الشرطة الدينيّة (الحِسبة) ذراع هيئة تحرير الشّام للتضييق على المدنيين وضبط المجتمع
لم تتوقّع صفاء الحلبي، زيارتها إلى حديقة الألعاب بمدينة إدلب مع طفلها للترويح عنه، أن تكون هدفاً لنساء الحِسبة (الشّرطة الدّينيّة) بسبب ملابسها، وهي الّتي ترتدي الحجاب مثلها مثل الكثيرات من نساء إدلب.
عن تفاصيل ما حدث معها تقول الحلبي: "بدأن بتوجيه النّصائح والمواعظ بحجة عدم ارتدائي اللّباس الشّرعيّ أو ما يسمّى " النّقاب" يبدو الأمر لم يرق لنساء الحِسبة اللّواتي اجتمعنَ عليّ وكأنّني أرتكب معصيةً، ورحنَ ينهرنني عن هذا اللّباس ممّا أشعرني بالخجل والإحراج أمام النّاس".
انزعجت الحلبي من تصرفاتهنّ وأخبرتهنّ بأنّها: "حرّيّاتٌ شخصيّةٌ وليس من حقّهن التّدخل" لتتفاجأ بتهديدها بالاعتقال إن لم تنصاع لما أملوه عليها، تقول الحلبي: "لستُ مقتنعةً بوضع النّقاب ويرتابني الضّيق من ارتدائه كونه يحجب الرّؤية بشكلٍ واضحٍ". ما حدث معها كان كفيلاً بجعلها لا تقصد الملاهي مرّةً أخرى خوفاً من تواجد نساء الحُسبة هناك بشكلٍ مستمرٍّ.
أعادت هيئة تحرير الشّام مؤخّراً تفعيل نظام شرطةٍ دينيّةٍ حملت العديد من التّسميات مثل "الحِسبة" أو" سواعد الخير" أو" مركز الفلاح"، وهو ما اعتبره السّكّان المحلّيّون في المناطق الخاضعة لسيطرتهم، كبحاً لحرّيّات الأهالي، وتضييقاً للخناق على المدنيّين باسم الدّين، وخاصّةً في ظلّ الظّروف المعيشيّة السّيّئة الّتي تعيشها المنطقة التي تُعدّ آخر معاقل المعارضة المسلّحة في البلاد.
وتتكّون " سواعد الخير" أو الحِسبة من مجموعة دعاةٍ وداعياتٍ من جنسياتٍ مختلفةٍ، تتجوّل في شوارع إدلب بدعمٍ من كتائب أمنيّةٍ تابعة لهيئة تحرير الشّام، هؤلاء الدّعاة والدّاعيات يتبع/ يتبعن لمركز الفلاح؛ الّذي يتألّف من عدّة مكاتبٍ، وهي: الدّوريات النّسائيّة، المحتسبون، القوّة التّنفيذيّة، مكتب القضاء، إضافةً إلى مكاتب ملحقةٍ كمكتب الشّكاوى والمتابعة.
ويتركّز مهامّ الشّرطة الدّينيّة، والتي تسمّى أيضاً بهيئة " الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر"، حول منع الاختلاط في المطاعم والأماكن العامّة، ومنع بيع الرّجال للملابس النّسائيّة في الأسواق، مراقبة صالات الأفراح والحلاقة والألعاب ومنع "المنكرات" فيها، منع المجاهرة بالتّدخين والأركيلة، ومنع وجود المرأة من دون "محرمٍ" مع صاحب محلّ، ومنع اختلاط الشّباب والبنات في معاهد التّدريس والمطاعم والمكاتب.
روان الأحمد (22سنةً) تعرّضت للاعتقال مع عددٍ من زميلاتها وزملائها أثناء حضورهم لورشة عملٍ في إحدى مراكز التّدريب في مدينة إدلب، تدريبٌ حول "إدارة الذات"، وذلك بحجة الاختلاط، تقول روان: "اقتادونا عناصر الحِسبة إلى المحكمة وكأنّنا مجرمون، وهو ما تسبّب بإحراجٍ كبيرٍ لنا ولأهالينا، وللمركز التّدريبيّ أيضاً، في المحكمة وجّهوا لنا اتّهاماتٍ قالوا إنّها من المحرّمات وهدّدونا باتّخاذ إجراءاتٍ صارمةٍ إذا ما تكرّر الأمر". تتابع روان منتقدةً تصرفات الهيئة بأنّ الأخيرة تستخدم اسم الدّين لتبرير تحكّمها بحياة النّاس اليوميّة؛ وفي الوقت ذاته هي تتجاهل "المسلمين الّذين يعانون الجوع والفقر في المخيمات".
لا يختلف ما حدث مع روان كثيراً عمّا حدث مع الشّابّ علي الباشا الّذي استوقفته سيّارة الحِسبة أثناء تواجده في الشّارع، واقتادوه إلى السّجن ليقبع فيه مدّة ثلاثة أشهرٍ بسبب حلاقة شعره الحديثة " القزع"، يقول علي: " توقّعت أيّ شيءٍ إلّا أن أدخل السّجن بسبب حلاقة شعري، ألهذه الدّرجة وصل بنا تقييد الحرّيّات!".
