خلفَ حُدود الدم ... مُهرّبو البشر وِكالةُ سفَرٍ أم سُوقُ نِخاسة؟
خلال رحلاتِ الموت العابرة لحدود الدمِ بين سوريا وتركيا، يشُقُّ المهاجرونَ طريقهم الشّاقَّ في معادلة الهجرة غيرِ المنظمة على طول الشريط الحدودي الذي يلف كامل قرى شمال وشمال شرق سوريا، فيكتشفُ المغامرونَ أسرار تجارة الحدود والقائمينَ على تلك الصناعة، والتي تنتهي ببعضهم بعد عبورهم خطّ الحدود كَوليمةٍ لشبكة مافيا دولية تتقاسمهم وتتقاذفهم فيما بينها حتى ينتهي بهم المطاف في غياهب سجون الفصائل السورية المعارضة الموالية لأنقرة كمجرمين بتهمة أنهم مقاتلونَ من وحدات حماية الشعب الكردية، وهنا يلعبُ الجَشعُ دورهُ، المالُ مقابل جُرعةِ حياةٍ كلّفت العشراتَ منهم كل ما يملكونَ، أو انتهت حياتهم برصاصةٍ في الرأس بحسب رواية الناجين ومنهم (سردار محمد) وهو اسم مُستعارٌ لشابٍّ من مدينة القامشلي، الذي كان قد قرّر الهجرة إلى ألمانيا واللحاقَ بعائلته - زوجته وطفليه - ولَمِّ شملهم بعد تشتتهم لثلاثة أعوام، لم يُخفِ لـ مجلّة صُوَر حنينه وشوقه لعائلته التي كادَ الوصول إليها يكلِّفهُ حياته، لكنه عَدَلَ عن الفكرة حتى ضمانه فرصةَ وصولٍ آمنة .
مصائر سوداء
كانت المرة الثانية التي جازف فيها "سردار" مع سبعة شبّانٍ آخرينَ اجتازوا الحدود عبر قرية "عتبة" شرقي القامشلي قبل 15 شهراً، يقول "سردار" إنهم كانوا أفراداً، وأن المُهرّبَ أشار إليهم أن يتبعوا الأضواء المُلَوِّحةِ لهم من الجانب التركي خلف الحدود.
كان على "سردار" ورفاقِ دربه خوضَ ذَروة المغامرة، لأنها كانت النافذة الوحيدة المفتوحة أمامهم كما يقول، ولكن: " ليس لدينا خَيارٌ آخر، كأنك مُطوّقٌ بحبائل الموت أينما ولَّيت وجهك، انطلقنا جميعاً بحلول الظلام وسلكنا الطريق الطويل المُمِلَّ المسكونَ بهواجس الخوف، وأكثرنا أذىً من هذه الرحلة الطويلة كان "عماد" الطفل ذي الثلاثة عشر ربيعاً بجسده الهزيل وقلبه الصغير مُمسكاً بيدي بقوةٍ وهو يؤكد لي في كل مرة يشدُّ فيها كفّيَ بألّا أتخلّى عنه ".
"ومع تباشير الفجر قال لنا المهرب المدعو (أبو جندل) كما عرّف نفسه بأننا سَنصلُ إلى القرية المقابلة لنا على الجانب التركي، ونتبع الأضواء مباشرة، ونتّصل به ليُرسل لنا المهرب الثاني من الجانب التركي والذي سيستضيفنا في منزله بمدينة نُصيبين بانتظار فرصةٍ آمنة لرحلةٍ باتجاه مدينة إسطنبول، وأخبرنا أن المهربين لا يُخفونَ هُويّاتهم بل يتراكضونَ صوبَ كل غريب يعرضون عليه خدماتهم برحلات سفر باتجاه أوروبا ".
