مصير الأملاك والمال العام الذي يستحوذ عليه البعث بعد إلغاء المادة الثامنة من الدستور
بُني النظام السياسي في سوريا، منذ قرابة خمسة عقود 1963-2011 وفق ما يعرف بقيادة حزب "البعث" للدولة والمجتمع، وكُرّس ذلك عمليّاً في دستور عام 1973؛ إذ خُصّصت المادة الثامنة منه للبعث، ونصت على أنّ: "حزب البعث العربيّ الاشتراكيّ هو الحزبُ القائدُ في المجتمع والدولة".
المشهد الذي ساد على مدى هذه العقود، تجلى بتسييد "البعث" فوق الجميع، علمه مرافق لصور الرئيس الراحل حافظ الأسد، والرئيس الحالي بشار الأسد، على المنصات العامة كلِّها، وفي أروقة مؤسسات الدولة السورية وأجهزتها، وفي الساحات العامة، وحتى في الأماكن غير الحكومية، لدرجة يخال لوهلة، وخاصة بالنسبة لأجيال من السوريين، أنّ "عائلة الأسد" هي البعث، والبعث من دون هذه العائلة لا يساوي شيئاً، وهي الحقيقة التي لا يستطيع البعثيون أنفسهم تجاوزها، وإن تظاهروا بغير ذلك ..
استغفال السوريين
"الحزبُ القائدُ في المجتمع والدولة."، حوَّلت "البعث" إلى أداة للإمساك بمفاصل الدولة، وهياكلها ومؤسساتها. بعد تفجُّر الاحتجاجات عام 2011، وفي خضمّ التخبط، والارتباك الذي أصاب أجهزة النظام، أجرى الأخير بعد نحو عام، استفتاء، ألغى بموجبه المادة الثامنة من الدستور، واستعاض عنها بالنص الآتي: (يقوم النظام السياسي للدولة على مبدأ التعددية السياسية، وتتم ممارسة السلطة ديمقراطيّاً عبر الاقتراع. وتسهم الأحزاب السياسية المرخصة والتجمعات الانتخابية في الحياة السياسية الوطنية).
ونصّت الفقرة الخامسة من التعديلات على أنّه (لا يجوز تسخير الوظيفة العامة، أو المال العام لمصلحة سياسية أو حزبية أو انتخابية).
رغم إلغاء المادة الثامنة، وسحبها من الدستور عام 2012، بقي البعث على ما هو عليه، لا بل، وكأنّ البعث القديم أُحيِيَ ببعث جديد، والاستفتاء على الدستور جاء تحصيل حاصل، لتسخير الوظائف العامة، والمال العام والمنشآت العامة لمصلحته دون أي رقيب أو حسيب، حتى أنّ للبعث موازنات كبيرة من المال العام بشكل غير دستوري.
البعث صاحب استثمارات
"البعث"، وقبل الاستفتاء الصوري المزعوم، كان قد أعدَّ العدّة جيداً لهذا التحول، والتماشي مع متطلبات المرحلة الجديدة، فحوَّل الكثير من الأملاك والعقارات إلى واجهات ومطارح استثمارية، مثال (مبنى القيادة القومية بات جامعة الشام الخاصة لصاحبها البعث، والعديد من الطوابق في جريدة البعث مطاعم، وفروع مصارف).
كما وراح البعث يستحوذ على ما تبقى، سيما بعد أن بات لديه أيضاً كتائب مسلحة على الأرض، وجيشٌ من العاطلين عن العمل، والمفرَّغين لخدمة الحزب وقيادته.
(لا تتوفر أي إحصائية للعناصر المفرَّغة للعمل في مكاتب البعث، وتتقاضى رواتبها من الدولة مضافاً إليها ربع الراتب كتعويض عمل حزبي).
أمام هذا كلّه أين الدستور من هذه الممارسات؟ ومن يجرؤ من السوريين، أحزاباً وأفراداً، أن يطرح هذا التساؤل؟ وما هي نظرة القانونيين السوريين لهذا الموضوع؟
قائداً أم مقوداً..؟
المحامي والقانوني السوري متروك صيموعة يعتقد - بخلاف الانطباع السائد لدى الكثيرين- أنّ البعث لم يكن قائداً للدولة والمجتمع، سواء قبل أو بعد إلغاء المادة الثامنة.
