من وراء الاعتداءات على المدارس في سوريا؟
لم يكن المعلّم السوري خلال السنوات الماضية بمنأى عن كافة أشكال القهر التي فاقمتها الحرب، ولكن ما لم يكن في حسبانه أن ينال نصيبه من ظاهرة انتشار السلاح بين أفراد المجتمع، ليضاف إلى قهره قهرٌ جديد، فقد بات يسيطر عليه القلق والتوجّس أثناء عملية المراقبة في امتحانات الشهادات العامة، خوفاً من وقوع مشكلة مع أي طالب يقف وراءه السلاح، ولم يتوقف الأمر عند ذلك، فمنذ بداية العام الدراسي تشهد المدارس اعتداءات متكررة ولأسبابٍ مختلفة، وأخصُّ بالذكر هنا مدارس محافظة السويداء، كان أحدثها هجوم ولي أمر طالبة بسلاحه على إحدى المدارس مع مرافقة مسلحة قامت بتطويق المدرسة، وذلك لقيام مدير المدرسة بإجراء قانوني وهو فصل ابنته لمدة ثلاثة أيام بسبب سلوكها السيء، وفي حادثة سابقة على هذه الحادثة وفي المدرسة نفسها، قامت طالبة بضرب مدرّسة، ولم يتم اتخاذ أي إجراء قانوني بحقّ الطالبة، بل تمّ استعطافها كي لا تخبر ذويها بما حدث، خوفاً من أن يشهروا أسلحتهم في حرم المدرسة، وهذا ما يدفع المعلمين إلى تجنّب أي طالب يعلمون أنه يستند إلى قوة مسلحة (عصابة، لجان شعبية، دفاع وطني، كتائب، زعران)، أو الصمت على إهانته لهم.
لم يلقَ الاعتداء على المدرسة والمعلّم ردّة فعل أهلية بمستوى أهمية هذا الحدث، فالاعتداءات المتكررة التي لم توثَّق هي أكثر بكثير مما تم توثيقه، ومع ذلك هناك عدم اكتراث في مجتمع مازال، نظرياً على الأقل. تقترن فيه صورة العلم والمعلّم بالقداسة، فسكوت الأهالي في محافظة كمحافظة السويداء عن هذه الاعتداءات، وطيِّها في نسيانٍ متعمدٍ، نتج عن الوتيرة المتسارعة والمتزايدة لمظاهر العنف المحلّي، وبالرغم من أنّ هذه المظاهر تطال أطفالهم مباشرةً، إلّا أنّ عدم الاكتراث كان الموقف الأهلي الوحيد، وهذا يؤكد على نجاح السلطة في إضعاف الترابط الاجتماعي، وتغييب الجانب الأخلاقي، وإفراغ القيم من معناها.
من جانبٍ آخر فإنّ غياب وقفاتٍ احتجاجية رسميّة للمعلميّن ونقابتهم، كالوقفات الاحتجاجية التي شهدناها لمحامي السويداء، يشير بشكلٍ واضح إلى القيود التي تكبّل المعلم، وإلى الحبل المشدود على عنقه، فالاعتداء المسلّح على المدرسة أو على زميلٍ لهم، يربطهم به انتماءٌ نقابيّ عريض، لم يحرّك لهم ساكناً، ونقابة كشّ الذباب والتصفيق، سُجّل غيابها الكامل عن أيِّ ردّة فعلٍ أو استنكار لما جرى، فهل السبب الرئيسي لهذه الفوضى ولهذه الاعتداءات المتكررة هو انتشار السلاح حقّاً؟ أم أنّ هذه الاعتداءات هي نتيجة وليس السلاح سوى داعم لها؟ ربما نتمكن من الإجابة عن هذين السؤالين بالعودة إلى تاريخ المعلم السوري منذ الخمسينيات وحتى الآن.
ليس مستَغرباً أن يُعجب "مهاتير محمد" الطالب آنذاك، بما وجده في سوريا من نمو اقتصادي وصناعي وحضاري في زيارته لها عام 1952م، فقد عاد إلى وطنه بحلمِ، أن يجعل من ماليزيا شبيهةً بسوريا، لاسيما أنّ بريق التجربة التعليميّة السورية، شكّل لديه حافزاً قوياً لتطوير قطّاع التعليم الماليزي، واعتبره مهاتير المهمّة الأولى لمشروعه الوطني، خاصةً أنّ بلاده وقتها كانت ما تزال تعاني من الاستعمار الانكليزي، إذ أنّ قطاع التعليم السوري كان قد لعب دوراً وطنياً متميزاً في التحرر من الانتداب الفرنسي، وكان الجميع متّفقاً وقتها على أنّ التعليم رافعةٌ أساسيّة لنهوض المجتمع وتقدّمه، مما أتاح رصد ميزانيات ضخمة لتطوير التعليم، كما أنّ المكانة الماديّة والمعنوية للمعلم، شكلّت وقتها محركاً أساسياً لتجربة تعليم رائدة في المنطقة، لكن هذه التجربة ما لبثت تتقهقر في ظل الانقلابات العسكرية اللاحقة، حتى وصلت مع استيلاء الأسد الأب على السلطة إلى الحضيض.
فلو سألنا حالياً: ما الفرق بين التعليم والمعلّم السوري من جهة والتعليم والمعلّم الماليزي من جهة أخرى؟ هذا إذا لم نستحضر التجربة اليابانية أو الكندية أو الفنلندية؟
لا شكّ أنّ هذه المقارنة ستثير سخريةً قاسيةً، فالكلّ يعرف أنه: لا وجه للمقارنة. في الحقيقة المسألة تتجاوز المعلّم، لأنها تتعلق برمَّتها بالفجوة الحضارية والاقتصادية التي تفصل بين أنظمة مغلقة يغذّي الاستبدادُ وحراسةُ التأخر وجودَها، وأنظمة تتشكّل حيويتُها وطاقتُها من حريّة الفرد ونشاطه، فالمعلّم السوري في المحصلّة هو ابن الشروط التي فُرضت من قبل السلطة على مؤسساتها، فالجميع على رقعتها أحجارٌ تتحرّك وفقاً لرغبتها ومصلحتها، كما تُزاح عندما تقتضي الضرورة.
ولم يشكل المعلّم استثناءً عن هذه القاعدة، فبعد أن أصبح الأسد الأب المعلّم الأول، أصبح كل معلّم ثانوياً وهامشياً، لأنّ هذا الاستبعاد المتعمّد لدور المعلّم، كان الأداة الأهم لهدم عملية التعليم في سوريا، فبفضل منظمة طلائع البعث، وشبيبة الثورة، وعبر أدلجة شاملة للتعليم، يحصد كامل المجتمعُ السوري اليوم ثمار سلطة الأسدين الفاسدة.
اقرأ أيضاً:
الإصرار الرّسميّ على فتح المدارس أثناء الكورونا.. ماذا في الخفاء؟
يتضح اليوم الدور الحقيقي للمدرسة، والذي تكشَّف عن أنّ التعليم والمتعلّم آخر ما يُعنى بهما، لاسيما أنّ سوريا تصدّرت نهاية سلّم التصنيفات العالمية لجودة التعليم، في قوائم الأمم المتحدة والمنظمات العالمية، في السنوات الأخيرة، ثم خرجتْ لاحقاً من أي تصنيفٍ، لهذا فإنّ وظيفة المدرسة العقائدية في سوريا، يُناط بها اليوم تمديد الصلاحيّة المنتهية للنظام، عبر وظيفة التكريس العقائدي لمفاهيم الهيمنة، التي شنّت السلطة من خلالها حربها على المجتمع، فالمدرسة هي آخر القلاع النظرية لنظام تتآكل هيمنته، والذي شكّل المعلّم ـــــ من حيث يدري أو لا يدري ــــــ الجزء الأهم منه، فالمحاكاة المفروضة للمعلّم الأول عبر بعثنة المجتمع، جعلت من القائد المثل، قدوة تسلّطية لا تربوية، وجعل من التربية والتعليم زائدة دودية في جسد الواقع، وهذا ما حوّل المعلّم إلى موظف يحتل الدرجات الأخيرة من السّلم الاجتماعي والاقتصادي، لقد تمّ إفراغه من محتواه الاعتباري كمنتج للعلم والمعرفة، إلى مُلقّن تعليمي بمرتبة موظّف صغير في دوائر الدولة.
الصورة التي تبرز اليوم في ضوء استثمار المدرسة كمنصة لتواجد السلطة، صورةٌ كارثية، فهي تعتمد التضليل العام لإثبات وجودها، عبر إدارة المشكلة وليس عبر حلّها، وقد يكون التضارب والتخبّط المجتمعي الذي أثاره فيروس كورونا أحد أهم تجليّاتها، فالحرص الذي تبديه السلطة على استمرار العمليّة التعليمية، ضمن حروب مفتعلة بين مؤسساتها، تستهدف تأصيل الخوف في معادلة (إما/ أو)، التي أشعلتْ سابقاً سوريا وأحرقَتْها، وأمام كلّ هذا وقف المعلّم عاجزاً عن فهم ما يجري، فدوره كان قد انتهى عند كونه بيدقاً ينفّذ ما يُطلَب منه، وإلّا فليس أسهل من فصل موظفٍ صغير في أنظمة لا تقبل وجهة نظر مختلفة أو حتى وجهة نظر، والأعداد الكبيرة للمعلمين الذين تم فصلهم من وظائفهم شاهدً على ذلك.
فتدهور القيمة الاعتبارية المتعمّدة للمعلم في المجتمع السوري، قياساً بالمكانة الاجتماعية التي شغلها قبل حكم الأسد، والتي كانت توازي مكانة الزعماء التقليديين ورجال الدين، ساهمت، كما أشرت، في وضع المعلّم أسفل السلّم الاجتماعي، حيث بات الاعتداء على المدرسة والمعلّم في محافظة السويداء، مشهداً مألوفاً في ظل الغياب الكامل للرادع الاجتماعي والأمني، ففي حوادث الاعتداء الموثّقة على المدارس في المحافظة، لم يتدخل أحد لحماية المدرسة أو المعلّم، باستثناء الدوريات التي قامت بها كتائب البعث بإيعازٍ حزبيّ، على الرغم من معرفة الجميع بأنّ هذه الكتائب تشكل خطراً أكبر على المجتمع، فلا مجال للمقارنة بين الاعتداءات الانفعالية التي تمت على المدارس، وبين اعتداءات كتائب البعث المخطّط لها داخل المحافظة وخارجها، إنّ إرسالهم لحماية المدارس ليس سوى تأكيداً لمقولة (حاميها حراميها)، بالمقابل ما إن تشمّ السلطة رائحة مظاهرة أو حركة احتجاج شعبي على وضع معيشي خانق، حتى تستنفر لقمعها كل العضلات الأمنية التي تتوفر عليها، بما فيها كتائب البعث نفسها.
لنتمكّن من قراءة ما يحدث قراءةً مجدية، علينا ألا نفصل النتائج عن جذورها، فالعجز والإخفاق المجتمعي في إيجاد حلول لما يحدث اليوم، هو استثمار السلطة الطويل الناجح والفعّال في جميع مؤسساتها، وبالأخص المؤسسة التعليمية، فقد تمكنت الوظيفة العقائدية التي أُنيطت بالمدرسة ــــ منذ أن اغتصب الأسد الأب السلطة ـــــ من تحطيم التجربة التعليميّة في سورية، وتأسيس ثقافة الجميع ضد الجميع، وأكثر ما استثمرت فيه هو تفكيرنا العاطفي، كوننا مجتمعاً عاطفيّاً تتفجر انفعالاته فقط عندما يصطدم بالمشكلة، ليعيد إنتاج المشكلة برعاية حرب الإملاءات العقائدية على الأفراد وتسطيح إدراكاتهم، وهذا ما يجعل اغتراب الإنسان عن الواقع مرتبطاً باغتراب النتائج عن الأسباب. فليس انتشار السلاح من يهدّد المدرسة والمعلم والعملية التعليمية، إنه عدم الفهم العميق للواقع وتناقضاته، وأصابع الاتهام والإدانة التي تشير دائماً إلى الجهة الخاطئة.