تخلّى المهرب الذي تقاضى عن كل منهم مبلغ 3000 دولار بمجرد أن وَطئَت أقدام ضحاياه الجانب الآخر من الحدود، يقول سردار: "وصلنا إلى القرية بسلام، ولم نَصدُف حرس الحدود التركي المعروفين بـ"الجندرما"، واتصلنا بالمهرب الذي أرسل لنا مُهرباً آخر، و تحت جُنح ظلامِ اليوم التالي مضى بنا بحافلة ركّابٍ متوسطة مع خمسة شبّان ظننا أنهم مهاجرون مثلنا، تيقنّــا بعد أن سلّم المهرب الحافلة لأحد الأشخاص الخمسة الذين أشهروا الأسلحة في وجوهنا ووثّقوا أيدينا وعَصَبوا أعيينا أنهم مسلحين من الفصائل السورية، لاسيما حين قَهقَهَ أحدهم مُصوّباً فُوَّهة مُسدسه باتجاهنا وهو يرد على هاتفه النقال يُعلمُ المُتكلّم معه بالقول: " الليلة الصيدة غير شكل 8 رؤوس".
قال سردار إنهم سألوا المسلحين عن وُجهتهم، فاستهزأوا بهم بأبشع العبارات، وأخبروهم أنهم في رأس العين، ومضت بهم عدّة أيام لينتهي بهم المطافُ في غياهب سجنٍ بمدينة ادلب التي تسيطر عليها جبهة النصرة.
30 ألف دولار:
تعرض المغامرونَ الثمانية للضرب المُبرح من قبل السجّانين طيلة خمسة عشر يوماً، ليأتيهم مُسلّح بزيٍّ عسكريٍّ ولحيةٍ طويلة بيضاء يُدعى "أبو قحطان" يعرضُ عليهم صفقةً لجُرعة الحياة - كما فضّل سردار تسميتها - وهو الاتصال بذويهم وطلب فدية بمبلغ 30 ألف دولار مقابل تحريرهم.
يقول سردار، إن عملية الابتزاز والمساومات بين المسلحين وذوي الضحايا استمرت لشهور، والاتفاقَ على إرسال المبلغ عبر مكاتب تحويل الأموال في مدينة منبج إلى عفرين، ومن لم يملك المال يكون مصيره الموت، فدفع والد الشاب الثلاثيني المبلغ المطلوب، أمّا بالنسبة لعائلة الطفل عماد يقول سردار " كانت المساومات جارية بين عائلته وأبي قحطان بينما بقي مصير الآخرين مجهولاً بالنسبة لي حتى الآن".
تحرّر سردار مقابل دفع مبلغ 30 ألف دولار والتي ضَمِنت عودته للديار ليخوض رحلة العودة من الموت بسيارةٍ بيضاء سلكت طُرقاً جبليةً وعرة، ثم الأقلَّ وعورةً حتى وصلت به إلى أقرب نقطةٍ بريف مدينة منبج، وتمّ تسليمه إلى ثلاثة أشخاص مدنيين كانوا بانتظاره هناك، ويُضيف: " أدخلوني إلى منبج وسلّموني لوالدي الذي كان ينتظرني في المدينة، وهدّدونا بالقتل فيما لو أبلغنا عنهم القوات الأمنية المعروفة بالأسايش".
زوّادة أسى تكفي الجميع
تتوارى الأسئلة حول ضحايا حروب الرؤوس الكبيرة، وحول الأسباب الأساسية لمأساتهم وحول المعايير الواجب اتخاذها من دول العالم الغني القادر النافذ تجاه الحفاظ على ما تبقى من إنسانيتهم، بعيدًا عن تلك الأسئلة المختفية، يظهر المال كعامل أساسي يُحدّد طريقة التهريب المتوقعة لعبور الحدود، والوقوع في شِباكِ من أسماهم "عزيز" ذي (29 سنة) بالعصابات المجرمة، ويُضيف "عزيز" الذي رفض الكشف عن اسمه الثاني لـ"مجلة صور" أن " هؤلاء المهربين ليسوا سوى شبكة مافياوية لا تهتم بالمصير النهائي لضحاياها من المهاجرين".
فقبل حوالي السنة والنصف قبض خاطفو عزيز 25 ألف دولار بعد دخوله لكردستان العراق، ومنها دخل إلى إيران ثم إلى تركيا ليُقبضَ عليه من قبل القوات الأمنية التركية التي أدخلته إلى مدينة ادلب مركز التنظيمات المتشددة في سوريا، ليجد نفسه أسيراً لدى جبهة النصرة، يقول الشاب العشريني إن عائلته فقدت الأمل بعودته، واعتقدوا أنه لقي حتفه لاسيما وأن التهمة الموجهة له و لكل السكان المُتحدّرينَ من شمال شرق سوريا بأنهم مقاتلون من وحدات حماية الشعب الكردية والذين تعتبرهم تركيا وبقية المتشددين الموالين لها من المجموعات السورية المسلحة بأنهم العدوُّ اللدود لهم.
