info@suwar-magazine.org

معادلة الجوع والأمان في سوريا

معادلة الجوع والأمان في سوريا
Whatsapp
Facebook Share

 

 

"الجوع كافر، وأنا في صفِّ الجوع الكافر، ما دام الصفُّ الآخر مثقلاً بالأوزار".

"أعطِنا خبزَنا كفاف يومنا"

 

أذهله زئيرٌ انطلق من بين الحشود المتدافعة على أحد الأفران، سقط الخليوي من يده على الأرض، وخرجت عيناه من محجريهما.

 

ما أعاده للواقع صدى صرخة امرأةٍ وهي تشير إليه: "ولااااك، نحن رضيانين شو ما صار سعر الخبز، حتى لو تضاعف أضعافاً، امسكوه وسلّموه للأمن..!".

 

كم هو رائعٌ أن يحلم الإنسان بطعم الحرية، القليل من الحرية، وجميلٌ أن ينام الإنسان على طرفٍ من وسادته، بعد عودته ملقياً عن كتفه صليب جلجلته أو صخرة سيزيف، ويتوسّد الجانب الآخر لوسادته وجه عشتار.

 

لم يكن مطلب السوريين الذين هتفوا لتونس بعد الشرارة التي أوقدها بوعزيزي في 17- 12- 2010، ثمّ في مصر، سوى القليل من الحرية، القليل من الخبز، والقليل من الأمان.

 

خمسون عاماً، والسوري يحمل صليبه على كتفٍ، وعلى الكتف الآخر يقبع رقيبٌ لا يُرى بالعين المجردة. ولكنه يحسّ بوطء ظلّه، وثقله الذي أجبره على الانحناء، منذ الانقلاب العسكري في عام 1970.

 

حينها عُمِّد العهدُ الجديد للسلطة السورية بالدم، ورسّخته بالاعتقالات والقبضة الحديدية التي لا ترحم، حتى أقرب المقرَّبين من رفاق الدرب أو غيرهم.

 

ولم يتوقّف الأمرُ على الأفراد، بل طال النقابات التي تجرّأت ورفعَت الصوت، واعتُقِل رموزُها وقياداتها، وصولاً إلى تدمير مدينة حماه لتكون العبرة لكامل الجغرافية والمجتمع السوري، حيث أزهق النظام أرواح عشرات الآلاف، غُيِّب في المعتقلات عشرات الآلاف من السوريين، وطواهم النسيان.

 

 

وكما صاح البوعزيزي بالشرطية التي صفعَتْه على وجهه أمام جمعٍ غفير من الناس: "لماذا تفعلين هذا بي؟ أنا إنسان بسيط،..".ولمّا لم يجد أذناً صاغية لقهره، أخبر العالم حوله بأنه سيحرق نفسه. لم يصدِّقه أحد، أو يأخذوا كلامه على محمل الجد، كحال ولاة الأمر في المجتمعات المتخلفة. ألهب تونس والشارع العربي، وصحا من الغفلة الشارع والطاغية، وانجلت الظلمة بنار البوعزيزي.

 

كذلك الشارع السوري البسيط الذي يبحث عن لقمة العيش ليومه فقط. وغدت مقولة " الله ما بينسى حدا" مقولته الشائعة على كل شفة ولسان. ولكن أنَّى للذات الإلهية أن تخوض في الحياة اليومية للبشر من عليائها..!؟ وكيف لطاغيةٍ باغٍ، أن يرى (إنساناً) فراشه الأرض ولحافه السماء، وطعامه من حاوية قمامة، أو صدقة مسكين اقتطعت من عرق جبينه، ومُنح منها أقل القليل، باسم العطاء والمكرمة..!؟

 

في السابع عشر من شباط 2011، أُغلِقَت سوقُ الحريقة في قلب دمشق، الذي تجمهر فيه التجار والسكان من المناطق المحيطة، عند إهانة رجل من الأمن وحفظ النظام لابن أحد التجار، ردَّد خلالها المتظاهرون "الشعب السوري ما بينذلّ"..؟

 

استطاع النظام القديم أن يمدَّ جذوره ويرسِّخها خلال عقدي السبعينيات والثمانينيات في الريف على حساب نخب الطبقة الوسطى المدينية المهيمنة تاريخياً، وذلك من خلال إعادة توزيع الثروة، (ولكن في حدودها الدنيا) بما يحفظ لقمة العيش لليوم التالي. مع بسط الذراع الأمنية على كامل مفاصل المجتمع، منتهجاً سياسة أمنية تعتمد على أنّ الفرد مدانٌ حتى تثبت براءته بالولاء المطلق، والانتماء إلى القطيع.  

