info@suwar-magazine.org

خلود شرف تُعيد البريق إلى أدب الرّحلة واليوميّات

خلود شرف تُعيد البريق إلى أدب الرّحلة واليوميّات
Whatsapp
Facebook Share

 

خلود شرف تُعيد البريق إلى أدب الرّحلة واليوميّات

السّوريّات يقاومنَ الحربَ بالفنِّ

                                                                                                                                                

كتاب "رحلة العودة إلى الجبل" للشاعرة السّوريّة خلود شرف، والصّادر عن المؤسّسة العربيّة للدراسات والنّشر في بيروت؛ بالمشاركة مع دار السّويديّ للنشر والتّوزيع والإعلان، وفائز بجائزة ابن بطّوطة لأدب اليوميّات في دورتها السّابعة عشرة، مغامرةٌ نسويّةٌ جريئةٌ في أدب الرّحلة واليوميّات؛ الّذي أعادت له السّوريّات بريقه في الإنتاج الأدبيّ السّوريّ في زمن الحرب والمقتلة السّوريّة.

 

 رغم منافسة الصّورة بفورة تقنياتها الحديثة لفنون السّرد الأخرى. لكنّ الأدب يبقى ملاذ الحالم للحفاظ على ما تبقى من الحلم، وعلى ما تبقى من إنسانيته أمام القبح. والكتابة مقاومة للحرب بالفنّ، واختلاق عالمٍ يَصلُح للعيش بعد أن ضاق الواقع على الحياة. فتغدو كتابة اليوميّات في ظلال الحرب بكلّ مرارتها تواطؤاً مكشوفاً بين الذّاكرة والنّسيان. فهل تكتب خلود شرف رحلتها حتّى تنسى فتعيد اكتشاف الذّات والمكان من جديد؟

 

رحلة خلود أو ترحالها بين طفولتها وحاضرها وبين الواقع والخيال في مكانٍ تسكنه الأسطورة والتقمّص ويعيش ماضيه مرتين، عزفٌ جنائزيٌّ آخر على وتر الفواجع السّوريّة يستحضر الحزن المعتّق في جرار العابرين ليتقمص أحزانهم، ويردّد صرخة المظلومين المشتّتة أصداءً تعكس أصداءً في قلوب الحجر، وكأنّ الحاضر ليس فيه ما يكفي من الحزن لتعيد إليه ذاكرة الألم.

 

 وبصبر الأنثى تنسج خلود الأسئلة الهُموم على نول الوجود بإبر الخيال وخيوط الذّاكرة، تشكيلاً يمزج اللّغة بظلال طفولتها البِكر في الشّعر1، فتتماهى الصّورة بظلالها، وتنزاح الحدود بين النّثر والشّعر، وتمتزج سيرة الذّات الفرديّة بسيرة الذّات الجماعيّة وسيرة المكان، دون أن تُفقد اليوميّات وظيفتها التّوثيقيّة وصدق حقيقتها. إنّما تخرج عن شرع القيافين في تجنيس الفنون حين تنسلها الأنثى بيد المهارة وشيطنة الخيال من أدب الذّات والسّيرة، فتكسر احتكار الذّكورة لاصطياد العالم بشباك اللّغة وسهام الوقت، وتحلّ المُبهم في الفصيح والملّغز في الصّريح كأسئلة الحرب.

 

هي رحلةٌ في زمن مستعادٍ من زمن الطّفولة هرباً من المأساة في ظلال الحرب، ومحاولةٌ للبحث عن المعنى في وجود فقد المعنى من وجوده، سفر في مدارات النّفس وهواجسها وعوالمها الدّاخليّة، زاد المسافر وراحلته فيه جناح الذّاكرة وقلق السّؤال ووجع القلب. هي رحلة العودة من الجنة فقط والسّقوط ثانية في مسقط الرّأس وبيت الألفة، فيما يبقى على القارئ أن يشحن مخيّلته لكشف طريق الذّهاب، وغموض المكان الّذي تمّ السّقوط منه.

 

فالكاتبة لا تزوّده في مطلع النّصّ بغير رائحة زهرة الجنة، وزهرة النّارنج الشّاميّ، وعليه أن يقصّ الأثر صفحةً وراء صفحةٍ لاستكمال معالم الطّريق. "قطفت زهرة الجنة؛ رائحتها شبيهة بالنّارنج السّوريّ، أكثر طيباً منها، فاحت لتدلني طريق الوصول إلى طفلي.

 

كانت زهرةً بيضاء من نوع الزّنابق الغريبة. وما إن وصلت إلى آخر الطّريق حتّى انهار. بقيت الزّهرة بيدي، وطفلي صار جذعه السّفليّ خشباً، وجذعه العلويّ بشراً. استيقظت ورائحة الزّهرة تزكم أنفي، وصوتاً يخرج من بطني كخوار بقرةٍ مات وليدها ]ص6 [.  بهذا المطلع الصّادم تستثير الكاتبة حواس القارئ، وتستنفر عواطفه ومخيّلته؛ قبل أن تستحثّ عقله ليعيد معها تأويل أساطير السّقوط. سقوط الإنسان من جنته الأوّلى بفعل الحبّ وغواية ثمرة الأنثى، وسقوطه الثّاني بفعل الحرب والصّراع على ثمرة الأبد.  وتفتح باب السّؤال الموصد برماد القرابين المسفوحة على مذابح الآلهة ومذابح السّلطان، فهل على المرأة أن تدفع ثمن "الخطيئة" مرتين؟  

 

 إنّه السقوط من الحلم الملتبس إلى الواقع الصّادم، وإن بدا مكان السّقوط أكثر انشراحاً أو أقلّ التباساً حتّى يتيح فسحةً لارتياح الزّمن القلق على صدر المكان، دون أن يبرأ من حيرته.  فتعود الذّات إلى التيه بين زمنين أحدهما زمنٌ ميتٌ والآخر متشظٍ. وبين وجهين للمكان يخالس كلّاً منهما الآخر للنبوغ إلى واجهة المشهد فيعيدها إلى التيه في دوامة الزّمن من جديد، "ما إن تعود إلى مسقط رأسك، حتّى تكتشف أنّ الزّمن بمسافاته الّتي قُطعتْ يعود معك ويعيد عليك صوره. تفصلك فجوةٌ عن آخر مرّةٍ رأيت وجهك بالمرآة وبين الحاضر ... تتلكّأ في المشي، تشعر بأن قدمك كبرت فجأة على المكان"] ص10[. إنه شعور ملتبس بالزّمن كالتباس زمن الحلم ذاته، فبين سويداء الحاضر في زمن المأساة السّوريّة، وسويداء المخيّلة المخبوءة في ثنايا الذّاكرة من زمن الطّفولة ويفاعة الجسد، ثمّة ذهابٌ طويلٌ في تجربة حياة ومسيرة وعيٍ، أو قطيعةٍ معرفيةٍ ونسيانٍ إراديٍّ يكلّس شقوق الذّاكرة حتّى يفسح مكاناً لوعيٍ جديدٍ يعبّر عن نفسه في التقاط تفاصيل جديدةٍ في صورة المدينة المألوفة من قبل، "روح المدينة، قريةٌ أضاعت هويّتها، حتّى صارت شبحاً، كثير الكلام، قليل التّأمّل والتّطلّع، مشبوهةً بإطلاق أحكامٍ مسبقةٍ، والفضيحة فيها؛ أسرع من النّار في الهشيم ]ص8[. إلّا أنّ شقوق الذّاكرة تنفتح مرّةً أخرى ما إن تلامس القدم بحجمها الجديد ملاعب الطّفولة، وتمرّ الأصابع بالسّلام على الأشياء لتبادلها الأمان. فيتأرجح الوعي ما بين الحاضر والماضي القريب، والماضي البعيد، وبين الحقيقة والوهم، وما بين المعيّن والمتخيّل من أشكال الوجود.

 

 فسويداء اليوم، مدينة الكاتبة ومسقط رأسها الذّي تعود إليه كملاذ آمنٍ بعد رحلةٍ طويلةٍ من التّعرّف على الذّات بالانفتاح على عوالم جديدةٍ، ومدنٍ كبيرةٍ زاخرةٍ بالحياة، والاحتكاك بالآخر المختلف في زمن الثّورات التي تتردّد أصداؤها في كلّ مكانٍ، بركاناً خامداً يعيش وجوده البارد على ذاكرة اللّهب. بشرٌ أضنتهم الحرب، وأرهقتهم اللاجدوى، نفوسٌ جبلتها الطّبيعة بقساوة الحجر وخميرة النّار فصارت كريمةً على الإله شحيحةً على الذّات، وخبزٌ أسودٌ ممزوج بالقهر يستنجد الجائع على لوك مرارته بذاكرة القمح، شعرٌ نبطيٌّ تقيّحت مخارج حروفه من حكّ التّكرار حتّى صار وجعاً، ورقص حبارٍ خانتها نشوة الخصوبة وخجل الشّريك فصار رقصاً على الأشلاء. و"الحبّ؛ خطيئة، تشحذ الكرامات هممها على عتباته، ليعود الأصل إلى أصله، أو يُقتل الحبّ بدمٍ باردٍ، مع أجنّته.

 

وترفع رايات الانتصار، بانغلاق الطّائفة على ذاتها، لتصير عرقاً صافياً، فلا احتمال وصول النّهر إلى البحر.. " ] ص8[ والجبل قد فقد أخصّ صفاته كملجأ أمانٍ لمن يطلب الأمان، بغضّ النّظر عمّا يهدّد أمانه، والكرامة لم تعد قيمةً أخلاقيّةً عليا إلا حين تُمسّ أعراض النّساء.

 

فتلتبس الغيرة على الوطن بالغيرة على الدّين، وتلتبس الهويّة بالأصل.  و"الأشجار إن لم تودِع جسدها للفأس والمنشار، أودعته لحرائق شبّت بهدف تمشيط المناطق ممّن قد يختبئون بها، حرائقٌ تعلّمك كيف ترى اللّون الأسود منتصباً في ظلّ الجحيم الّذي يزاول حضوره على الأرض" ] ص49[.

 

 

فيما سويداء الذّاكرة والقلب، سويداء القمح والعنب والتّفاح، تستمدّ حضورها من المخيّلة، من بيت الطّفولة الّذي تَشَكّل فيه الخيال الأوّل، ومن مضافته الّتي تقوم مكان "العلية" في تحليل غاستون باشلار لجماليات المكان2، من شملة القمح المعلّقة في صدر المضافة ولفح الصّيف الّتي درج الرّيفيون على تعليقها في آخر كلّ حصادٍ؛ كتجسيدٍ غير واعٍ لرحلة عشتار، رحلة الموت والولادة، ومن دلال القهوة السّمراء المخمرة بحرارة النّحاس، وحمض النّار تستعيد المخيّلة صور الوجوه وألفة الشّبه بين الضّيف والمضيف، ومن نشوة السّنديان في فرح المهباج برقص الجنيات على الأصابع تستعيد آصرة القرابة والأهل فتفاجئها الأمومة على مفترق الوجع، ويعاودها الحنين آن تلمع في الذّهن صورة الأسرة الملتفة حول الجدّ الّذي اعتاد على بساطة الحياة، "فلاحٌ يعرف كيف يربّت على الأرض كي تربّت على جوعه وتطعمه، يعرف كيف يبادل الحبّ بالمحبّة، وكيف يقضي حياته في ظلّ شجرةٍ يلّم فروعها ويعتني بصباها كي تعتني بهرمه"(ص35).

 

لكنّها لا تدع الزّمن ينساب باسترساله الهادئ الّذي يفيض من الذّاكرة، إنّما تقطعه بزمن الواقع المرّ من جديدٍ، بمشهدية الموت المفجع للجدّ الّذي قضى وهو يقلقل سكون التّربة بمحراثة الحديث، "العزاقة" الآلية الّتي استبدل بها محراثه الرّوماني القديم، الّذي تجرّه الحيوانات الدّاجنة من الثّيران، أو الخيول الّتي قاسمت البشر يوماً بيوتهم وغلّة زرعهم؛ باتّفاقٍ ضمنيٍ مبهمٍ، فرفضت آلته الجديدة بساطته، وثارت على براءته كآلات الحرب، وسحبته من غطاء رأسه الأبيض، رمز تدينه،  لتخنقه به، وتقشر فروة رأسه الدّافئ، وتطحن لحمه وعظامه بتراب الأرض ورمل الإسفلت المشبع برائحة النّفط كما كانت تطحن البراميل المتفجّرة المتساقطة من الطّيران الحربيّ على مسافةٍ غير بعيدةٍ منه، صوب الجنوب الغربيّ أجساد البشر وأحلامهم بتراب الأرض وحطام البيوت. فيموت مبتسماً كصورته في الذّاكرة.