أشار عزيز إلى أنه أُعيد إلى تركيا ومنها رجِع إلى كردستان العراق واستقر هناك، وهو الآن يعمل في مهنة صناعة الألمنيوم مؤكداً أن هاجس الهجرة إلى أوروبا توقف لديه بعد شهور من الخطف والاعتقال على يد الفصائل المتشددة وبضوء أخضر تركي.
إعدام ميدانيّ
تبدو الحياة لدى المهاجرين المغامرين مجرّد مشهدٍ مأساوي قاتمِ ومتكرر، مشهدٌ يُعيد استنساخ القصص ذاتها وبالصورة نفسها التي قد تختزل نهاية مأساوية تنتظر السالكين لدروب الهروب صوب حياة طبيعية للحالمين بالوصول لأضواء أوروبا الساحرة، لكن تلك الخيالات الوردية تبدّدت ولاحقت كوابيسُها أحلام "مولودة حاجي" الشابّة الكردية من مدينة القامشلي بعد أن تجهّزت لخوض تجربة عبورِ الحدود من مدينة الدرباسية الحدودية مع تركيا برفقة ابن شقيقها ( 14 سنة)، لكن وفاة عمّها ليلة سفرها أخّر رحلتها وخلّصها من عملية إعدام ميدانية كانت ستكون هي وابن شقيها من ضحاياها.
تقول مولودة (35 سنة) لمجلة صور، إن دفعة المهاجرين التي اجتازت السياج الحدودي قبل 15 يوماً قتلوا جميعاً برصاص الجيش التركي حسب رواية المهرّب الذي هو من أصدقاء شقيقها، وأبلغها أن المجموعة التي أدخلها (وعددهم 15 شخصاً) قد وقعوا بيد حرس الحدود التركي الذي لم يتورّع عن قتلهم وتنفيذ عملية اعدام ميدانية بحقهم، ولم تستطع مجلة صور التاكد من صحة هذه المعلومات لكن تقارير منظمات الدولية تؤكد استهداف حرس الحدود التركي لمن يحاولون دخول تركيا عبر الحدود.
وقد أكدت منظمة هيومن رايتس ووتش في تقرير لها في 10 أيار/مايو 2016 إن قوات حرس الحدود التركية تطلق النار عشوائياً على طالبي اللجوء السوريين الذين يحاولون العبور إلى تركيا، ويعيدونهم بشكل جماعي إلى حيث قدموا.
قال جيري سيمبسون، باحث أول في قسم اللاجئين في هيومن رايتس ووتش: "رغم أن كبار المسؤولين الأتراك يزعمون أنهم يستقبلون اللاجئين السوريين بحدود وأذرع مفتوحة، إلا أن حرس الحدود يُمارسون القتل والضرب ضدهم. إنه لأمر مروّع أن يُطلقوا النار على رجال ونساء وأطفال مصدومين، فارين من القتال والحرب العشوائية".
وبحسب المرصد السوري لحقوق الإنسان بلغ تعداد الخسائر البشرية على يد حرس الحدود التركي 445 قتيلاً مدنياً في سوريا منذ عام 2011، هم: 324 رجلاً وشاباً و79 طفلاً دون الثامنة عشر، و42 امرأة فوق سن الـ 18، حيث تتواصل عمليات القتل بحقّ السوريين على الحدود التركية أثناء فرارهم من قصف النظام السوري.
شبكات التهريب مرتبطة بقادات الفصائل
يسلك المهاجرون من شمال شرق سوريا عدّة طُرقٍ للوصول إلى تركيا ومنها إلى شواطئ اسطنبول والعثور على مهربين لإيصالهم إلى اليونان ومنها ينتقلون إلى أوروبا.
"سعيد مصطفى" الذي عمل سابقاً كمهربٍ، تحدث لمجلة صور عن عدة طرق للتهريب وهي:" التهريب إلى إقليم كردستان العراق، ومن دهوك إلى تركيا والطريق الثاني هو من مدينة أربيل إلى مدينة السليمانية ثم إيران فتركيا".
