سياسة الولايات المتحدة بعد انتخاب بايدن
كانت الانتخابات الرئاسية الأمريكية 2020 والتي وصفت بأنها تاريخية أشبه بانتخابات عالمية، وشعرنا لوهلة أننا نتابع نهائي كأس العالم بين فريقين لكل منهما جمهوره. هذا الاهتمام بالانتخابات أصبح من الأمور الطبيعية في السياسة الدولية، حيث أننا نتحدث عن القوى العظمى، وقد زادت وسائل التواصل الاجتماعي من عالميتها، وشكلت سهولة الحصول على المعلومات كأننا في قلب الحدث عاملاً مهماً في زيادة نسبة المتابعة لها، بالإضافة إلى أن أحد الأسباب الأساسية التي أدت إلى زيادة معدل المتابعة يعود إلى كل ما فعله ترامب ووقّعه من قرارات أثّرت على حياتنا، وكل ما يريده بايدن ستؤثر أيضاً على حياتنا.
من خلال خطاب الرئيس ونائبه ومن خلال تصريحاتهم خلال الحملة الانتخابية وتاريخهما السياسي يمكن لنا استنباط بعض التوجيهات لسياستهما على المستويين الداخلي والخارجي.
على المستوى المحلي، كان واضحاً في الخطابين أن التركيز في بداية الحكم سيكون على إعادة النسيج الاجتماعي الأمريكي، وسد الفجوة والانقسامات التي أحدثها نهج ترامب السياسي، بالإضافة إلى العمل على تقليص حجم الخلافات بين الحزبين الرئيسيين (الديمقراطي والجمهوري)، وإحياء ملف الرعاية الصحية من خلال العودة إلى قانون أوباما كير مع محاولات تحسينه والعمل أيضاً على تأمين فرص عمل، وفرص بديلة للأمريكيين المتضررين من كوفيد 19 الذي سيكون له النصيب الأكبر في سياسته الداخلية، وسيحظى التعليم باهتمام كبير من قبل السيدة الأولى جيل بايدن، وهو ما أشار إليه الرئيس بايدن في خطابه، لكن النقطة المثيرة للاهتمام هي تركيز الاثنين على أن أمريكا هي أرض الفرص والإمكانيات، وهذه نظرية تقليدية قديمة في السياسية الأمريكية الداخلية.
على الصعيد الخارجي، هناك وجهة نظر سائدة تقول إنه لن تكون هناك تغييرات كبيرة في السياسة الخارجية الأمريكية، وهو ما كان عليه الحال قبيل انتخاب ترامب ثم تغيير هذا الرأي بعد أربع سنوات من حكم غريب الأطوار، حيث تنتظر بايدن مهمة صعبة في ترميم السياسة الخارجية الأمريكية، خاصة فيما يتعلق بصورتها، فيتمثل نهج الديمقراطيين في خلق توازن بين قيم الأمة الأمريكية وقوتها، على عكس الجمهوريين الذي يميلون دائماً إلى إظهار القوة الأمريكية للحفاظ على مصالحها التي حوّلها ترامب إلى مزاد لتبادل الصفقات التجارية، وستبدأ عملية إعادة الترميم بالعودة إلى اتفاقية باريس للمناخ، ومنظمة الصحة العالمية، وإعادة تعزيز الثقة مع حلف الناتو والاتحاد الأوروبي وكندا، ومن خلاله يمكن إعادة دور الولايات المتحدة القيادي في المنظومة الدولية.
ومن المتوقع أن تعود روسيا لتحتل موقع العدو الأول للولايات المتحدة كما جرى التقليد مما يعني عودة فعالة للأمريكيين لدعم حلفائهم في جميع القضايا الساخنة، من أوروبا الشرقية إلى اليمن وليبيا وسوريا وغيرها، وسيكون بايدن أكثر إزعاجاً للصين من ترامب الذي فضّل أسلوب المواجهة الأحادية على طريقة الملاكمة، أما بايدن فهو ينسق مع حلفائه لمواجهة الخصوم، الأمر الذي سيكون في مصلحة الأوروبيين الذين وجد الأوروبيون أنفسهم في عهد ترامب بين التهديدات الروسية لشرق أوروبا من جهة وبين الصراعات الصينية الأمريكية الاقتصادية من جهة أخرى، ناهيك عن مواجهة تهديدات أردوغان المستمرة مستعيناً بورقة اللاجئين في أراضيها، والجالية التركية والمسلمة عامة في أوروبا.
في الشرق الأوسط، ليس من المتوقع أن يقوم بايدن بنقل السفارة الأمريكية من القدس مرة أخرى، لكن من المؤكد أنه سيعيد الدعم الأمريكي للفلسطينيين، ويحاول إحياء حل الدولتين مرة أخرى، ومن المتوقع أن يمضي قدماً بالاتفاق مع إيران إذا أوفت الأخيرة بالتزاماتها، كما ذكر سابقاً خاصة. وبالتأكيد لن يتخلى عن حليفه السعودي، لكنه سيعيد تعريف آليات التعامل الدبلوماسي أي أنه لا يمكن شراء الولايات المتحدة بالمال، ومن المتوقع أن يبذل محاولات لاحتواء الخلاف القطري الخليجي، وهو معارض بشدة لحزب اليمين.
موقف بادين من أردوغان حازم للغاية ويعتبره ديكتاتوراً، وسيعمل على دعم المعارضة الديمقراطية كما صرح علناً، ومن هنا نتوقع حركة أكثر فاعلية للمعارضة، بما في ذلك حزب الشعوب الديمقراطي (HDP). الموالي للأكراد. سيكون تأثير ذلك على الاقتصاد التركي كبيراً، وقد بدأ بالفعل ويتوقع المزيد من العقوبات على تركيا.
كان نهج ترامب في السياسة الخارجية انعزالياً تماماً، وتجلّى في محاولاته المستمرة للانسحاب من أفغانستان والعراق وسوريا، والتي عارضها بايدن باستمرار، وهو مؤشر كاف لنا لاستنتاج أنه سيحافظ على وجود أمريكي قوي في هذه الدول، وخاصة العراق ونتوقع أن نشهد انتعاش العلاقات مع إقليم كوردستان.
أما بالنسبة لسوريا، المجال الأكثر تأثيراً في السياسة الدولية في الشرق الأوسط خلال العقد الماضي، فمنذ تولي ترامب الرئاسة في العام 2016 اختلفت خريطة السيطرة الفعلية كثيراً، حيث كان سيطر النظام السوري على حوالي 30٪ من مساحة سوريا، وقسد على قرابة 28٪ والمعارضة كانت تسيطر على 15٪. أما داعش فكانت تسيطر على نسبة 27٪. بعد أربع سنوات أصبح النظام السوري يسيطر الآن على ما يقرب من 64٪ وتسيطر قسد على 26٪ بينما تسيطر المعارضة السورية على 10٪. إذ تظهر الأرقام بين عامي 2016 و2020 أن النظام السوري ضاعف منطقة سيطرته على حساب المعارضة السورية وداعش. فيما خسرت المعارضة نحو نصف مناطق سيطرتها في كل من درعا وريف دمشق والشمال الغربي من مناطق نفوذها، مقابل حصولها على 3٪ من مناطق قسد حدثت هذه التغييرات نتيجة الاتفاقات الأمنية بين مجموعة أستانا من جهة والولايات المتحدة وروسيا وتركيا من جهة أخرى.
اقرأ أيضاً:
ماذا تخفي أزمة كورونا للعالم؟.. أسئلة كبرى يُعاد طرحها
السؤال هنا هل ستتغير هذه الخريطة؟ شخصياً أقول أعتقد ذلك فهذه الاتفاقيات جلبت معها توازناً هشاً يمكن أن ينهار بسهولة وبسرعة.
من المتوقع أن يتبع بايدن نهج الرئيس أوباما فيما يتعلق بسياسته تجاه سوريا، والمتمثلة في الدفع بقوة نحو إحياء مسار جنيف والقرار 2254 على حساب مسار أستانا، مما يجعلنا أمام معسكرين يسيران جنباً إلى جنب مثل خطين متوازيين لا يمكن أن يلتقيا، ومن المتوقع أن تكون هناك تغييرات جيوسياسية في روج آفا وعفرين، يمكن لها أن تساهم بعودة العلاقات الأمريكية مع شركائها الأوروبيين في زيادة الضغط على تركيا وروسيا وحلفاءهم، فلم يعد الأوروبيون اليوم يرون في المعارضة السورية تياراً معتدلاً يمكن أن يكون بديلاً للنظام السوري، بل على العكس يرون أنهم يشكلون معارضة متطرفة، خاصة بعد سقوطهم كلياً في أحضان تركيا، واستخدام مقاتلي المعارضة كمرتزقة في كل من ليبيا وأذربيجان.
في المقابل يتمتع الأكراد وقسد بتعاطف كبير من الأوروبيين على المستوى الشعبي والسياسي، وعلى أنهم يمثلون المعارضة المعتدلة والديمقراطية الحقيقية التي يمكن أن تكون شريكاً حقيقياً لمستقبل البلاد، وقد بدأت بعض الدول الأوروبية بالتنسيق من جانب واحد مع الإدارة الذاتية تمهيداً للوصول الى خطة تدخل جديدة.
فالتغيير في المزاج السياسي سيصاحبه تغيير في استراتيجيات التدخل الدولي في الملف السوري، وأمام التغيير في المزاج العام الدولي تجاه المعارضة واستمرار استخدام تركيا للمعارضة كأدوات تدخل لحماية مصالحها القومية، لا أتوقع حدوث تغيير كبير في الشمال الغربي ، وستستمر روسيا والنظام في قضمها شيئاً فشيئاً مع الإبقاء على جيب صغير على الحدود التركية كمركز لتجمع المعارضة والمهجرين لحين الوصول الى اتفاق.
كل ما تم ذكره يعني انقلابا في سياسيات الولايات المتحدة والعودة إلى ما قبل حكم ترامب، وتحقيقه يعتمد بشكل كبير على الفريق الذي سوف يتم تعينه للإدارة الجديدة، وبطبيعة الحال يبقى جميع ما تم ذكره احتمالات قابلة للتحقق من عدمه، لكن النقطة الأهم التي أتوقع أن يكون لها تأثيراً إيجابياً هي ملف حقوق الإنسان، فمن المعروف أن الديمقراطيين يميلون دائماً إلى ربط سياساتهم الخارجية بملف حقوق الإنسان، لذا أتوقع أنها فرصة جيدة لإحياء هذا الملف في العالم مرة أخرى.