info@suwar-magazine.org

إعادة بناء الدولة الوطنية وآفاقها الممكنة

إعادة بناء الدولة الوطنية وآفاقها الممكنة
Whatsapp
Facebook Share

 

 

لم تكن الدولة الوطنية بمفهومها الحديث من هواجس اشتغال الفكر السياسي العربي قبل تفجُّر الثورات الشبابية، التي فرضت أسئلتها الصعبة على هذا الفكر وجهازه المفهومي كسؤال: الدولة الوطنية، والهوية والانتماء الوطني، والديمقراطية، والمجتمع المدني، والمواطنة وحقوق الفرد، والديمقراطية، ...، والحريات العامة والخاصة. 

 

فالفكر العربي بأيديولوجياته الكبرى الثلاث (الدينية والقومية والماركسية) لم ينظُر إلى الدولة الوطنية إلا كأثرٍ استعماريٍّ مهين لا بد من تجاوزه، وشرعية منافسة لشرعية الدولة المنشودة حسب متخيّل كلِّ أيديولوجيا من تلك الأيديولوجيات: دولة الخلافة الإسلامية التي لا بدّ من إحيائها بالتخلص من "الدولة الوطنية العلمانية"، أو دولة  الأمة القومية التي لا تتحقق إلا بإلغاء التجزئة والتخلُّص من "الدولة القطرية" التي خلَّفَها الاستعمار، أو الدولة الاشتراكية التي تتنافى مع "دولة الطبقة البرجوازية المهيمنة ووحدة حركات التحرر".

 

تكرِّس بذلك الفصل بين الدولة المعاشة ومتخيّلها الأيديولوجي، وازداد حدَّةً مع الهزائم المتتالية واستعصاء عملية النهوض، فتضخَّمَ الأيديولوجي وتحوَّلَ إلى عقائد صلبة، وضمر الواقعي، والتبست الحرية بالتحرُّر، والوطنية بالقومية، والقومية بالعِرق، والهوية بالأصل. فيما كانت حكومات العسكر، وسلطات الغلبة القهرية تُجْهِزُ على الدولة الوطنية الناشئة، وتستحوذ على مؤسساتها، وتختمها باسمها، حتى أصبحت الدولة دولتها أو دولة حزبها القائد. فالتبست الدولة بالسلطة، وأصبح كلُّ حديثٍ عن الدولة في الخيال الشعبي، وبحكم غياب التأصيل النظري لمفهوم الدولة الحديثة، وعمق تجذّر ثقافة الاستبداد ودولته السلطانية، يضمر الحديث عن السلطة القائمة، واستبدادها، وتسلُّط أجهزتها الأمنية، وفساد مؤسساتها، وعجزها عن القيام بمتطلَّبات التنمية.  وعندما تهاوت النظم التسلّطية أمام الانتفاضات الشبابية، وسقطت "مشروعيتها" الثورية أو القومية، وتراخت قبضتها الأمنية على المجتمع، وجد الناس أنفسهم جماعات إثنية ودينية ومذهبية بلا دولة وبلا هوية وطنية جامعة، وبات الكثيرون منهم اليوم بلا وطن.

 

اقرأ أيضاً:

 

 إعادة بناء الدولة الوطنية وآفاقها الممكنة

 

فهل ما زال الرهان يقع على الثورات الشبابية رغم كل عثراتها ومنغِّصاتها في إعادة بناء الدولة الوطنية بأفق الحداثة والانتماء للإنسانية، وتخليصها من أوهام الأيديولوجيا، وفخاخ الهوية، وإرساء عقدٍ اجتماعي يتجاوز البنى الاجتماعية الأولية إلى نسيج اجتماعي متماسك يمهد لبناء مواطنة حديثة، وانتماءٍ لوطن يختاره الإنسان موطناً، ويقوم على رابطة سياسية قانونية بين أفراد أحرار متساوين بالكرامة الإنسانية، ومواطنين متساوين بالحقوق والواجبات ذكوراً وإناثاً في دولة وطنية يشاركون في تدبير شؤونها العامة، وليس انتماءاً مفروضاً لوطنٍ يقوم على رابطة وأعراف مفروضة كرابطة المِلَّة أو القومية أو العرق أو اللغة أو الدين؟

 

لقد شكّلت ثورات الحرية والكرامة مفصلاً تاريخياً على الصعيد الاجتماعي والثقافي العميق في بنية مجتمعاتها، وليس على الصعيد السياسي الذي تمثّل بسقوط أنظمة سياسية عتيدة فحسب، وأسهمت انطلاقتها الأولى في إعادة الشرعية المنقوصة للدولة الوطنية بتخليصها من المتخيّلات الأيديولوجية في الثقافة السياسية السائدة، وتبدّى ذلك جليّاً في غياب الخطاب الأيديولوجي "فوق الوطني"، أو خفوت نبرته، واستعادة الإرادة الشعبية، فأصبح (الشعب يريد)، وإرادة الشعب هي الحرية والحياة الكريمة وتحقيق الانتقال الديمقراطي وبناء الدولة الوطنية، التي لم ينافسها آنذاك أي شعار آخر في الساحات التي تَميَّزَ شبابُها بحيويّةٍ فكرية مكَّنَتْهم من تخطّي أسوار الأيديولوجيات المغلقة، فيما بدا وكأنه صراع جيلي بين قوى مجتمعية شابة ناشئة وتشكيلاتٍ سياسية هرِمة.

 

وإذا كانت الثورة قد نجحت نسبياً في رسم الخطوة الأولى في بناء الدولة الوطنية الحديثة، وتحقيق المشاركة السياسية الديمقراطية، وصياغة دستور متقدِّم في تونس ومصر وبمشاركة التيارات الإسلامية، نظراً لخصوصية الدولتين والمجتمعين التونسي والمصري المتمثل في الاستقلال النسبي لمؤسسات الدولة، وخاصة المؤسسة العسكرية، عن السلطة الأمنية، وتوفُّر أرضية أولية لمجتمع مدني ومؤسسات مدنية من اتحادات ونقابات ومنظَّمات بقيت خارج هيمنة السلطة المطلقة. لكنها اصطدمت في الدول الأخرى كليبيا واليمن وسوريا بواقعٍ معاندٍ للتغيير بفعل ثقل إرث الاستبداد الطويل، وضمور الثقافة السياسية الديمقراطية في مجتمعات مهشّمة ومهمّشة، ومتعددة الطوائف والمذاهب والإثنيات من جهة، وهيمنة السلطة المستبِدَّة، وتغوّل أجهزتها الأمنية على كافّة مؤسسات الدولة والمجتمع وثرواتها، وخاصة المؤسسة العسكرية من جهة ثانية، وساحة سياسية فارغة إلا من أحزاب السلط وتنظيمات وحركات الإسلام السياسي، التي استثمرتها الأنظمة التوتاليتارية في مواجهة جميع القوى السياسية اليسارية من قبل دون الاعتراف الرسمي بها أو بشرعيتها السياسية من جهة ثالثة، وبالعامل الخارجي الإقليمي والدولي المتوجّس من التغيّر الدراماتيكي وسرعة امتداده في المنطقة والخوف من خروجه عن السيطرة بغضّ النظر عن مدى قبوله أو رفضه في المقلب الأخير.

 

هذه العوامل الكابحة كلّها، مع العنف العاري، استثمرتها السلطة ووظّفتها في مواجهة قوى التغيير، وحوَّلت الصراع السياسي معها إلى حرب وصراع وجود، فانزلق المجتمع نحو العنف، وعادت هويّات ما قبل الدولة (الطائفية والمذهبية والإثنية) إلى الظهور، ثم أصبحت مسيّسة ومسلّحة، وأصبحت الساحة مسرحاً للجيوش والمليشيات المتطرفة التابعة لها أو الدائرة في فلكها، فغابت لغة السياسة وحلّت لغة الحرب، وغابت الحرية وإرادة الشعب منطلق الثورة الأول وأساس كلِّ تعاقدٍ طوعي يؤسّس لبناء الدولة الوطنية الحديثة، وحلّت إرادة التغلب والإكراه وشروط التفاوض العابر المرهونة بموازين القوى القابلة للتغيير، والتي لا تنتج غير الحرب والاستبداد، وإعادة إنتاجهما بموازين جديدة في كلِّ مرة.

 

 وعادت دولة المتخيّل الأيديولوجي  القومي والديني أو القومي الديني تحت أسماء مختلفة (دولة الخلافة، الدولة الإسلامية، الدولة المدنية ذات المرجعية الإسلامية، الدولة القومية العربية، دولة الأمة العربية) للظهور بعد أن خفَتَ صوتُ خطابها في المرحلة السلمية من الثورة، وهذه الأيديولوجيات لا تصحو إلا في حالات التأزّم والحرب، لكونها أيديولوجيات حرب بالأصل ما دامت أحزابها وتنظيماتها لا ترى في الدين أو الدولة إلا ملكاً حصريأً لها، والوطنية مفصَّلة على قوامها. الأمر الذي يجعل مطلب الدولة الوطنية الحديثة بعيد التحقّق وشديد الإلحاح في آنٍ واحد، وقد يحوِّلُها بعضنا إلى متخيّلٍ أيديولوجي، ومثالٍ مكتمل لدولة مؤجَّلة، شأنها شأن "الدولة الدينية" في متخيّل الإسلام السياسي أو "الدولة القومية" في متخيّل الفكر القومي، ما لم يتم العمل على تأصيلها الفكري، وإعادتها إلى ساحة النقاش العمومي والسياسي، فمبحث الدولة اليوم بات يتخطّى مهمة الفكر السياسي إلى جميع فروع العلوم الإنسانية وعلم الاقتصاد وغيره، مما يوجب ضرورة مشاركة جميع التخصصات في انجاز مهمة هذا التأصيل.

 

لقد فتحت ثورات الحرية فصلاً جديداً في تاريخنا الحديث، وفرضت على الجميع إعادة النظر بالدولة الوطنية، وبمفهوم الدولة والديمقراطية والعلمانية ومنظومة الحقوق، وفتحت الفضاء العام للتداول العمومي حولها، ومكّنت وسائل التواصل الاجتماعي وثورة الاتصالات من توسيع هذا الفضاء أمام الجميع للمشاركة في تدبير شؤونهم ومصالحهم العامة بغضّ النظر عن انتماءاتهم أو الظروف المحيطة بهم، فإن متابعة توسيع هذا الفضاء، الذي يشكِّل مقدِّمة بناء الدولة الوطنية،  يمر اليوم عبر استعادة السياسة ووقف الحرب والاحتراب، فلا سياسة مع الحرب إلا متابعة الحرب بوسائلَ أخرى، في حين أن المرجوَّ هو استعادة السياسة ونفي الحرب، ونفي الحرب لا يتحقق إلا بنفيها من المدينة والسياسة والثقافة العامة ومن نفوس البشر وأخلاقهم ومعتقداتهم.

 

 وقد تلعب منظَّمات المجتمع المدني كلّما تمتعت باستقلالٍ كافٍ، وبمرونة الحركة والأفكار، دوراً مهماً في رتق النسيج الاجتماعي الممزَّق، وتعميم ثقافة السلام وثقافة الديمقراطية وحقوق الإنسان العامة وحقوق المرأة والطفل بشكل خاص، ورأب الفجوة التعليمية التي تخلِّفها آثار الحروب على الأجيال الجديدة، واستدراك النقص الحاصل فيها وتشتّت أهدافها بتعدد الأيديولوجيات المتحكِّمة فيها، وإعادة معنى الوطنية والانتماء، والمساهمة في التأسيس لعقدٍ اجتماعي جديد على أسس الحرية والمساواة، وإرساء قيم المواطنة الحديثة، والإعلاء من شأن الروابط المدنية، وتجاوز الروابط الطائفية والمذهبية والإثنية.

 

فالدولة الوطنية الحديثة الديمقراطية والعلمانية لا تتحقق بمجرد اكتمال مدوَّنتها الدستورية، حتى وإن حازت تلك المدوّنة كشرطٍ أساس على موافقة الشعب أو أغلبية الشعب فحسب، وإنما تتحقق بحركية وآلية عمل مؤسسات الدولة والمجتمع المدني التي تعطي لهذه المدوّنة روحاً ومعنى، وتجعلها قابلة للتطوير والتحديث مع كل مكتسب تحقِّقه هذه الحركية في مجال منظومة حقوق الإنسان. فتاريخ الدولة الحديثة في الغرب ليس تاريخ تطور الفلسفة والعلوم الإنسانية وعصر الأنوار وتطور الاقتصاد الرأسمالي فحسب، إنما هو درب الآلام الطويلة نحو الحرية أيضاً، وتاريخ الحروب الدينية والأهلية بين من أصبحوا مواطنيها اليوم، وتاريخ نفي تلك الحروب إلى خارج مدنهم، أي ــــ ويا للأسف ـــ إلى مدننا وأوطاننا.

 

فهل سنستمر في حرب الخاسرين ووقوداً لحروب الآخرين، أم ستفتح ثورات الحرية لدولنا ومجتمعاتنا المغلوبة تاريخاً جديداً؟

 

 

 

 

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
آخر المقالات
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard