مسرحية انحلال.. الضجيج ودلالاته
لماذا نتعصّب لفكرة ما؟ ما الحيز الذي نذهب إليه بأذهاننا حتّى نصبح عاجزين عن سماع صوت آخر غير صوتنا؟ هل سيكون لدينا يوماً ما متَّسعاً من الوقت لنتكلّم جميعاً، ونسمع بعضنا البعض قبل أن نبدأ بإلقاء اللوم؟ هل من المحتمل أن نصل ليوم يرمي كلّ واحد فينا ما يعتقده جانباً، وينسى مرجعيّاته وأفكاره جميعاً ويستمع لغيره دون إطلاق أحكام؟
هل بإمكاننا أن نُنصت؟؟
هل نحن قادرون أن نترجم أفكارنا ومشاعرنا في عبارات وألفاظ مفهومة، وهل ما نعطيه إيماننا المطلق مفهوم بالنسبة لنا، وإيماننا فيه نابع عن معرفة حقيقيّة؟
لعنة هو الاعتقاد بأنّنا نمتلك الصواب المطلق، والحقيقة النقيّة، أن ننظر إلى بعضنا باستهزاء دون أن ندرك دلالات الكلمات ومعانيها بحق، اللغة تلك الأداة التي وُجدت لتجمعنا، باتت سبب انقساماتنا.
مجموعة من التساؤلات تطرحها مسرحيّة "انحلال" فيما يقارب الساعتين من الحوارات على لسان شخصيّات تختلف مرجعيّاتها الاجتماعيّة والإيديولوجيّة، والانحلال هنا لا يأتي ضمن معناه الأخلاقي فقط، وإنّما يأخذ بعداً آخر، دلالته تكمن بعدم الفهم، وتفكّك العلاقات الاجتماعيّة، والصراع بين رؤى متقاربة، ولكنَّ ذلك التقارب غير مرئي بالنسبة لحامليها.
تسع شخصيّات تعيش في بناء متهالك آيل للسقوط، تمتلك كلّ واحدة من هذه الشخصيات تعصّباً معيّناً (اللانتماء -الدين- المرأة- التواصل-السلطة-التسلق-وغيرها) إلّا أنّ ما يجمعهم خوف واحد وهو إمكانيّة سقوط البناء الذي يسكنونه في أيّة لحظة.
تطرح المسرحيّة السلوك اللغوي "اللفظي" بشكل أساسي من خلال رصد أساليب التخاطب التي يستخدمونها فيما بينهم، والنابعة من منطق هذه الشخصيّات، تضعنا المسرحيّة أمام عمليّة بحث عن أجوبة، هل نحن قادرون على إيجاد تواصل لفظي سليم فيما بيننا؟ أم أنّ ما ينطق به كلّ شخص هو مجموعة من الرموز غير المفهومة بالنسبة للآخرين، ولذلك نحن عاجزون عن الوصول لنتيجة في حواراتنا، ما مصدر سوء الفهم هذا، هل هو بسبب تعقيد الروابط الاجتماعيّة، وما خلّفته الحرب في نفوسنا، أم أنّه ميّزة فرديّة يختصّ بها كلّ إنسان تحكمها بيئته وظروفه الاجتماعيّة؟
لا يمكن لمعرفة حقيقيّة أن تجعلنا متعصبين، الفهم الكامل لأيّة قضيّة نؤمن بها يؤدّي بالضرورة إلى فهم الآخرين واحترام معتقداتهم، وكلّ ما عدا ذلك هو تعصّب مبني على وهم المعرفة، لآراء سطحيّة نعجز عن الغوص في أصولها المفاهيميّة بشكل سليم، و إذا ما أردنا بحق أن نصل لمكان ننشده جميعاً علينا أن نستشفّ أماكن التعارض فيما بيننا، ونعثر على الفهم."
الصراع بين الشخصيّات لا تسبّبه سلطة أو رغبة بالتفوق والامتلاك، وإنّما هو صراع على حاجات الحياة الأساسيّة، تلك البديهيّات التي ينبغي أن تكون حقّاً من حقوق كلّ فرد فينا، فيما تمثل شخصيّة "أبو فايز" ناطور البناء، الغائب عن الخشبة والحاضر بأفعاله، المحرِّك الخفي الذي يتحكّم بمصائر الشخصيّات وتفاصيل حياتهم اليوميّة.
"انحلال" مسرحيّة تخرّج بها طلّاب مدرسة الفنّ المسرحي- الدفعة الخامسة في دمشق- وهم (دانا التلاوي – رامي الأحمد – آرجوان دلبرين- أسيمة عبود- رامز مكي-شيار تركو-مهند البديوي -مي حاطوم -أحمد البزم) ، بإشراف الدكتور سمير عثمان الباش وياسر سلمون أستاذاً مساعداً، وهي عبارة عن ارتجال جماعي يستمر لما يقارب الساعتين.
تقوم فكرة المسرحيّة على انعدام التواصل بين الشخصيات، وخصوصاً في اللحظات الحرجة والكارثيّة، حيث تظهر الأنانيّة، وحب الذات الخاصّة بكل فرد لتضرب عرض الحائط الحلول المشتركة وإمكانيّة التفاهم. يتميّز العرض ببناء متماسك للشخصيّات من حيث البنية النفسيّة والمنطق الخاص بكل منها، تنتقل المشاهد بخفّة من بيت إلى آخر داخل البناء لتلتقط بعض المشاهد من حياة الشخصيّات وسلوكيّاتهم.
يبدأ العرض في غرفة (سالي - دانا التلاوي) التي تحاول الانتحار بعدما فقدت المعنى من وجودها، وينتهي باجتماع جميع سكان البناء في بيت (صبحي -رامز المكي) في الوقت الذي يهدف صبحي من اجتماعه طرد سالي من البناء لشكوكه حول أخلاقها، يأتي الجميع إلى بيته كلٌّ يحمل سبباً مختلفاً لمشاركته في هذا الاجتماع، الذي يُبنى قبل البدء به على سوء فهم عميق، بين مشهد البداية والنهاية ينتقل العرض من بيت لآخر، فنرى شيخ الدين والشاب الملحد (أحمد البزم -شيار تركو) يتناقشون بحدّة على شرفة عمر، يليه مشهد لصبحي وابن خالته وليد (رامز المكي -آرجوان دلبرين)، ومن ثمّ منتصر الخارج من السجن حديثاً وعهد الرافضة لأنوثتها(مهند بديوي -مي حاطوم)، ومشهد يجمع فاضل بآسيا في المصعد (رامي الاحمد -أسيمة عبود)، مشاهد منفصلة يصل بينها خيط خفي يتضح في مشهد النهاية.
النجاة لا يمكن أن تكون فرديّة-النجاة إمّا أن تكون جماعيّة أو لا تكون"
تأتي هذه الكلمات على لسان إحدى الشخصيات "فاضل" التي يجسّدها ( رامي الأحمد )، وهو الشاب المثقّف المختص بالتواصل واللغة، والذي يصرخ بجملته هذه لحظة بلوغِهِ مرحلة اليأس من الوصول إلى حلول، وإقامة اجتماع حقيقي، فمبنظوره لا يمكن لأي فرد فينا أن ينجو وحيداً، الخراب يلحق الجميع معاً فكلّ شخصية تحمل خرابها في داخلها، ولها يد في الخراب العام الذي نعانيه جميعاً -اختلاف معتقداتنا لا يعني أنّنا أعداء بل هو دليل على التنوع، وإذا رافق هذا التنوع فهم لفكر الآخر واحترام له سينتج بالضرورة تشكيلة اجتماعيّة أكثر ترابطاً وإنتاجاً، أمّا العكس لن ينتج عنه سوى جماعات متصارعة- لحظة الصمت التي تلت صراخ فاضل تشعرنا بأنّ الحلول باتت قريبة، الصمت الذي يبدو كلّ شخص فيه يؤنّب نفسه لم يكن صمتاً للتفكير، والفهم بل خوفاً من النزعة السلطويّة التي ظهرت فجأة لدى فاضل ليقود الاجتماع مُكرِهاً الجميع على الاستماع له، والذي لا يستمر طويلاً ليتحول بعدها إلى ضجيج يصنعه الجميع، كلٌّ يصرخ بخوفه الشخصي ورغباته الذاتيّة في مشهد تطغى عليه أنانيّة البشر، وتسلّقهم فوق بعضهم البعض.
في اللعبة المسرحيّة هنالك دائماً ثغرة بين ما يقال على الخشبة ودقّة الواقع الذي يمثّله، في المشهد الجماعي كانت محاولات سدّ هذه الثغرة وإجبار المشاهد على التصديق كبيرة، فالأفعال وردود الأفعال، طريقة طرح كل شخصية لمشاكلها، والضجيج المبني بدقّة عالية تمكِّن المشاهد من التقاط كل كلمة فيه، مشهد احتوى جميع الشخصيات ومقولاتهم في محاكاة ساخرة للحالة السورية.
هناك نقلة في سلوك الشخصيّات وتفاعلهم مع بعضهم البعض تُبيِّن أنّ الإنسان لا يمكن أن يبقى عاقلاً ضمن جماعة منفعلة أو غاضبة، ويبيّن المشهد عمق الشرخ بين الإيمان الذي تحمله الشخصيّات وبين سلوكياتهم، وخاصّة شخصيّة فاضل الذي يقدّس التواصل كوسيلة للتفاهم والذي ينقلب فجأة ليصبح متسلّطاً، ينتهي المشهد بخروجه فيتبعه الجميع بعد فشل كل المحاولات للتفاهم.
لا يمكنك العيش هنا في مجتمع لم يعد هناك وجود لأية روابط بين أفراده، كلّ شيء حولك، أفكار البشر وسلوكيّاتهم، ظلمهم لبعضهم البعض وعنفهم، تعصّبهم المبني على وهم في معظم الأحيان كلّ ذلك يضعك أمام خيارين لا ثالث لهما إمّا أن تنهي حياتك أو أن تهرب بعيداً لتحافظ على ما تبقى من إنسانيّة بداخلك.