 

 ومن خلف العيون المكحّلة بالإثمد المنخول من مسحوق البازلت المشبّع بمطر الخريف تمدّ البصيرة صوب الغمام الصّباحيّ المبخّر من زفر السّنديان فوق سفوح "القنوات"، القرية الّتي مازالت تحتفظ باسمها الأوّل مع بعض التّحوير، فتستنهض "كاناثا"* من نومها الطّفوليّ بجانب غدير الماء، وتقلّب حجارة الوقت لتبحث عن وجهٍ آخر للمكان، وراوٍ آخر يريح قلق السّؤال عن تفاصيل الحكاية. "فمن أنا"؟ وأيّ ذاكرةٍ في جينات الإنسان من بقايا العصور وقرابين الحضارات التي تلح على قول ذاتها لتُنسى، فيصير الإنسان آناه، وتصير الذّات وجودها الحاضر بكامل هيبته ونقصانه، وليس أناً متوهماً تتقمّصه من حكايات الحجر للريح، أو من حكايات التّقمّص الّتي تشكّل زاداً فكريّاً في الثّقافة الشّفويّة لطائفةٍ دينيّةٍ باطنيّةٍ طالما آمنت بالتقمّص كي تؤمّن بنفسها، وتأمّن على نفسها وعلى أخلاقها ووجودها. "نحن نعيش حياة واحدة لا نذكر شيء عن أجيال عشناها، وننازع بين طفولتنا وذواتنا ومعرفة من نحن، فما بالنا بهؤلاء الّذين يعيشون الموت بذاكرةٍ ثقيلةٍ من زمنٍ مبهمٍ" (ص64). فأيّ ذاكرةٍ للمكان هنا، وأيّ هويّةٍ؟ وكم بقي فيه من إرثٍ من آنس وحشته قبلنا ذات يوم؟ وهل تقمّصوا أحلامَ غيرهم من العابرين كما تقمّص فيليب العربيّ أحلام روما فجمع الرّعاة وفرسان الغساسنة، وسحب قصورها ومعابدها ومسارحها وأساطيرها حجراً حجراً إلى أرض التّربة السّوداء في "شهبا"*، وبنى على عجلٍ "روما" صغيرةً في جبل حوران ما زالت تروي ذاتها في حكايا من يسكن اليوم أطلال حاضرته المسبيّة وفي بعض طقوس الدّفن، وفي نقوش الحجر المنهوبة من قصور الحضارة المغلوبة. وأيّ حلمٍ تقمّصه الهاربون الأزد اليمنيون من روح بلقيس الّتي تركوها وحيدةً تكفّكف السّيل عن وجه مأرب؛ ليبنوا  من ذاكرتهم قصراً لسليمان الملك بخشب الأرز البرّيّ المسروق من جبل لبنان، وأيّ حلمٍ يتقمّصه أبطال المقتلة السّوريّة في ذبح المتبقي من سلالتهم من دروز جبل حوران، وسبي نسائهم، كما ذبحوا الإيزيدين وسبوا نسائهم في جبل سنجار.

 

كلّ موتٍ ولادةٌ، وجسدٌ يتشكّل من ماءٍ وطينٍ جديدٍ، إنّها لحظة الولادة، لحظة المعرفة والكشف، لحظة وضعت الثّورات العربيّة السّوريّين وغيرهم أمام أنفسهم، وفرضت عليهم خياراتها الصّعبة: فإما الحرّيّة وإرادة الحياة وتحمّل تبعاتها، وإما العبوديّة وموت الرّوح. فالحرب بكلّ خساراتها تُطلّ بوجهها القبيح من خلف كلّ مشهدٍ من اليوميّات، وآثارها محمولة في الأرواح والأجساد، ورائحتها موجودةٌ حتّى في روائح الأحباب. "نتودع كلّ صباحٍ لعلّ أحدنا باغتته قذيفةٌ، دون أن يقطع تذكرة سفرٍ؛ فالمتأهّب خير من المُباغت. وعند المساء نحصي أضلاعنا وعدد الخلايا الّتي لم تهشَّم ذاكرتها على أعمدةٍ سقطت مع كبرياء المعدن والإسمنت. ونحصي عقولنا هل ما زالت قادرةً على استيعاب ما يحصل"(ص73).