"البعث واجهة، أو ديكور وحسب، العبرة لسلطة اتخاذ القرار، التي لم تكن بعثية قطعاً"، وبالتالي لم يتغير شيء بعد إلغاء المادة الثامنة، ذلك أن المآل الأخير من الحزب كما أريد له ولدوره، هو الحفاظ على هذه الكتلة الهائلة من البشر، وتدجينها خارج نطاق أية إرهاصات وتحولات، عبر ربطها بالمكاسب والامتيازات في فرص العمل، وشغل الوظائف، وغير ذلك من المزايا.
و يرى صيموعة: أن "البعث" حافظَ، خلافاً للقانون، على مكاسب هائلة، قبل وبعد التعديل الدستوري، لجهة شغل جميع الوظائف الحساسة، والتمويل والمقرّات المبنيّة خلافاً للقانون، وتلك المستولى عليها خلافاً للقانون أيضاً، وعمل على تفريخ هذه المكاسب كل حقبة من الزمن تحت عناوين شتى".
مقرّات باذخة للبعث، في كل المدن السورية تقريباً، مقرّات لا تقدِّم أية خدمة على الصعيد الحكومي أو الشعبي، في حين ظلت قصور العدل مثلاً، التي تقدِّم خدمات التقاضي، وفضّ المنازعات لعشرات آلاف السوريين يومياً، محاشر بائسة مخجلة، رغم أنّ العدلية هي السلطة العليا وفق الدستور والقانون.
أضاف صيموعة: لم يتوقف الأمر عند هذا الحدّ، بل وصل الأمر لدرجة تعطيل بعض القوانين محاباة لسلطة البعث الواجهية، ما يمكن القول إنّ "البعث" ليس سلطة، ولم يكن سلطة، وإنما حزباً للسلطة، وأحد أدواتها في إدامة المكوث خارج الدولة، وخارج التاريخ لآجال طويلة.
غطرسة وعودة انتهازية
بعد 2011 زاد البعث غطرسة، مع إنّ صفوفه تصدّعت، وعناصره الذين يفترض أنّهم علمانيون، باتوا في صفوف التنظيمات المتطرفة، وقسمٌ كبير منهم بات لاجئاً خارج البلاد، وعوضاً أن يعكف البعث على المراجعة، والمحاسبة، شارك عناصره في مسيرات مضادة لمظاهرات السوريين، قبل التحول لاحقاً إلى العمل المسلح عبر "كتائب البعث" كذراع عسكرية، فيما اكتفت قيادته الأمنية والسياسية بفتح الحقائب، وهي مطمئنة أنّها فوق أي محاسبة عبر شبكات تزاوج بين البعثي والأمني، وتعمل بالغطرسة نفسها حتى اللحظة الراهنة، فأيّ كارثة ماحقة تخيّم على مجتمع فيه هذه الكتلة البشرية مخصية ومستلبة؟!
قبل 18 آذار 2011 كان عدد أعضاء البعث أكثر من ثلاثة ملايين، انفجرت الأوضاع والتحقَ عدد كبيرل من البعثيين بالمعارضة السورية المسلحة، أو ما كان يسمى بـ (الجيش الحر)، كما التحقوا بصفوف داعش وجبهة النصرة، وفرّوا من الجيش تحت صفة (انشقاق)، وبذلك انخفض عديد البعث.
عام 2014 طلبت قيادة البعث القطرية من البعثيين تثبيت العضوية، ليصار إلى إحصاء الرقم الجديد للبعثيين، لكن من أقدم على ذلك لا يتعدى 200 الف عضو، ليصل العدد إلى ما يقارب أربعمئة وخمسين ألف عضواً.
وبعد تدخل روسيا عسكرياً، وتحسُّن الأوضاع على الأرض، وإخراج المسلَّحين من القرى والمدن السورية، باستثناء بعض المناطق، عاد البعثيون الذين اختفوا، ليطلّوا برؤوسهم ومدّ أيديهم إلى مقدّرات الدولة، والشعب لتحقيق أي مكسب يمكن أن يحصلوا عليه، وأصبحوا اكبر فئة انتهازية تمتلك ثروة مالية وعقارية، فيما انسحب كثير من الشرفاء الذين اعتبروا أنّ تشبثهم بما هم عليه سذاجة تستحق العقاب.
البعث نازي
اخترع "البعث"، منذ سبعينيات القرن الماضي، جبهة من الأحزاب الصغيرة التي تدور في فلكه، وأطلق عليها "جبهة وطنية تقدمية"، وخصَّص لها مبانٍ ورواتب، ومقاعد في مجلس الشعب ووزراء، وقد ارتضت هذه الأحزاب الضعيفة أصلاً، بما منحها البعث، وتالياً لم تقوَ على انتقاده.
"اختراع الجبهة"، بات "حجة" البعث في تسويق تجربته بالمشاركة السياسية، علماً أنّه من غير المسموح لهذه الأحزاب النشاط والعمل بحرية، فيما بقيت الأحزاب الأخرى، التي رفضت أن تكون مطيّة، تعمل في السرّ، وتتعرّض للمضايقات والملاحقة.
حُكْم البعث كان منذ بدايته حكم قلّة، والطغيان هو الشكل الطبيعي لحكم القلّة، وقد أظهر البعثيون في وقت مبكر عزماً قوياً على ممارسة عنفٍ بالغ القسوة ضد خصومهم.
قيادي سابق في الحزب السوري القومي الاجتماعي خشي ذكر اسمه قال: "البعث لا يختلف كثيراً عن الحزب الألماني النازي، وبالمقارنة بين التنظيمين في التسمية، والأفعال نجدها متطابقة، كما لا يختلف البعث عن الفاشية (العصبة)".
أضاف: البعث يدعو إلى القومية العربية العرقية، ولا يعترف بغير العرق العربي، ويعمل على إذلال باقي الأصول الإثنية لأبناء الشعب السوري، وهذا ما نجده عند النازية، وتفوُّق العرق الآري.
البعث يعتبر نفسه حزب العمال، ويعتمد الصراع الطبقي. والحزب النازي هو أيضاً حزب العمال. البعث اشتراكي، والنازي اشتراكي أيضاً، ومعظم من أسّسوا البعث كانوا أعضاء في عصبة العمل القومي في سوريا.
دستور البعث ينصّ على أنّه "حركة انقلابية ديمقراطية"، ولا نعرف- حسب القومي السوري نفسه - كيف يتم الانسجام بين الانقلابية والديمقراطية، إلا إذا كان ذلك صفّ كلام وانتهازية غايتها استلام السلطة بأي ثمن، لذلك ركَّزَ على السيطرة على الجيش والأمن.
هكذا سلب البعث السلطة في سوريا بحركةٍ عسكرية انقلابية لا تمتُّ إلى مفهوم الثورة بشيء، وبدأ بتصفية الجيش من الضبّاط غير البعثيين، وإبعاد جميع السياسيين عن الحكم، وكمّ أفواه السياسيين وإيداعهم في السجون والمعتقلات، ولم يَسلَم أي حزب سياسي من أذى البعث وسجونه.
ومع سيطرة أجهزة المخابرات على مقدّرات الوطن، أسقط وأفرغ مفهوم الجبهة الوطنية من محتواه، وسقط الحزب الشيوعي، والناصريون في خندق الانتهازية وتصدّعوا. وكذلك اعتمدت المخابرات على إيصال عملائها، ومخبريها إلى مقاعد الإدارة المحلية، ومجلس الشعب، كما اعتمدت المخابرات على الطائفية والعشائرية في انتخابات المجالس، وعلى الانتهازيين في الأحزاب الأخرى التي سقط عنها مفهوم الوطنية والنزاهة.
وختم "القومي السوري" بالتأكيد: "البعثيون أفسدوا حياة الشعب السوري وأسقطوا القيم الأخلاقية كلَّها، ولا خلاص للشعب السوري إلا بزوال البعث، أو تحجيمه ولجمه".
الحجار: لم يتغير شيءٌ
البعث وطيلة عقود لم ينجب مفكِّراً واحداً، فهل يعقل لحزب يزعم قيادة "الدولة والمجتمع" أن يخصي، ويغيِّب حتى عقول أعضائه؟! أم أنَّ هؤلاء ارتضوا هذا لأسباب نفعية شخصية؟ وهنا المشكلة، سؤال إذا تلمّسنا جوابه بطل العجب للحال التي باتت عليه سوريا اليوم..؟
يقول بيان حجار (عضو لجنة مركزية في حزب الاتحاد الاشتراكي العربي الديمقراطي): إنّ مكانة أي حزبٍ في المجتمع تقاس بمدى مساهمته في خدمة هذا المجتمع، وترقيته من خلال نشاط كوادره الطوعي في المجالات السياسية والاجتماعية والثقافية.
"هذا المجال يجب أن يبقى متاحاً لكلّ الفعاليات والتنظيمات الوطنية التي لا يتعارض برنامجها السياسي مع المصلحة العليا للوطن".
وحسب الحجار فإنّ ما ساد في العقود الماضية، وبسبب المادة الثامنة من الدستور، هو استفراد البعث بذلك، وإقصاء الآخرين أو إعطائهم دوراً هامشياً، وبعد إلغاء هذه المادة لم يتغيّر شيء، وبقيت صيغة التفرغ لشغل وظائف سياسية حزبية، وأبنية ومركبات ورواتب مستمرة .
اللافت للنظر يقول الحجار: "إنّ هذه الإمكانات الممنوحة للبعث كلّها لم تغيّر شيئاً على الصعيد الاجتماعي، ومعالجة المشاكل التي ولَّدتها الأحداث". فليس للبعث أي دور عملي، وبقي تواجده في المناسبات كديكور لحشد التأييد.
ويختم الحجار بقوله: "سوريا بحاجة لكلّ القوى السياسية الوطنية، والاجتماعية، والثقافية، والعلمية في مناخ تسوده العدالة والمساواة، بغية إعادة الشعور والانتماء الوطني بعد أن طاله التشويه، والتصدي للمشاريع التي تكرِّس التخلف، وتسوِّق الأفكار، والتهويمات، والأحقاد، وتستحضرها من التاريخ، والانتقال إلى دولة وطنية ديمقراطية لكل مواطنيها".
مسعد :" قائد للدولة والمجتمع "
من المفترض، وفقاً للتعديلات الدستورية، أن يمتنع البعث عن عقد اجتماعاته في وزارات ومؤسسات الدولة، وأن يسلّم المكاتب، والغرف التي يشغلها في مؤسسات الدولة كافَّة إلى تلك المؤسسات، وأن يعيد المباني التي اغتصبها كافّة إلى أصحابها، وأن يمتنع عن أيّ نشاط سياسي في الجيش والأمن، لكن على أرض الواقع لم يتغير شيءٌ.
وحسب الدكتور اليان مسعد، مؤسس حزب المؤتمر الوطني من أجل سوريا علمانية عام 2012: "البعث يسخِّر إمكانات أجهزة الدولة لخدمته، ولا تزال مقرّاته ملك لها وتنفق عليها". مشيراً في هذا الصدد الى أنّه طرح منذ 2012 سلسلة تعديلات لكي تكون سوريا دائرة انتخابية واحدة، وبالقائمة النسبية بشكل يتيح عملاً سياسيّاً أكثر تمثيلاً وتنوعاً.
أضاف مسعد: "أظهرت انتخابات مجلس الشعب الأخيرة، تكريس البعث قائداً للدولة والمجتمع، رغم إلغاء المادة الثامنة من الدستور، حيث فاز ب 166 مقعداً، هم كتلة البعث، من أصل 250 نائباً، بنسبةٍ تجاوزت 66%، بينما بلغت نسبة أحزاب الجبهة الوطنية نحو 7%، فيما بلغت مقاعد المستقلين نحو 27%، وكلهم حلفاء البعث وتحت عباءته، ما يعني أنّ نسبة تمثيل البعث الحاكم في مجلس الشعب زادت بشكل مطّرد على مدار الأدوار التشريعية السابقة.
مسعد اعتبر أنّ إلغاء المادة الثامنة من الدستور كان إلغاءً صوْرياً لا أكثر، بل على العكس تماماً ، فإن البعث كرّس ممارساته بقوة، فله 83.3% من وزراء الحكومة، وبالتالي ما زال يفرض نفسه كقائد للدولة، والمجتمع عملياً، والسبب هو فوزه بالانتخابات بقوائم معلبة على مستوى المحافظات التي من المستحيل منافستها.
والحال بعد هذا كلّه، أنّ شيئاً وفق التعديلات الدستورية لم يتغير، وظلّ البعث في صدارة المشهد في مفاصل الحياة السورية كلّها، كما لا يزال البعث يمتلك بنية تحتية من أملاك الدولة، إلى جانب السيطرة على النقابات والمنظَّمات، التي يفترض أن تكون غير مسيّسة، (فلاحون، عمال، شبيبة، طلبة...)، وكلها أقنية يحاول من خلالها البعث التموضع من جديد، والتدجين، ما يعني أن سوريا ما زالت محكومةً بالمادة الثامنة.