الحياة السياسيّة في سوريا بين الأحزاب العقائدية والطوائف الدينية
هل هناك قواسم مشتركة، في الفكر والممارسة، بين الطوائف الدينية والأحزاب العقادئية التي سيطرت على المجال السياسي السوري منذ ستينيات القرن الماضي؟
وهل هناك قواسم مشتركة، في الفكر والممارسة، بين حزب البعث العربي الاشتراكي، الذي كان ــ ولا يزال ـــ قائد الدولة والمجتمع، وقائد الجبهة الوطنية التقدمية عملياً، والحزب النازي في ألمانيا، أو الحزب الفاشي في إيطاليا، أو الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي السابق، وما كان يسمى منظومة الدول الاشتراكية؟
وهل هناك قواسم مشتركة بين أحزاب الجبهة الوطنية العتيدة والأحزاب اليمينية الشعبوية والمتطرِّفة في الدول الأوروبية وغيرها؟
هذه أسئلة برسم أعضاء حزب البعث، وأحزاب الجبهة الوطنية التقدمية، وبرسم النخب الثقافية والسياسية الموالية والمعارضة؛ لأنّ الإجابة عنها قد تكشف طبيعة "الحياة السياسية السورية"، وقد طبَعَتْها السلطةُ الشمولية بطابعها على مدى نصف قرن، وقد تساعد في رسم صورة المستقبل انطلاقاً من الحاضر؛ لأنّ المستقبل هو ممكنات الحاضر.
الأحزاب السياسية، في أي مجتمع هي صورة الحياة السياسية في هذا المجتمع. الحزب فاعلٌ اجتماعي – سياسي هو الجسر الذي ينتقل عليه الأفراد من حيواتهم الشخصية الخاصة إلى الحياة العامة، فيشاركون في إنتاج مجتمعهم ودولتهم، وتقرير مستقبلهم وتدبير مصيرهم.
الحزب السياسي، بعكس الحزب العقائدي، يحمل بذرة المواطنة المتساوية.
تدور معاني الحزب في اللغة والثقافة العربيتين على المحاور الآتية:
1- الاجتماع على الرأي، وتلاقي القلوب والأعمال.
2 - العصبية والتعصّب والتحالف والنصرة.
3- العقيدة والمِلّة والطائفة.
4 - النزاع والحرب.
5 - القوّة والشدّة والغلظة.
6 - الممالأة والمحاباة أو "المحازَبَة". (راجع/ي لسان العرب)
7 – التضاد أو الثنوية المانوية، ثنوية النور والظلام، الخير والشر: حزب الله وحزب الشيطان، حزب النبيّ (ص) وحزب الكفار (كما ورد في القرآن الكريم: وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (سورة الأحزاب 56).
ولا يخفى الإيحاء القيمي السلبي لكلمة الحزب، إلا عندما تضاف إلى النبيّ، كحزب النبيّ، وإلى الله، كحزب الله، أو إلى حزب المتكلم والمتكلمين: حزبي وحزبنا.
كما لا يخفى الإيحاء الذكوري أيضاً: "حِزْبُ الرجل: أَصْحابُه وجُنْدُه الذين على رأْيِه". السوريون يقولون: نحن في سوريا، نقول: حزب خالد بكداش، وحزب يوسف الفيصل، وحزب رياض الترك ... إلخ، مما يحيل إلى الطابع الشخصي للسلطة، في البنى والنظم الاستبدادية.
ما يلفت النظر في جميع الأحزاب العقائدية السورية، بما فيها الأحزاب العقائدية المعارضة، أنّها نسخٌ رديئة عن الأحزاب النازية والفاشية والستالينية، بل هي نسخٌ " سياسية" و"حديثة" عن الطوائف المذهبية؛ وهذا مما يفسّر تعايشها مع الطائفية ،وإعادة إنتاجها في الحياة السياسية، كما يفسّر كونها أدواتٍ أمنية (أدوات للمخابرات) لاختراق المجتمع والسيطرة على الفضاء العام، وأدواتٍ للنهب والفساد.
سقط حزب البعث العربي الاشتراكي سياسيّاً وأخلاقيّاً، حين ثار عليه مئات الآلاف من أعضائه العاملين والأنصار، ولم يتبَّقَ في صفوفه سوى شبيحة وشبيحات، وانتهازيين وانتهازيات.
حاولَت السلطة أن توهم العالم بأنها تستجيب لمطالب الإصلاح، فألغت المادة الثامنة من دستور عام 1973، التي كانت تنصّ على أنّ حزب البعث هو قائد الدولة والمتجمع ويقود جبهة وطنية تقدمية .. واستبدلت بها في دستور 2012، مادة ثامنة تنص على التعددية السياسية وممارسة السلطة ديمقراطياً عبر الاقتراع. لكنَّ النص الدستوري شيء، والتطبيق الفعلي على أرض الواقع السوري شيء آخر. فلم تزل الفروع الحزبية هي السلطة السياسية الأولى في المحافظات السورية، ولها حقُّ التصرف في الشؤون المحلية، ابتداءً من المؤسسة التربوية وانتهاءً بالسلطة القضائية.
بسقوط الحزب سقطت شعارات "الوحدة والحرية والاشتراكية"، وظهر ما كانت تخفيه هذه الشعارات البرّاقة من فسادٍ ماليّ واقتصاديّ وإداريّ وسياسيّ وأخلاقي، وانكشفت سياسات القسر والإكراه التي فُرِضت على الشعب السوري، بدءاً من المرحلة التعليمية الأساسية، وانتهاء بالجامعات والدوائر الرسمية في الدولة.
إنّ خلوَّ دستور عام 2012 من المادة الثامنة القديمة، ليس حبراً على ورق فقط، إذ بدأت السلطة في إنعاش الحزب الميِّت لاستئناف وظائفه التي مارسها قبل 2011، للتحكّم بمؤسسات الدولة، والاستيلاء ونهب ما تبقى من الثروات الوطنية، والسيطرة على مقدّرات الشعب عن طريق الأجهزة الأمنية التي لا تزال سيفاً على رقابه، تكمّ أفواهه، وتمنعه من المطالبة بأبسط حقوقه الإنسانية. لكن السلطة لا تدرك أنّها تحاول إحياء حزبٍ ميّت وجبهة وطنية متعفنة أكلَها دودُ الفساد.
الأحزاب العقائدية كلُّها ذات عقائد جامدة، كالعقائد الدينية، غير قابلة للتطور، وممنوعٌ نقدها ومساءلتها، وتقوم على عبادة الفرد وتقديسه، وذات قياداتٍ فاسدة، تسيطر على الجماهير من خلال أجهزة المخابرات التي تسيطر عليها، وقد أثْرَت على حساب الشعب.
لا يختلف حزب البعث في سوريا اليوم، والعراق قبل عام 2003، عن الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفيتي، ولا تختلف اشتراكيته عن الاشتراكية العمياء التي حوَّلت الشعوب إلى جماهير "توتاليتارية" حسب تعبير "حنة أرندت"، فقد ظلَ لينين يحكم الاتحاد السوفيتي بعد وفاته بسنوات طويلة، ولم يزل ضريحه حتى الآن في الساحة الحمراء وسط موسكو، كمكان مقدَّس، أو كصرحٍ أثريّ، وما أشبه القرداحة بموسكو.
لا تقتصر ثقافة تلك الأحزاب على العقيدة الجامدة فقط، إنّما تعتمد ثقافة الإقصاء وعدم الاعتراف بالآخر المختلف، وهي فكرة عداوة راسخة في ذهنيتها، تنطلق من وهم المركزية الذاتية، التي بموجبها تعتبر أنّ ثقافتها متفوقة، وذات قيمة معيارية.
فحزب البعث الذي غرس في أذهان السوريين والسوريات مقولة "الأب القائد" منذ نعومة أظافرهم، من ثم مقولة "الأب الخالد"، لتتمركز في اللاوعي الجمعي، وتنتج أبناءً خاضعين وخانعين للسلطة الأبوية المغلَّفة بالاستبداد السياسي، لتصبح فيما بعد هوية جمعية مصطبغة ومختزلة بفرد واحد لا شريك له، وتنتج أفراداً متنافرين يهدِّدون الجسم الاجتماعي، ويبدِّدون وحدته، فثقافة الإقصاء لا تولِّد إلاّ العنف المعنوي والمادي، وتكرِّس النفور من الآخر المختلف، فالسلطة تقصي المعارض لها وتنكلّ به، والمعارض يقصي الموالي وينبذه، والحزبيّ يشي بجاره وزملائه في العمل من غير الحزبيين، والمسلم لا يعترف بالمسيحي، والعربي لا يعترف بالكرديّ وحقوقه الإنسانية، والرجال يقصون النساء ولا يعترفون بإنسانيتهنّ، ألا تسمّى تلك الممارسات كلُّها استبداداً، وأساسها التعصّب السياسي والديني والاجتماعي؟
عندما يقوم حزب البعث بفصل العاملين والعاملات في الدولة لأنّهم طالبوا بحقوقهم الطبيعية في العيش والكرامة الإنسانية، يكون متسلِّطاً ومستبِدّاً.
وعندما يستغِلُّ حاجة الأفراد إلى لقمة العيش، ويوظِّفهم لمراقبة الآخرين من أفراد المجتمع والوشاية بهم، يكون مستبِدّاً.
وعندما يبارك الفساد ويشترك في استشرائه يكون مستبِدّاً، ويعمل على تنمية الحقد والكراهية بين أفراد المجتمع الواحد، ويعمل على إعادة إنتاج التخلف والعصبية، بدلاً من التقدُّم والتطور.
إنّ عودة حزب البعث إلى العمل في الساحة السورية بعد أن خمد لفترة ليست بقليلة، لا تبشِّر بالخير لمستقبل الشعب السوري، فالتهميش والإفقار المتعمّد والممنهج لأفراد الشعب، وقمع الحريات، كلُّ ذلك لا يوحي إلاّ بإعادة إنتاج الاستبداد والظلم والقهر، لا بل باستبداله باستبدادٍ حديث أكثر شراسة وأكثر عنفاً وأكثر حقداً.
ومع ذلك لا بد من القول مع "أمارتيا صن( 1): "من الممكن لمِحنة الاستبعاد والإقصاء أن تسير جنباً إلى جنب مع هبة التضمين والاحتواء".
1-أمارتيا كومار صن (ولد في 3 نوفمبر 1933)، هو اقتصادي هندي، قدم إسهامات في اقتصاد الرفاه، ونظرية الخيار الاجتماعي، ونظريات الاقتصادية للمجاعات، حصل على جائزة نوبل التذكارية في العلوم الاقتصادية في عام 1998