 

تضيّق الحرب الخيارات أكثر أمام "النّاجين" من لعنتها، وتسدّ فرجة الأفق. فتضعهم أمام اختبارات أصعب من احتراق المدن، وانهيار سقوف البيوت والنّزوح والتّشتّت، وسفر الأرض شظايا في أجساد ساكنيها. "فمع الزّمن تتدرّب حواسنا على الألم والفقد والبكاء؛ يبقى لوحشية الحرب ما هو أقبح وعليك أن تتأهّب كي لا تسقط أمامها هزيلاً دونما شرف الرّكض. لتبدأ رحلة الاختبار: تختبر صبرك، في وقفة الطّابور، الطّابور اليوميّ لخبز الحرب...،"(ص73). فهنا تسقط كلّ بديهيات البشر الأوّلى أمام الاختبار، وتهتز أخلاقياتهم ومعتقداتهم الرّاسخة في حومة الصّراع على البقاء. فتزهق روح المجتمع الغضّ، وتبرز الفرديّة، وروح الجماعة الأوّليّة، أو روح القطيع، ويغلب ما بقي عالقاً في جينات البشريّ من مملكته الحيوانيّة على ما اكتسبه في رحلة تآنسه وتمدّنه. فيكبر السّؤال، يصبح قلقاً يعيد الأسئلة الأوّلى للوجود. "وُلِدنا هرباً من حرب قاتمة في العدم، وإنّا لعائدون، عشْ لحظتك رغم كلّ شيءٍ. نفّضْ شياطين اللّحظات عن ثيابك، واحملْ جثتك بيدك قبل أن يحملها الخشب، واسْعَ إلى بيتك إن مازال له أضلاعٌ تضمك"(ص75). لكنّ البيوت فقدت أضلاعها، فقدت جماليات المكان، وزخرف بناءها وكواليس أسرارها، صارت شظايا تسكن أجساد أصحابها بدل أن يسكونها، صارت مشاعاً مستباحاً وغنائم حرب، أو صوراً في حقائب النّازحين وفي ذاكرتهم وهشيم أحلامهم، أو نتفاً طافية على وجه البحر بعدما خذل القارب المطاط ركابه في الوصول إلى برّ الأمان، وتقاسم النّخاسون الجدد مع بوسيدون إله البحر وسيّد الموج غلّة الصّفقة، كلّ روحٍ بعشرة أمثالها، "وكلّ قارب ناجٍ يعادله قاربٌ غريقٌ، صفقةٌ عادلةٌ، لرحلة موتٍ عاجلٍ.

 

الأرض استدعت كلّ شفعائها-فلا سُبل-كلّ روحٍ بعشرة أمثالها، صفقةٌ عادلةٌ للأبد"(ص95). فمن يكتب للسوريّين اليوم ملحمة حربهم غير الألم، والحزن الّذي خطّ كلّ ملاحم وأساطير العابرين من قبل، ومن سيميّز بين الأرقام ملامح وجه أو معالم حلم، أو ذاكرة ولو كانت واهمةً تعطي للكائن البشريّ اسماً وهويّةً يؤهّلانه لكتابة وصيته الأخيرة، أو يبرران الذّبح على الهويّة.  من يعيد لطفلٍ فقد ساقيه ذاكرة المشي على طرقات المدرسة بحذائه الجديد الّذي حصل عليه كهدية عيدٍ، أو مكافأةً على تفوّقه المدرسيّ، أو حصة تبرعٍ من يدٍ ممدودة للخير، غيّر ذاكرة الألم في أوتار جسده المقطوعة. ومن يعيد لامرأة صورة وليدها المغيّب في سجون القهر، أو الشّاخص في صورة تمثالٍ على مدخل قريتها، غير ذاكرة المخاض والألم، ومن يدفع السّوريّات المغتصبات اليوم لاستعراض أسرارهنّ المحرّمة على وسائل التّواصل الحديثة وأبواق الإعلام المرئيّ والمسموع غير الألم، ومن يدفعهنّ لكتابة يومياتهنّ في مجتمعٍ تحكمه الثّقافة الذّكوريّة، ويكني المرأة باسم زوجها أو ابنها غير الذّاكرة الّتي تلحّ على قول ذاتها من شدّة الألم. "كلّ الإبداع يخطُّه الألم لا صانعوه، مأساة سوريا، ملهاةُ دانتي، مأساةُ هومير، دموع أصدقائي يَنتظرونَ الوطن خلف شاشاتٍ صغيرةٍ، ملاحم الأساطير والحياة.

 

طوبى للذين أورثونا حُزناً أكبر من حُزننا، المنصتين لسلام المطر، طريدي أقدارهم، القادمين من المنفى على جناح الذّكريات المذنبين بخطيئة الرّبّ"(ص95). 

 

ويبقى السّؤال غُصّةً أخرى في الحلق وفي القلب، فهل بات على السّوريّين والسّوريّات اليوم أن يذهبوا ويذهبنَ  في رحلاتٍ مشابهةٍ لرحلة الكاتبة في سبر أعماقهم ليعرفوا أنفسهم، ويعيدوا تشكيل ذواتهم وهويّاتهم من جديدٍ، حتّى يتعرّفوا على إنسانيّتهم وعلى بعضهم البعض فيوقفوا المأساة؟ فالسّوريّون لا يختلفون اليوم حول حاضرهم ومستقبلهم فحسب، إنما حول ماضيهم وتاريخهم وذكرياتهم وأسماء مدنهم أيضاً، بل حتّى حول مفردات لغتهم وجذورها في عروق ذاكرتهم الجمعيّة. فغدا كلّ شيءٍ بحاجةٍ إلى تعريفٍ جديدٍ، حتّى الإنسان. هذا ما تقوله خلود شرف في رحلتها الّتي تستحق القراءة والتّأمل والنّقد، وفي وصية رحلتها الّتي تكتبها عوداً على بدءٍ، وتنتهي من حيث ابتدأت " الآن سأكتب نعوتي وأحمل أشلائي بكيس الصّوف الذي حاكته ليّ أمّي في صغري وأودّع كلّ من يحبّني. لا تنسوا وصيتي، لا تعاملوني كعددٍ"(ص109).

 

 فرحلة الكاتبة الّتي تكتبها بوحي الفقد والألم بضمير الأنا الصّريح، ضمير المتكلّم الّذي يطابق بين السّارد والبطل دون مواربةٍ تفتح ثغرةً للبوح في حصون العزل والحماية الّتي تلفّ عوالم المرأة الدّاخليّة في مجتمعٍ شرقيٍّ تقليديٍّ، وتفتح ثغرةً في جدار العزل الّذي مازال يحيط بمجموعةٍ بشريّةٍ مهمّشةٍ تسكن المنطقة الجبليّة القصية في جنوب سوريا، وطائفةٍ دينيّةٍ باطنيّةٍ هي طائفة الموحدون الدّروز؛ الّتي ظلّت إلى وقتٍ قريبٍ جداً خارج دائرة الاهتمام، وبعيدةً عن تناول الأدب.  هي رحلةٌ في زمن محايثٍ، وفي مكان مألوفٍ، ومعرّفٍ بتاريخ الوجود وجغرافيا الجسد، وإن استأثر المجاز ولغة الشّعر في وصف معالمه، كلّما عجز النّثر عن نقل الإحساس والمشاعر المتأجّجة إلى ذاكرة الورق " لم تكن رحلةً إلى باطن الأرض وإلى عالمٍ مغايرٍ، بل كانت رحلةً في سبر أعماقي، لأوّل مرّةٍ أعرف من أنا، وأنّ المثاليّات والإنسانيّات عليها أن تُختبر، كي تعترف أمام نفسك أنّك إنسانٌ متناقضٌ، حسب الفيلسوف موران، في هذا المكان بدأت أتعرف على الإنسان كما هو حقيقةٌ، لا كما عليّ أن أعرفه. فالإنسان رحلة العوالم على الأرض، يتغيّر بتغيّر النّبات والطّيور والحيوانات والأصوات والجدران، والمدن هذه النّقطة الفاصلة بين كوننا بشراً نمشي بارتفاعٍ مستقيم عن الأرض، وبين كوننا بشراً ننحني لنرى النّبتة من أقرب نقطةٍ عن نظرها الأعمى"(ص66).

 

-----------------

  • إشارة إلى روسو في استخلاصه أنّ نشأة اللّغة تساير نشأة الإنسان في الطّبيعة، وأنّها تكوّنت للتعبير عن المشاعر والعواطف قبل الحاجات، لذا ولِد الشّعر قبل النّثر. جان جاك روسو، محاولةٌ في أصل اللّغات، تعريب محمد محجوب، نشرٌ مشتركٌ بين دار الشّؤون الثّقافيّة العامّة، بيروت، والدّار التّونسيّة للنشر.
  • غاستون باشلار، جماليّات المكان، ترجمة غالب هلسا، المؤسّسة الجامعيّة للدراسات والنّشر والتّوزيع، بيروت 1984

*-كاناثا، الاسم القديم لقرية قنوات القائمة حالياً شمال مدينة السويداء جنوب سوريا، وما زالت تحتفظ بالكثير من أثارها القديمة. أما "شهبا" مدينة فليب العربيّ القائد العسكريّ الّذي أصبح إمبراطوراً لروما، وأعاد بناء مدينته على طراز العمران الرّومانيّ  تقع شمال مدينة السويداء وما زالت تحتفظ بآثارها واسمها حتّى اليوم.

 

 

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard