خلال الإطاحة بسلطة الطّبقات السّائدة وبناء السّلطة الشّعبيّة الثّوريّة".
كما يسرد الكاتب راتب شعبو المزيد من التّفاصيل حول الأدوات السّياسيّة المدنيّة في الكتاب حين يتحدّث عن تحوّل الرّابطة إلى حزبٍ " ولادة حزب العمل الشّيوعيّ وتاريخه" بعنوان" المؤتمر الأوّل لرابطة العمل الشّيوعيّ" حيث عقدت الرّابطة مؤتمرها الأوّل (والأخير)، بين (6 آب في العام1981) في بيت النّائب اللّبنانيّ زاهر الخطيب في قرية شحيم قضاء الشّوف في لبنان، تحت شعار (من أجل بناء الحزب الشّيوعيّ الثّوريّ في سورية، ودحر التّسوية الإمبرياليّة، والظّفر بالحرّيّات السّياسيّة).
ويأتي الكاتب على ذكر وفود الأحزاب والتّنظيمات الفلسطينيّة واللّبنانيّة الّتي حضرت المؤتمر إلى جانب (55) مندوباً، بينهم امرأتان هما حنان الشّريف، ومها محمود، حيث انتخب المؤتمر لجنة المركزيّة التي انتخبت مكتبها السّياسيّ الأوّل بتاريخ الحزب.
ظاهرة اللّجان الشّعبيّة (1984-1986)
يقدّم الباحث شعبو "ظاهرة اللّجان الشّعبيّة" ذات شكلٍ تنظيميٍّ فضفاضٍ ومرنٍ في سورية، والتي شملت قطاعاً واسعاً من الشّباب الفلسطينيّ والسّوريّ الغارق في الهمّ الوطنيّ في تلك اللّحظة التي يصفها الكاتب بـ "الفارقة من تاريخ الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة"، حيث نشأت الظّاهرة في الجوّ السّياسيّ الوطنيّ الشّديد الاضطراب عقب حصار بيروت، وخروج منظّمة التّحرير منها، وتمرّد قطاعٍ من حركة فتح بقيادة أبو موسى على زعامة عرفات ثمّ حرب المخيمات".
ويوضّح الكاتب تعريف وهيكلية " اللّجان الشّعبيّة التي وضعتها في وثيقتها الأوّلى، حيث عرّفت نفسها أنّها هيئاتٌ شعبيّةٌ ووطنيّةٌ وديمقراطيّةٌ، وأنّها ليست حزباً ولا تهدف إلى أن تكون كذلك، وتقبل في عضويتها كلّ وطنيٍّ شريفٍ بغضّ النّظر عن انتمائه التّنظيميّ. مهمتها الدّفاع عن حرّيّة العمل الوطنيّ، إضافةً إلى اهتمامها بالمطالب الوطنيّة والاجتماعيّة للجماهير الشّعبيّة، ونشاطها علنيٌّ. ومن النّاحية التّنظيميّة كانت اللّجان تضمّ أربعةً إلى خمسة أعضاءٍ، تُشكّل على أساس المكان الجغرافي (الحيّ) أو الطّابع المهنيّ( طالب، عامل)، وتَنتخب كلّ لجنةٍ ممثّلاً لها، ثمّ تَنتخب كلّ سنةٍ ممثّلين اثنين منهم إلى ما يسمّى (اللّجنة التّأسيسيّة) الّتي تحوّلت فيما بعد إلى" اللّجنة المشرفة" التي يصل عدد أعضائها إلى ثمانية أعضاءٍ، ويُعاد انتخابها كلّ ستة أشهرٍ، وكلّ لجنةٍ تتمتّع باستقلاليّةٍ في اختيار النّشاطات الثّقافيّة والسّياسيّة في المنطقة الّتي تتواجد فيها دون التّنسيق مع الهيئات التّنظيميّة الأعلى، فالتّنسيق كان يتمّ فيما يتعلّق بتوزيع النّشرات والبيانات السّياسيّة باسم اللّجان الشّعبيّة ككلٍّ".
ويَذكُر الباحث شعبو أنّ المناضل"علي الشّهابيّ، وهو السّياسيّ الفلسطينيّ المستقلّ عن كلّ التّنظيمات الفلسطينيّة، أرسل من سجنه تأييده لتشكيل اللّجان على أن تكون مستقلّةً عن الأحزاب السّياسيّة، وربما بشكلٍ خاصٍّ عن حزب العمل الشّيوعيّ، وبالفعل ازدهرت ظاهرت اللّجان، ولكن الحزب الذي كان له الدّور الأهمّ في بلورتها كان له دورٌ مهمٌّ في سوقها إلى النّهاية الأمنيّة الّتي انتهت إليها".
ويورد شعبو بعض التّفاصيل المهمّة في الكتاب حين يتحدّث عن محاولات نقل ظاهرة اللّجان إلى السّلميّة؛ من خلال المناضل فيصل علوش، الذي اُعتقل على موعدٍ مع شباب السّلميّة في العام 1985، لأنّ تلك المجموعة كانت مخترقةً، ومحاولة نقلها إلى الوسط الكرديّ من خلال المناضل خليل حسين، الذي اُعتقل في حملة1984، غير أنّ التّجربة فشلت؛ بسبب الموقف السّلبيّ للأحزاب الكرديّة، وبسبب حملة الاعتقالات في صيف العام 1984، التي شلّت نشاط الحزب.
ظاهرة التّمرّد
يتناول الباحث شعبو ظاهرة مدينةٍ سوريّةٍ نادراً ما جرى تسليط الضّوء عليها، حيث شكّلت غالباً سمةً وميّزةً عامّةً للشخصيات والأفراد الذين انتسبوا للحلقات والرّابطة وحزب العمل، إذ نلمس" خيط تمرّدٍ اجتماعيٍّ يشكّل قاسماً مشتركاً للشباب للباحثين عن معنىً غير تقليديٍّ لحياتهم, للشباب الضّجرين من ركود محيطهم، والّذين يشعرون بنفور تجاه( العالم القديم) ليس فقط بما يجسّده هذا العالم من تفارقٍ سياسيٍّ عن قيم العدل والنّزاهة والانفتاح؛ التي يطمح إليها ويخلص لها هؤلاء الشّباب، بل كلّ ما يرتبط به هذا العالم من أشكال الحياة والعلاقات والتّقاليد (أركض يا رفيق، العالم القديم وراءك) مثلما كتب الطّلاب في باريس على جدران جامعاتهم في أيّار 1968".
ويوضّح شعبو أنّ هذا النّفور من (العالم القديم) شكّل رافداً من روافد الرّابطة والحزب، وهو رافدٌ غير سياسيٍّ بحصر المعنى، إنّه نزوعٌ تمرديٌّ، أو مضادٌ للمؤسّسة لدى الشّباب، اتّخذ لنفسه أشكالاً مختلفة في البلدان الدّيمقراطيّة، وكانت الرّابطة بوصفها تنظيماً شبابيّاً(متمرّداً) مكاناً جاذباً في بلادنا. على هذا جمعت الرّابطة بين التّمرّدين السّياسيّ والاجتماعيّ، وكانت حاضنةً للكثير من المتمرّدين والطّموحين والمبدعين الشّباب في مختلف المجالات من الفنّ التّشكيليّ إلى الشّعر والرّواية والمسرح.
ويشرح شعبو معنى العالم القديم في سورية زمن الرّابطة؛ بأنّه لم يكن محطّاً للرفض (الطّبيعيّ) من جهة الشّباب بوصفه قديماً، بل بوصفه حاضنة للهزائم والبؤس السّياسيّ والاجتماعيّ، فالتّمرّد الاجتماعيّ على هذا الواقع القديم يتلازم مع التّمرّد السّياسيّ على هذا الواقع المهزوم وطنيّاً أمام العدو الخارجيّ( إسرائيل) والمهزوم داخليّاً أمام العدو الدّاخليّ( النّظام الدّيكتاتوريّ البرجوازيّ)، فهو نزوعٌ إلى التّمايز وصياغة هويّةٍ خاصّة بالمتمرّدين، ويكتسي هيكل الرّفض السّياسيّ بلحمٍ ودمٍ اجتماعيٍّ.
ويستنتج شعبو أنه يمكن الحديث عن (مجتمع الرّابطة) من خلال السّمات التي يُجسّدها بهم، فالشّباب يستخفّون غالباً بالاهتمامات الشّخصيّة الضّيقة، كالمظاهر واللّباس، سواءً لأنهم يرونها ميّزة أخلاقٍ برجوازيّةٍ، أو لأنّهم يعتبرون أنها تُلهيهم عن انشغالهم بالهمّ العامّ؛ الّذي يبدونه على الشّأن الشّخصيّ مهما يكن (الدّراسة، المظهر، المناسبات العائليّة...الخ)، ويستخفّون بالتّقاليد والأصول الاجتماعيّة (للعالم القديم)؛ الذي ينبغي تحطيمه. المنخرطون في الحزب كانت لهم مواصفاتٌ شخصيّةٌ وسلوكيّةٌ متقاربةٌ، انعكس هذا في طريقة الكلام وترديد عباراتٍ متشابهةٍ به أثناء الحديث، وكان ينعكس في الاهتمامات المتشابهة مثلاً (الولع بلعبة الشّطرنج، وبالقراءة والمسرح والسّينما)، ولهم (أبطالهم) الثّقافيّون المشتركون مثل (الشيخ إمام، مارسيل خليفة، مظفر النواب، زياد الرحباني، سميح شقير، رياض الصالح الحسين، مهدي عامل، سعد الله ونوس، فواز الساجر، ونزيه أبو عفش)، كما تميّز شباب الرّابطة والحزب بارتداء ملابس عمليّةٍ من طبيعةٍ متشابهةٍ ( بنطلون الجنز، الفيلد، الحذاء الرّياضيّ أو أيّ حذاءٍ مريحٍ غير الرّسميّ، يحمل في يده حقيبة يدٍ أو كيس نايلون).
ناشطو الرّابطة كانوا ينفرون من كلّ ما هو رسميٌّ، من اللّباس حتّى التّقاليد الاجتماعيّة. لا يمكنك أن تتوقّع رؤية أحد شباب الرّابطة والحزب بربطة عنقٍ. كانت هناك هويّةٌ جماعيّةٌ تتشكّل لهذه الفئة من الشّباب تتكامل شيئاً فشيئاً، تناسب نمط الحياة النّضاليّة والفكر والثّقافة المشتركة.
أمهاتٌ وزوجاتٌ في الشّارع
إنّ نشاط المرأة الأهليّ البسيط وحضورها الفاعل شكّل ظاهرةً مدنيّةً سوريّةً في بداية عقد التّسعينيّات من القرن الفائت.
يسرد الكاتب كيف تمكّن حزب العمل الشّيوعيّ بعد جهودٍ وترتيباتٍ طويلةٍ من تنظيم مظاهراتٍ لأمهات وزوجات معتقلي الحزب أمام القصر الجمهوريّ في حيّ المهاجرين بتاريخ (19/آذار/1990) بلغ عدد النّساء حوالي (300) امرأةٍ من أقارب معتقلي حزب العمل (أمهات، أخوات، وزوجات)، وهتفن يطالبن بالإفراج عن أبنائهنّ، تمّ ترتيب الأمر بحيث يفاجئ الحرس بتشكيل تجمعٍ نسائيٍّ بعد أن تصل النّسوة في مجموعاتٍ صغيرةٍ كلّ مجموعةٍ في سيّارة أجرةٍ.
استمرّت المظاهرة ما يقارب السّاعة قبل أن يُفرّقها الحرس بخشونةٍ، حيث أحضروا باصاتٍ، وأرغموا النّسوة على الصّعود بها، ثمّ اتّجهت الباصات إلى أماكن مختلفةٍ من دمشق، وأنزلت النّسوة، وبذلك انقطع التّواصل فيما بينهنّ، فحضور النّساء في المجال العامّ، ومطالبة السّلطات بطريقةٍ احتجاجيّةٍ؛ كانت بحدّ ذاتها خطوةً جريئةً في سورية بزمانها رغم كلّ الرّعب المسيطر في كلّ شيءٍ.
ظاهرة المحاكمات
في العام 1992 أصدر النّظام قرار بإحالة معتقلي حزب العمل الشّيوعيّ، وغيرهم من أحزاب المعارضة إلى محكمة أمن الدّولة العليا، ووجّهت لهم التُّهم التّالية:
1- جناية الانتساب إلى جمعية أُنشأت بقصد تغيير كيان الدّولة وفق المادّة (306) من قانون العقوبات العامّ.
2- جناية مناهضة أهداف الثّورة عن طريق القيام بتجمّعاتٍ، والتّحريض على أعمال الشّغب؛ بنشر الأخبار الكاذبة بقصد البلبلة وزعزعة ثقة الجماهير بأهداف الثّورة، وفق المادّتين (3) و(4) من المرسوم التّشريعيّ رقم (6) لعام 1965.
3- جناية القيام بأعمالٍ مخالفةٍ لتطبيق النّظام الاشتراكيّ.
ويؤكّد الباحث شعبو؛ أنه مع بدء المحاكمات جرى توزيع رسالةٍ سياسيّةٍ فضحت طبيعة المحاكمة الاستثنائيّة، وتمّ تحشيد عدد من المحاميين للدفاع عن المعتقلين، رغم ذلك أصدرت محكمة أمن الدّولة أحكامها بحقّ كلّ من أُحيل إليها من مناضلي الأحزاب السّوريّة.
إنّ الظّواهر المدنيّة التي رافقت (رابطة/حزب) العمل الشّيوعيّ عديدةٌ، في هذه القراءة سلّطنا الضّوء على أكثرها بروزاً، فالأساس وجود الأحزاب السّياسيّة والجمعيات والتّجمّعات المدنيّة في الحياة العامّة السّوريّة، لكنّ وجود النّظام السّوريّ الذي يشكّل القمع الجسديّ عبر الاعتقال، وعمله على عدم بروز الأحزاب إلا الّتي تعمل على هواه.
وعدم وجود قانون أحزابٍ فترةً طويلةً أعدم الفعل (السّياسيّ- المدنيّ) على الرّغم من الادّعاء بوجود قانون جمعياتٍ خاصٍّ عند وزارة الشّؤون الاجتماعيّة والعمل. فالموجود مجموعةٌ من الطّلبات الإجرائيّة لمن يرغب في ترخيص جمعية.
أخيراً يمكن القول أنّ المدنيّة السّوريّة عميقةٌ وقديمةٌ جداً في المجتمع السّوريّ، وما تمّ الحديث عنه هو جزءٌ يسيرٌ من المدنيّة في الحياة السّوريّة خلال مرحلةٍ تاريخيّةٍ محدّدةٍ.