 

بينما في العهد الجديد، في بداية القرن الحادي والعشرين، فقد انكسر العقد بين النظام وجمهوره الريفي. إضافةً إلى تدهور الوضع الاقتصادي بشكل سريع للطبقات الريفية والمدينية والوسطى، حتى طال غالبية الشرائح الاجتماعية. فيما حصدَتِ الحاشيةُ وحيتانُ المال الملايين، سواء على حساب تلك الطبقات، أو من خلال احتكار ونهب الثروات الوطنية، أو المتاجرة بالثروات الطبيعية لحسابها الخاص.

 

ومع تطبيق السياسة الاقتصادية الليبرالية، الهادفة للدخول في اقتصاد السوق الحرّ، من خلال تَبَنّي سياسات البنك الدولي، التي كان عرّابها الدكتور عبد الله الدردري، تحت مسمّى "اقتصاد السوق الاجتماعي". ومن خلال هذه السياسة الليبرالية، تم تعديل الكثير من القوانين لتتوافق مع قوانين منظمة التجارة العالمية، كقوانين الاستثمار الأجنبي، وبورصة الأوراق المالية، وخفض الضرائب على البضائع المستوردة.

 

وكان من نتائج السياسة الليبرالية الجديدة، ارتفاع الأسعار، وزيادة البطالة، والتضخم، وتآكل الطبقة الوسطى، وتعميم الفقر، وإغلاق العديد من المصانع والمنشآت الحرفية الصغيرة والمتوسطة في مدن دمشق وحلب وحمص، نتيجة المنافسة غير المقَنْوَنة، وغير (العادلة) مع البضائع الأجنبية المستوردة، وبالأخصّ من تركيا والصين.

 

كما اعتمدت تلك السياسة على تهميش قطاع (الدولة)، وتفشيله وإفلاسه، ومن ثمّ بيع أصوله للقطاع الخاص أو للاستثمار من قبله. 

 

فكانت رصاصةَ الرحمة على العقد الاجتماعي من طرفٍ واحد، ما بين نظامٍ استبدادي سلطويٍّ غاشم، وبين مجتمعٍ مغلوبٍ على أمره، عانى ما ينوف على ستة قرون من التعسف والاستبداد والتهميش والتجويع والقهر.

 

منذ العقد الماضي انتهج النظام سياسة هادفة لتجويع الشعب السوري، ابتدأها برفع الدعم عن العديد من أساسيات استقرار الإنتاج الزراعي، كالماء والكهرباء والمازوت، والأخير كان عصب الأمان لآلاف الهكتارات، في كامل المنطقة الشرقية من سوريا، حصن سوريا الحصين والاستراتيجي لزراعة الحبوب، ومن أهمها القمح، ومن ثم باع المخزون الاستراتيجي، ليضع المجتمع أمام كفاف يومه.

 

 

وأمام حالة استعصاء النظام الحالي في حسم الصراع، فقد تجاوز النظام السوري كل الخطوط الحمراء لعلاقة السلطة بالشعب، وخرَقَ الحقوق الإنسانية المتعارف عليها كلّها. وفصَمَ العقد الاجتماعي الذي فصّله على مقاسه، وشرْعَنَه باستفتاء شكلي. كما استخدم أساليب القهر والإذلال والتجويع كلّها، وبشكلٍ ممنهج ومتعمّد، بعد أن عجزت آلة القتل والبطش في تحقيق انتصاره..! وعلى من..؟

 

لا البرد ولا الحَرَ ولا العتمة، كسرت إرادة شعب حلم بالقليل من الحرية، والقليل من الدفء، والقليل من الهواء النقي، الذي لا يتخلّله نَفَسُ مخبرٍ أو عميل، وبضع قطرات من الماء غير الملوث بالنفايات.

 

كسرة خبز..! قصمت ظهره، ماذا سيقول لطفله عندما يبكي من الجوع وليس لديه كسرة خبز..؟!

 

استطاع أن يضحك عليه وقال له: إنّ  الموز مسموم..!

واستطاع أن يقنعه بأنّ البيض فاسد...!

واستطاع أن يواربه بأنّ الحليب مغشوش..!

واستطاع .. أن يلغي من حياته الكثير من الضروريات والحاجات، للاستمرار في الحياة، وبحجج شتى، والقلب يتمزق، والقهر يزداد، والمعاناة والخوف على صغاره، وليس نفسه، يشلّ إرادته.

 

ولم يتبقَّ له سوى تلك الصرخة الداوية لامرأة، أمام مخبز، تنتظر دورها مع المئات من البشر، ويتدافعون ويتقاتلون ويصرخون: "بدنا نعيش..." ليس خوفاً من الموت، ولكن الموت أبى في هذا الزمن العاهر أن يأتي، أو لأنه استسلم ولم يعد يقوى على ممارسة مهمَّته.

 

يا...... الله حتى الموت أُرهق، ولم يعد يقوى على حمل منجله..!!

 وتخترقه صرخة المرأة من بين الحشد وتقول لي: "ولاك قبلنا لقمة الذل لأجل أطفالنا".

 

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard