ريمون بطرس رائد السينما بأطيافها البصريّة
هو السابح ضدّ تيّار الواقع، المُتعمَّد بماء العاصي طهراً وتوقاً لحلم متجسّد في حناياه وعلى الأرض بلغة البصر والحجر، صفصافه ضفاف لعمر متّكئ على حلمه الذي لم يتوانى أمام الصعاب ولم يرتعد لقسوة ومرارة العيش بل إبداعاً به وبالعالم نهض، ليصنع حياة لجيل ولمدينة العُمر (حماه)، لشهقة نواعيرها وله، لنبض ترانيم تدفّق نهرها ولفيء سهلها وصلوات أهلها، ليرسم بأزميله فوق متّسع هضابها وليخلق من حجارتها البكماء أقاصيص شعر تروي الذكريات والحاضر والماضي، وتقصّ أساطير العمر.
هو الذي حفر بأزميله الخاص حجارة الواقع وعكَسها صورة متكاملة الأجناس والأبعاد والألوان والإيحاءات، لتكون أيقونة صامدة في تاريخ الفنّ السابع وفوق جدران ذكرياتنا، تتكلّم عن نفسها للعالم، وذلك عبر نقلِه ما يُقارب أربعاً وعشرين فيلماً يُضاف كرصيد باهر للسينما السوريّة والسينما العالميّة، متجاوزاً كلّ الصعوبات الحياتيّة والمعيشيّة لتحقيق حُلُمه وهدفه الأسمى، متناغماً مع الشعر والفنّ بجماليته متشرباً موسيقاه من ماء نهر العاصي وأوزانها، مُستشهداً بكبار الشعراء والأدباء، متهادياً بين تقاسيم الذكرى تحدّياً، ونقطة انطلاقة لعصر جديد بعهد جديد بكل مقاييسه نحو عصر اسمه الحياة فقط.
هو المخرج السوريّ الكبير ريمون بطرس
السيرة الذاتيّة
وُلد المخرج السوري الراحل ريمون بطرس في مدينة حماة في ربوع نهر العاصي الذي نشأ به، ومنه، والذي أحبه طوال فترة حياته، حيث تعمّد بمائه، وربط اسمه به منشأً وذكرى وحياة، فالدرب من بيته إليه لم يتراوح رمية حجر.
حيث عبر من خلال ضفافه الرحلة التي خاضها سويّاً هو، والعاصي حتى صارا رفيقان وواحداً لا يفرقهما أحد، حتّى الموت.
حاصل على ماجستير في الإخراج السينمائي، الاتحاد السوفييتي- أوكرانيا، كييف 1976.
كان بُطرس مولعاً بالفنون، عزف الكمان، عشق فنّ النحت على الحجر، تعلّم على يدي والده الفنّان أنطانيوس الذي اشتهر بتزيين جدران المساجد والكنائس، وتنتشر أعماله في العديد من مساجد وكنائس مدينة حماة ومدن أخرى سوريّة.
كان عام 1970 سنة تحوّل في حياة ريمون بطرس حيث سافر في بعثة طلابيّة إلى مدينة كييف الأوكرانيّة لدراسة الإخراج السينمائي.
وأخرج أوّل أفلامه التسجيليّة في 1974 "صهيونيّة عادية" مدّته عشر دقائق، حاول من خلاله الكشف عن الحركة الصهيونيّة في العالم، وبعده جاء فيلم التخرّج "نشيد البقاء" عن نهر العاصي.
عمل ريمون في الصحافة والنقد السينمائي والترجمة من الروسيّة إلى العربيّة. وظهر شغفه بالسينما مُبكراً، وترجم نحو مئة وخمسين ساعة سينمائيّة لصالح التلفزيون السوري بين أفلام روائيّة وأخرى للأطفال إضافة لبعض المسلسلات، كما ترجم عشرات الدراسات والمقالات بمختلف المجالات. وعمل محرّراً للأخبار في الإذاعة السوريّة، القسم الروسي.
من حديث الحجَر إلى حديث العالميّة
يُعدّ المخرج السوري ريمون بطرس الرائد في الصناعة الاحترافيّة البصريّة والإخراجيّة حيث اكتسب هذه المهارات بالفطرة من عمله بالحجَر، عمل نحّاتاً على الحجارة لفترة تتجاوز الخمس سنوات، وبعد دراسته للإخراج صَنَعَ أيقونات نحتيّة بصريّة متكاملة مرتبطاً بجذور انتماءه ناقلاً ومقتبساً ثقافته من ثقافة حجارة بلده سوريا، واعترف علناً بأبديّة التاريخ وسرمديّة هذا البلد، فحسب قوله (سوريا أزليّة سرمديّة خالدة وفي دمشق نحن والأبديّة سكّان هذا البلد، نحن السوريين).
كما استعان بالأدب والقراءة، فقد اطلع على كافّة الفنون الأدبيّة وتأثّر بأدباء وكتّاب وشعراء عالميّين (بوشكين، تولتسوي في الحرب والسلم ومحمود درويش والشيخ والبحر وغيرهم الكثير).
بعد عودته إلى سوريا توقّفت طموحاته السينمائيّة لبعض الوقت، فاضطر للعمل مجدّداً في النحت لمدّة ثلاث سنوات، لكنّ حلمه الإخراجيّ بقي مستمراً بداخله، وظلّ مصمماً على إنجاز الأفلام إلى أن تحقّقت رغبته، وبادر بصناعة عدد ليس بقليل من الأفلام منها حوالي أربعة أفلام عن نهر العاصي ومدينة حماه نذكر منها:
فيلمين روائيّين طويلين هما الطحالب والترحال، وفيلمين تسجيليّين هما الشاهد، ونشيد البقاء واللذان يرويان حكايا العاصي والناس والتفاصيل التي تربطه بالمكان وبالحياة هناك.
يُعدّ الطحالب أوّل فيلم روائي طويل أخرجه بطرس، وفيه أظهر مدى ارتباطه بجذوره وتأثّره بحماة والنواعير وباب النهر والعاصي.
هناك أيضاً حوالي ثلاثة عشر فيلماً تسجيليّاً منها صهيونيّة عادية.. الشاهد.. همسات.. أحاديث الحجر.. ترانيم.. نشيد البقاء وملامح دمشقيّة وغيرها.
وسنستعرض بعضاً من أفلامه الهامّة التي حصدت الكثير من الجوائز الدوليّة في المهرجانات العالميّة والعربيّة والمحليّة.
فيلم ملامح دمشقيّة
يحكي فيلم "ملامح دمشقيّة" قصة مدينة الأزل دمشق منذ ثمانية آلاف سنة، عندما كانت هذه المدينة عبارة عن بحيرة مروراً بقصّة جبل قاسيون بصفته القدسيّة والأساطير التي ذكرت اسمها، كما يتناول ملامح دمشق عبر الحضارات الآراميّة والأشوريّة السريانيّة والرومانيّة وصولاً إلى المسيحيّة، وينتقل بعدها إلى الفتوحات الإسلاميّة مُشيراً إلى الإبداع العُمرانيّ لدمشق وما اشتهرت به من علوم وفنون، ويركّز ملامح دمشقيّة على الشخصيّات الإنسانيّة والتاريخيّة، في كل من تلك المراحل كالإلهة عشتار والمعماري أبولودور الدمشقي وبولس الرسول، والنبي يحيى وغيرهم ليختّتم الفيلم بمقتطفات شعريّة لكل من نزار قباني والجواهري ومحمود درويش.
حسيبة
أمّا فيلمه "حسيبة" فهو رسالة تمجيد وتحيّة للمرأة السوريّة في دمشق حيث يُعتبر الفيلم عبارة عن مرآة عاكسة لفسيفساء الحياة الدمشقيّة ونبض الحياة فيها، ويُؤكّد ريمون بطرس بأنّ الفيلم رسالة حبّ إلى نساء دمشق وأهل الشام وحجارتها وعمارتها وتاريخها من خلال اختزال أكثر من (5000) سنة من الحضارات المتعاقبة.
يرصد الفيلم تحوّلات عدد من النساء الدمشقيّات خلال الفترة الواقعة ما بين 1927 وحتّى العام 1950 من خلال التّحولات السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة التي شهدتها المنطقة في الفترة ذاتها، إلّا أنّ الفيلم يحتفي بالمكان بوصّفه البطل الأول ومن خلاله سيسرد المُخرج أحداث شخصيّاته التي جسّدها كل من: سلاف فواخرجي، والراحل طلحت حمدي، سليم صبري، مانيا نبواني، صالح الحايك وسواهم.
يقول ريمون بطرس: تُمثّل حسيبة بطلة الفيلم حالة الإحباط والنجاح ثمّ الانكسار الذي عانت منه البلاد في تلك الحقبة وما بعدها، مُؤكدّاً أنّ الفيلم كان شاقّاً وصعباً، وأنّه قام ببناء أحياء كاملة ليستطيع خلق بيئة مطابقة لبيئة دمشق في تلك الفترة.
الترحال.. صرخة الوطن وتوثيق لتاريخه اجتماعيّاً
وفي فيلمه "الترحال" يستدعي ريمون بطرس فترة ما بعد استقلال سوريا ليُؤرّخ بصريّاً للحالة الاجتماعيّة إبّان نكبة فلسطين، كما يُؤرّخ أيضاً لأحداث سوريا في تلك الفترة.
تدور أحداث فيلم "الترحال" بين عامي 1948-1954 في مدينة حماة السوريّة، وانطلاقاً من هنا يتناول الفيلم جزءاً من تاريخ سوريا الحديث: فترة ما بعد الاستقلال، كما يتطرّق إلى مسألة الصراع العربي الإسرائيلي من جانب بطل الفيلم الذي يُناضل مع مجاهدي فلسطين، مع محاولة ريمون بطرس التأكيد على هويّة حماة من خلال عنصرين مهمين في حياة المدينة، الأول الماء ونهر العاصي العظيم والثاني مادة الحجر التي تُميّز بناء المدينة. كما يُركّز على تصوير أجواء التضامن والمساعدات التي قدّمها بسطاء الناس في حماة للاجئين الفلسطينيّين، حيث يتضمّن الفيلم مشاهد مصوّرة ببراعة مؤثّرة لأحوال المخيّم الفلسطيني الذي أُقيم على عجل لاستقبال اللاجئين، ومن أهمّها المشهد الليلي الذي يصوّر عاصفة عاتية صحبتها أمطار غزيرة أطاحت بالخيام وتركت ساكنيها تحت العراء، قبل أن يستضيف بعضهم من استطاع من أهالي المدينة الذين هبّوا للمساعدة. كما يتضمّن الفيلم لوحات بصريّة مُتخيّلة تستعيد عذابات السيّد المسيح وصلبه كرمز لعذابات الناس المعاصرين.
بطل الفيلم طفل صغير يعيش مع عائلته ويظلّ يفتقد والده، كثير الترحال كثير الغياب عن المنزل، والذي يعمل عندما يكون متواجداً في نحت الحجر الخاصّ ببناء المنازل. وهو على شهرة كبيرة إذ أنّه يتعامل مع الحجر بروح فنّان فيُبدع في نحته وتزيينه. غير أنّ هذا كلّه لا يشفع له أمام السلطات الانقلابيّة فتتمّ مُلاحقته مراراً ووضعه في السجن، خاصّة وأنّه كان من المجاهدين الذين قاتلوا في فلسطين بعد أن ذهب إليها بداية بحثاً عن العمل، واستمر بعد عودته في النشاط السياسي، مما يضطره في نهاية الأمر إلى الهرب واللجوء إلى لبنان.
في الجانب الاجتماعي يروي الفيلم حكايات مجموعة إنسانيّة تعمل في نحت حجر البناء، لكنّها تنطوي على ثقافة إيديولوجيّة حياتيّة كاملة مرتبطة بعلاقتهم بالحجر مهنتهم، التي تعكس في شكلها الخارجي طبيعة حياتهم وتفكيرهم وإلى أيّ حدّ هم معقّدون أو بسطاء، ونظرتهم نحو الحياة. ولم يُغفل المخرج بيان حساسيّتهم السياسيّة تجاه الوضع الراهن آنذاك، وقدّمهم بمعظمهم على أنّهم تقدميّون من دعاة العدالة الاجتماعيّة، ليعود في الوقت ذاته ويُظهر تناقضهم الكبير مع أيديولوجيّتهم من خلال تعاملهم مع الطبقة البرجوازيّة. إذن أفسح الفيلمُ المجالَ أمام المشاهدين ليكتشفوا مساحات من تاريخهم السياسي الشعبي الذي هو جزء من تاريخ الوطن وجزء أيضاً من الحاضر.
الطحالب.. صراعات اجتماعية صارخة
ونتوقّف في فيلم "الطحالب" عند لوحة بانوراميّة للحياة في مدينة حماة، ومن خلال هذه اللوحة يُصوّر الفيلم عائلة مُؤلّفة من ثلاثة أشقّاء وشقيقتين، تدور فيما بينهم صراعات عائليّة حول قطعة أرض موروثة. ويرصد الفيلم ما يمكن أن يفعله المال والصراع على المصالح بمصير أشخاص تربطهم رابطة الدم. وإذ يتابع الفيلم حكاية هذه الصراعات وخاتمتها المفجعة، يكشف لنا في الوقت نفسه عمّا أصاب الحياة الاجتماعيّة من شرور.
يعرضُ "الطحالب" حكاية أبو أسعد كاتب المحكمة الذي يحاول أن يتابع مجرى حياته دون أن يتورّط بما يشاهد بحكم عمله من حوادث مدينة تعيش سلسلة جرائم متلاحقة، تعصف بأبي أسعد وأسرته خلافات أشبه بتلك التي يراها في المحكمة. يسكت عن حقّه حتّى لا تشتدّ الخلافات، لكنّ شقيقه مُختار يعميه المال ويطالب باقتسام ميراث الوالد، وتشتدّ الصراعات التي يحاول أبو أسعد إرجاءها، يقتتل شقيقاه ويضطر أبو أسعد إلى الرحيل عن المدينة وتصيبه نوبة قلبيّة ويتذكّر عزيزة التي كم حلم بالزواج منها.
أطويل طريقنا أم يطول
في فيلمه الروائي القصير "أطويل طريقنا أم يطول" الذي أخرجه وكتب السيناريو له وأنتجته المؤسسّة العامة للسينما، يرصد ريمون بطرس على مدى أربعين دقيقة حياة السوريين، كما يروي قصّة اجتماعيّة رومانسيّة تجري أحداثها في دمشق في ظلّ الأزمة التي تمرّ بها البلاد، حتى ليبدو الحبّ هو الدافع الدراميّ الذي ارتكز عليه الفيلم، وكما يرصد ما آلت إليه الظروف بعد الأزمة التي عصفت بالعديد من العائلات السوريّة، وما ترتّب على تلك المرحلة بكلّ تجليّاتها ومفرزاتها، حيث يحمل الفيلم رسالة عن الغربة والحنين للوطن من خلال قصّة الشاب فادي التي قام بتجسيدها الممثل الشاب عمر بطرس، وأخته هنادي التي تؤدي شخصيّتها الممثّلة هيا مرعشلي، العائدان إلى دمشق بعد فترة من الغربة نتيجة للأزمة التي تمر بها بلادهم وفي طريق عودتهما إلى منزلهما تستوقف هنادي أخاها فادي وتنزل من السيّارة لتركع وتقبّل تراب الشام الذي اشتاقت إليه.
ويؤكّد المخرج ريمون بطرس أنّ هذا الفيلم المأخوذ عنوانه من شطر بيت شعر للمتنبي، لا ينطلق من مفهوم ديني أو عقائدي وإنّما من مفهوم وطني تحت شعار "تحيا سوريا"، وعلى الرغم من بساطة هذه الحكاية إلّا أنّها في تأثيرها وخلودها في ذهن المُتلقّي تذهب إلى دلالات بعيدة تتصاعد تارة ويخفّ تواترها تارة أخرى، لا سيما حين نرى انعكاسات الواقع السوري اليوم من قتل وخطف وتدمير وتخريب، فضلاً عن المشكلات والاختلافات التي باتت هاجساً يؤرّقنا ويكوي جراحاتنا المتخمة بصُور الموت المتنقّل في غير مكان من الجغرافيا السوريّة.
إن حالة الاشتياق الممزوجة بالرهبة والخوف والحنين إلى دمشق بكلّ تفاصيلها هي همّ كلّ واحد منّا وليس همّ فادي أو هنادي التي تركع على ترابها داعيّة الله أن يحفظ سوريا من كلّ أذى ويعيد الأمان إلى ربوعها، كما أنّ مشاهد الأب والأم وهما يتابعان نشرات الأخبار تُشبه إلى حدّ كبير كلّ بيت سوري اليوم، أمّا الصورة الأبهى في الفيلم فهي مشهد هنادي التي تحلم فيه بأن تتعمّد بمياه بحرة ساحة الأموييّن التي تعرّضت للاستهداف وقذائف الغدر عدّة مرات، هذا الحلم الذي يشاركها فيه فادي وهو يعزف على الكمان ويحلم بانتهاء الحرب وعودة سوريا إلى ما كانت عليه.
ولعلّ الذروة في الفيلم تتجلّى في مشهد الوالدين بالدعوة إلى التمسّك بالوطن وإصرار الأب على عودة ابنيه اللذين قرّرا اللجوء إلى بيروت بعد حادثة اختطاف صديقتهما أُميمة من منطقة باب شرقي، فنراهما عند آخر حاجز سوري قبل الدخول للأراضي اللبنانيّة، تأكيداً على حالة وعي المجتمع السوري أنّ الوطن ليس فندقاً نغادره عند أيّ مشكلة أو ظرف أو هزّة يتعرض لها.
رأي بعض النقّاد في أعمال وسينما ريمون بطرس
يقول النقّاد: إنّ أعماله حملت سمات ميّزتها عن غيرها، فهي لم تكن مجرّد وعاء يجمع أحداثاً اجتمعت في مكان وزمان واحد، إنّما هي حصيلة فكر يحمل نظرة خاصّة للثقافة والفن والموسيقا والحياة بشكل عام، لينتج عنها هارموني منسجم بالكلمة والشكل والصوت.
وكذلك يضيف آخر أن وراء أفلامه تكمن ثقافة سينمائيّة مرتبطة بالمجتمع بشكل يتيح للفيلم السينمائي أن يكون غنيّاً بمضمونه كمادة ثقافيّة وفنيّة قابلة للحياة، وليست مجرّد مادة استهلاكيّة ينتهي تأثيرها بعد مدّة محدّدة.