والعبور الأخطر إلى العمق التركي بعد القرى الحدودية في ريف القامشلي والدرباسية التي يشير لها "مصطفى" هي عبر مدينة رأس العين، منوّهاً إلى أن المهربين يتصيّدون الراغبينَ بالوصول إلى الأراضي التركية، وإغوائهم بتسعيرةٍ لا تتجاوز 100 دولار ليُخطفُ المهاجر بعد وصوله للمدينة من قِبل الفصائل المتشددة المحتلة لها، وابتزازه وذويه بمبالغ طائلة مؤكداً أن غالبية شبكات التهريب مرتبطة بقادات الفصائل السورية الذين يحصلون على الحصة الأكبر من الفدية.
وأشار سعيد إلى أن التهريب عن طريق منبج ثم إلى جرابلس ثم إلى تركيا، لا تقلُّ خطورةً عن التهريب من رأس العين، وغالبية المهاجرين يَقعونَ ضحية الخاطفين من مسلحي الفصائل التي تطالبهم بالمال لقاء الحياة وبعضهم قد يُقتلونَ حتى لو دفعوا الفدية.
وأما طريق التهريب من منبج إلى جرابلس ثم اعزاز أو عفرين أو إلى ادلب، يُشرف عليه عناصر وقادات الفصائل السورية، مضيفاً أنه يتم تسجيل أسماء المهاجرين في نقاط التفتيش بالإضافة إلى الفيش، وهذه الطريقة بحسب الخبير المهرب آمنةٌ نسبياً ولكنها مُكلفة تصل لـ 1500 دولار على كل شخص، وهي مخصّصة للمُسنينَ والعائلات.
وكشف "مصطفى" أنه في حال تعرُّض المغادرين للاعتقال أثناء دخولهم للأراضي التركية يُسلمون مرَّةً أخرى من قِبل الشرطة التركية للمعبر الحدودي الذي تسيطر عليه الفصائل وإدارة المعبر التي تكون هي أيضاً تتشاركُ مع المهربَ حصّته من مبالغ التهريب، فتّتصل بالمهرب ليستلم المهاجرينَ المُعادين.
تسعيرة طرق التهريب
لكل طريقٍ تسعيرتهُ الخاصّة التي تختلف بين عبور آمنٍ أو مغامرة غير مضمونة، وعرض "سعيد مصطفى" لمجلة صور قائمةً بتسعيرة عمليات التهريب التي تتراوح تكلفتها للشخص الواحد من القامشلي إلى إقليم كردستان العراق بين800 إلى 1000 دولار أمريكي.
بينما تصل لـ 1500دولارمن مدينة دهوك إلى تركيا، أما من مدينة أربيل والسليمانية إلى إيران فتركيا فتصل لـ 2000 دولار.
ومن مدينة منبج إلى جرابلس إلى تركيا تُحدد ما بين 1250 /1350دولاراً، لكنها تبلغ 1500دولار من منبج اعزاز، ادلب، عفرين.
وأشارت مصادر خاصة لـمجلّة صُوَر عن وقوع 20 حالة خطف خلال السنة والنصف الماضية للمهاجرين من قبل شبكات الإتجار بالبشر المرتبطة بقادات المجموعات السورية المعارضة حُررت جميعها مقابل مبالغ مالية تراوحت بين 20 إلى 30 ألف دولار.
وأكدت المصادر عن عمليات خطف طالت 10 أشخاص وصلوا إلى جرابلس قبل عدة أيام كانوا قادمين من مُدُنِ وأرياف شرق الفرات، بينهم زوجان تزوجا حديثاً، وطالبهم الخاطفونَ بفدية 20 ألف دولار عن كل شخص.
وتبقى قِصصُ المهاجرينَ غير الشرعيين مليئةً بالمآسي والأحزان، فهُم في حالة هروب من جحيم حياة يعيشونها إلى جحيم آخر "مجهول"، وفي أحيان أخرى يكون الهروب هو نقطة النهاية بدل أن يكون نقطة البداية، فالمهاجرون والنازحون يظهرون في الأخبار كأرقام غالباً لا تلتفتُ إليهم ديباجات النشرات الإخبارية إلا كموضوعات لأحداث مأساوية وحزينة.