وسبق أن أثار تعرّض الدّاعيات من " سواعد الخير" لفتياتٍ في سوق مدينة إدلب في حزيران 2017، حالة غضبٍ شعبيّةٍ قابلها تجييشٌ من قبل تحرير الشّام ضدّ الفتيات لرفضهن الإصغاء للداعيات ووصل الأمر لاعتقالهنّ وإهانتهنّ.
وفي شباط 2018 اقتحم عناصر الحِسبة" سواعد الخير" معهد فيثاغورث التّعليميّ في مدينة إدلب بحجة التّفتيش على الاختلاط بين الذّكور والإناث، وقام بالاعتداء بالضّرب على أحد المدرّسين في المعهد، وألزمت الإدارة بالتّوقيع على تعهدٍ بعدم تكرار ما اعتبروه، وجود مخالفةٍ شرعيّةٍ، لم يقف الأمر عند هذا الحدّ فقد عملت عناصر الحِسبة وعددٌ من الدّاعيات على اقتحام مدرسة العروبة تحت التّهديد، ممّا دفع الطّالبات والمعلمات لمنعهنّ من دخول المدرسة والخروج بمظاهرةٍ ضمن ساحة المدرسة تعبيراً عن رفضهم لممارسات" سواعد الخير"، فتمّ استدعاء عناصر مسلّحةٍ تتبع لتحرير الشّام، وقامت بإطلاق النّار أمام المدرسة، ما أدّى لإصابة أحد المدنيّين.
اقرأ أيضاً:
نساء العالم 2020: الاتجاهات والإحصاءات
دراسة أممية جديدة تؤكد أن "المرأة بعيدة كل البعد عن أن يكون لها صوتاً مساو للرجل"
ونظراً لتدخلاتها المتكرّرة أعلن مدراء مشافي مدينة إدلب العامّة والخاصّة والنّقابات ممثّلةً بنقابة الأطباء، نقابة الصّيادلة، نقابة العمال المهن الصّحّيّة رفضهم أيّ تدخلٍ في المنشآت الطّبّيّة العاملة في مدينة إدلب من قبل أيّ جهةٍ كانت سياسيّةٍ أو عسكريّةٍ أو مهنيّةٍ أو طبيّةٍ أو شرعيّةٍ على خلفية المضايقات الّتي تمارسها الحسبة " سواعد الخير" التّابعة لهيئة تحرير الشّام.
حول نظام الحِسبة يحدّثنا المرشد الاجتماعيّ وائل المحمود (39 سنةً) بأنّ الحِسبة تعدّ نقطةً مفصليّةً في فكر الجماعات الإسلاميّة منذ بدء إقرارها وتحوّلها إلى أداةٍ أساسيّةٍ من أدوات ضبط الأسواق والمجال العامّ، واستغلال بعض الحكّام والسّلاطين في التّاريخ للحسبة بهدف إقصاء خصومهم السّياسيّين واغتيالهم.
ويُشير إلى أنّ الجماعات الإسلاميّة تعتمد في الدّعوة لفكرة الحِسبة بمبدأ "الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر"، وتتدرج هذه الجماعات في تطبيق هذا المبدأ بدءاً من الّنصيحة ووصولاً لاستخدام القوّة بشكلٍ فرديٍّ لتغير ما يرى أنه مُنكراً، وقد استطاع تنظيم الدّولة سابقاً تحويل هذا المبدأ من نظرةٍ تاريخيّةٍ إلى جهازٍ بيروقراطيٍّ متكاملٍ مهمته ضبط المجتمع للانصياع الكامل للخطّ الفكريّ المُعلن للتنظيم في العبادات والشّعائر.
ويؤكّد أنه " لم تتمكّن هيئة تحرير الشّام والجماعات الأخرى من تأسيس جهازٍ مستقرٍّ يطبّق مبادئ الحِسبة في مناطق سيطرتها رغم تكليفها مؤسّسة " سواعد الخير" بذلك في إدلب قبل سنتين، وتمّ إلغاؤها بسبب تجاوزات أفرادها ضدّ حرّيّات النّاس العامّة، إضافةً إلى ظهور شُبهات فسادٍ حولها".
ويعتبر المحمود أنّ إعادة هيئة تحرير الشّام لتفعيل فكرة الحِسبة مرّةً أخرى في مدينة إدلب اليوم تحت مسمّى مركز الفلاح؛ ينضوي تحت عدّة مكاسب أهمّها تعميق التّغلغل الاجتماعيّ، وضبط تحركاته الجمعيّة، إضافةً إلى إرساء توازنٍ معيّنٍ بين مكوّناتها والمجموعات الدّينيّة الأخرى في المنطقة.
عكست ردود أفعال المدنيّين على نظام الحسبة احتقاناً كبيراً وغضباً شعبيّاً لا سيّما تدخل عناصر الأخيرة في حياة النّساء ولباسهن، وسلوكهم عبر الدّوريات النّسائيّة التي اتّسمت " بالغلظة والتّشدّد والتّدخل غير المقبول بحرّيّات النّاس" وفقاً لناشطون.
وهيئة تحرير الشّام أو ما كان يُعرف سابقاً بجبهة النّصرة بقيادة أبو محمّد الجولانيّ يُسيطر بشكلٍ فعليٍّ على معظم مناطق سيطرة المعارضة ويديرها من النّاحية الإداريّة.