شُعب التجنيد كابوس الشباب السّوري
"ورقة التّأجيل ودفتر الخدمة دائماً بالجيبة الداخلية للجاكيت، وكل 5 دقائق بتلمس عليهم لأتأكد أنن لسه موجودين، بهالأيام ما في أهم من هالورقتين بحياتك، لتقدر تمشي بالشارع" هكذا تحدث "خالد الخالد" وهو الاسم المستعار لشابّ من محافظة درعا، تمّ تبليغه للالتحاق بشعبة تجنيد مدينة ازرع في ريف درعا، منذ أربعة أشهر حين أتمّ سنّ الثامنة عشر من عمره، وأصبح مطلوباً للخدمة الإلزاميّة.
يبدأ الكابوس مع دخول الشابّ السوريّ سنّ الثامنة عشر، فتتوقّف كلّ أحلام الشّباب وطموحاتهم التعليميّة والمهنيّة، ويدخلون في دوّامة شُعب التّجنيد (التّأجيل – موافقة السّفر – السّحب للخدمة الإلزاميّة).
يروي خالد كيف استطاع الحصول على تأجيلٍ للخدمة الإلزامية لأنّه معيل لوالدته، وكيف نجى من الشّرطة العسكريّة المتواجدين في الشّوارع العامّة، والمراكز الرئيسيّة للدّولة.
"بعد دخولي سنّ التكليف بدأت أشعر بأنّ الدّنيا قد أُغلقت في وجهي، من المستحيل بالنّسبة لي الالتحاق بالخدمة العسكريّة، فأنا أسمع، وأرى كيف يقومون بزجّ الشباب في مقدّمة المعارك.. ناهيك عن المدّة غير المعلومة لموعد انتهاء الخدمة، لذلك كنت حازماً في قراري بعدم الذّهاب للخدمة العسكريّة".
بدأ خالد بالسّؤال عن الآليات والقوانين المتّبعة في قانون خدمة العلم لتأجيل الالتحاق بالخدمة الإلزاميّة، فوجد أنّه يستطيع التّأجيل كمعيلٍ لوالدته الوحيدة في المنزل، توجّه إلى شعبة التّجنيد للقيام بالإجراءات، ولكنْ لم يكن يتوقّع أن تكون الأمور داخل شُعب التجنيد بهذه الصّعوبة. يصفُ خالد ما حدث معه قائلاً "نجوت من الاعتقال والسّحب للخدمة بأعجوبة، بعد أن ألقت الشّرطة العسكريّة المتواجدة داخل شعبة التّجنيد القبض عليّ".
أخبرهم خالد بأنّه غير مخالفٍ وجاء لتقديم طلب تّأجيل إعالة، وأنّه مستوفٍ لشروط هذا التّأجيل، لكنّهم لم يكونوا يستوعبون أيّاً من العبارات التي تكلّم بها، يصفُ خالد المشهد لـ مجلّة صور قائلاً "لم يتكلّموا سوى بجملةٍ واحدةٍ هي (أنت في سنّ الخدمة الإلزاميّة، سيتمّ سحبك الآن، ولا يوجد مبرر لعدم تأديتك للواجب الوطنيّ، فكلّ شباب سوريا يخدمون الوطن) ليقوم أحد عناصر الشرطة العسكريّة بأخذي على جانب، ويهمس في أذني بكلمتين (ادفعلك 50 ألف ليرة أحسن ما تروح تموت على جبهات إدلب)، بالفعل لم أتردّد في إخراج مبلغ الخمسين ألف ليرة، وأقوم بدفعها لهذا العنصر، ومباشرة قاموا بتركي دون أيّة نقاشات أخرى".
الحصول على التّأجيل ليس بهذه السهولة، يحتاجُ طالبُ التّأجيل إلى كثيرٍ من الأموال للحصول عليه، وإلى واسطة كبيرة، يقول خالد "أخبرني أحدُ موظفي شعبة التجنيد، اذهب وأحضر واسطة كبيرة أو قم بالذّهاب للعسكريّ الموظف المدعو "ع. خ"، وفاوِضْهُ على مبلغ ماليّ ليقوم بمساعدتك، تكلّمت مع هذا الموظّف الذي كان منهمكاً في كتابة الأضابير والوثائق على مكتبه، وبدأت أشرح له حالتي فنظر إليّ على عجل، وقال: (جهّز مبلغ 500 ألفِ ليرةٍ سوريّة لتحصل على التأجيل، وغير هيك بحياتك ما بتأجل). فكّرت قليلاً وبدون تأخير أخبرته موافقتي، وبالفعل بدأت بتحضير الأوراق وبعد حوالي 20 يوماً استطعت الحصول على التّأجيل".
خالد الخالد ليسَ الوحيدَ في هذا الحال، حيثُ بلغ تعداد الشّباب المطلوبين للخدمة الإلزاميّة في محافظة درعا عام 2018 حوالي 40 ألف شابٍ بحسب اللّجان المفاوضة مع قوات النظام.
يجد عددٌ كبير من هؤلاء الشّباب أنفسهم أمام خياراتٍ أحلاها أمرّ من الآخر، حيث توجّه عدد منهم إلى الانضمام لصفوف الفيلق الخامس المدعوم من قبل روسيا والذي يقوده أحمد العودة (قائد سابق في الجيش الحر) هرباً من التجنيد الالزاميّ واصفين هذا الخيار بالأقل ضرراً من غيره، كون جميع عناصر هذا التّشكيل المنضمين من أبناء محافظة درعا هم من عناصر المصالحة ممن كانوا جيش حر سابقاً.
وفيما انضم قسمٌ أخر من الشّباب إلى القوّات المواليّة للنّظام التي تحصل على تمويلها بشكل مباشر من القوّات الإيرانيّة مثل (قوّات الدّفاع الوطنيّ – كتائب البعث) بموجب عقود رسميّة تضمن الإعفاء من الخدمة الإلزاميّة بالكامل مقابل تأدية الخدمة فيها لمدة عام ونصف فقط، كما تضمن هذه القوّات عدم الاحتفاظ بالمتطوع بعد إنهائه الخدمة على خلاف قوّات النّظام التي لا تزال تحتفظ بالآلاف من عناصرها الذين كانوا قد أنهوا خدمتهم عمليّاً.
ويفضّل فئةٌ من الشّباب الهجرة من سوريا هرباً من التّجنيد الإلزاميّ، وهذه الفئة قد ازدادت بشكلٍ ملحوظ في الفترة السّابقة حيث قُدّر عدد الشّباب المهاجرين من الجّنوب السّوري خلال الأشهر الثلاثة الماضية بخمسة آلاف شابّ، معظمهم توجّه إلى تركيا ولبنان، ومنهم من بقي في المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة في الشّمال السّوري.
ويلجأ البعض من أبناء محافظة درعا ممن لا يملك تكلفة الهجرة، ولا يرغبون بالانضمام لأيّ جهةٍ عسكريّة، إلى مدينة بصرى الشّام ومدينة طفس، حيث لا تستطيع قوّات النّظام فيهما أن تقوم باعتقال الشّباب، وسحبهم للخدمة العسكريّة، بسبب السّيطرة العسكريّة لأبناء هاتين المدينتين عليهما، وعدم السّماح لقوّات النّظام بالدخول إليها واعتقال أيّ شابّ من داخل هذه البلدات.
يقول عامر المفعلاني وهو أحد سكّان بلدة ناحتة في ريف درعا الشرقي، ويعمل في دولة الإمارات العربية المتحدة منذ 8 سنوات: "عدت إلى سوريا في إجازة شهريّة كان من المفترض أن تنتهي في منتصف شهر نوفمبر الفائت لكنني عند العودة فوجئت بطلب "موافقة السّفر" من قبل عناصر الهجرة في معبر "جديدة يابوس" الحدودي مع لبنان".
يسرد عامر رحلة إصدار موافقة السّفر مع شعبة التجنيد في درعا، بعد أن يخبر الموظّف أنّ إجازته قد انتهت ويجب عليه الإسراع بالعودة للإمارات حتى لا يفقد إقامته فيها. الرحلة التي بدأت بتقديم طلب دفع الكفالة الماليّة المطلوبة للبنك العقاري وهي خمسون ألف ليرة سوريّة، يصفها عامر لـ مجلّة صور قائلاً: "ابتسم الموظّف في وجهي، وقال: (لن تحصل على موافقة السّفر، لأنّ دفتر العلم تالف) لأفاجأ بتمزيق الصّفحات الأولى من دفتر خدمة العلم، فهمت أنّ الموظّف أتلفه ليستطيع ابتزازي وأخذ الرشوة، همست في أذنه: كم المبلغ المطلوب لإصدار موافقة السفر؟ قال أربعمئة ألف ليرة سوريّة، وتأتيك موافقة السفر إلى منزلك، أي أنّه طلب ثمانية أضعاف المبلغ الحقيقيّ لموافقة السفر".
ينظر عامر إلى دفتر خدمة العلم الممزّق، ويتذكّر القصص التي كان يرويها أصدقائه في البلدة عن المعاناة والفساد الذي ينتشر في كامل مؤسسات الدّولة، وليس فقط شُعب التّجنيد، وبدأ يحسب الأيام المتبقية لانتهاء إقامته في دولة الإمارات، ليجد نفسه مضطراً لدفع هذا المبلغ من الرّشوة مقابل تيسير أموره والخروج من هذا البلد.
يقول عامر "بالفعل، قام الموظّف بأخذ الدّفتر، وطلب مني نصف المبلغ، وبعد أربعة أيام قمت بالعودة إلى شعبة التّجنيد لأجد أوراقي قد تم تجهيزها في ظرف، وكتب عليها اسمي، قمت بدفع باقي المبلغ وأخذت الظرف".
يعبّر عامر عن انزعاجه في أخر كلامه وبأنه لن يرجع إلى سوريا، حتى زوال هذا النّظام، قائلاً "هذه ليست حياة بشر! هي أشبه بحياة العبيد".
قصّة خالد وعامر هي واحدة من آلاف القصص التي تحصل بشكلٍ يومي مع الشّباب السّوري في الدّاخل، ويرى الكثير من الشبّان بأنّ الهجرة من سوريا، والهروب من هذا الكابوس الذي يلاحق الجميع، بات أفضل الحلول بالنّسبة للكثيرين منهم، فمواجهة يومين أو ثلاثة من الخوف والابتزاز الماديّ من قبل المهربين، والمخاوف الأمنية من الاعتقال أثناء رحلة الهروب من سوريا، تبقى أفضل من عيش كابوس مستمر بين ثنايا شُعب التجنيد والحواجز الأمنيّة.