info@suwar-magazine.org

رحلة العبور الأخيرة

رحلة العبور الأخيرة
Whatsapp
Facebook Share

                          

قبل ٨ سنين:

 

عامودا، خاصرة السياسة الكرديّة وعامودها الفقري في آن واحد. وصلنا إليها بعد نهار عصيب، نزلنا أنا وكهرمان أمام كشك صغير حيث اشترى علبة سجائر، بعض المارّة في الطرقات يكسرون وحشة الظلام هناك في ليل بارد. 

 

تطالعك الأعلام الكرديّة المزينة بألوان الحياة في كلّ مكان، كوشاح إمرأة ريفيّة تتباهى به في عرس أولادها. كنت كلّما نظرت إلى كهرمان وجدته مزهواً يغمره كثير من الفخر، استقلّينا بولمان نحو القامشلي وعند أطراف البلدة استوقفنا حاجز لقوّات حماية الشعب سألني عن سبب مجيئي لعامودا، فردّ عليه كهرمان بأنّني آت لزيارته. 

 

بعد حوالي نصف ساعة أصبحنا على مشارف القامشلي حيث سنمضي الليلة عند قريب له هو زوج أخته، استقبلنا صهره المهندس أبو جوان وزوجته بكثير من اللطف والألفة، تلك الأيام الأربعة المقبلة في منزله لن أنساها ما حييت، ذلك الرجل الطيب وزوجته وأولادهما قدّموا كلّ ما عندهم من كرم الضيافة الكرديّة. 

 

خلال تلك الأيام خابت كل محاولاتنا للعبور إلى تركيا، قرّرنا بعدها العودة إلى عامودا، وفعلاً انطلقنا في عصر اليوم الخامس إلى عامودا لنلتقي هناك بأحد أصدقائه، أبو حبيب.. ذلك الرجل الجميل، استقبلنا في مكتبه في وسط عامودا ومن ثمّ ذهبنا إلى منزله وجلسنا في غرفة واسعة أشعرتني بالكثير من الحميميّة، صورة الشهيد مشعل تمو توّسطت أحد جدرانها محاطة بشموع مضيئة وبأزهار جميلة. 

 

يومان آخران في عامودا كانا كافيان لكي أتعرف على تفاصيل حياتيّة مجهولة لشاب مثلي عن قوميّة فقدت الكثير من حقوقها ولا زالت تناضل لتحقيقها. 

 

 

أبو محمد، بلباسه التقليدي وبكلماته العربيّة ذات اللحن الكردي المحبّب استقبلنا على العشاء مع مجموعة من الشباب، لن أنسى تلك اللحظة التي اندفع بها ذلك الرجل نحوي غامراً أيّاي عندما علم بسبب وجودي في عامودا، كهرمان وبشيء من التهكّم قال مازحاً "حتّى أنا لم يستقبلني هكذا مع أنّي لم أره منذ عامين.. "

 

كان من بين الحاضرين في تلك الليلة صحفي نمساوي يُدعى يوخان، عبر الحدود السوريّة التركيّة ليقوم ببعض المقابلات من أجل بحثه الجامعي، مرّت الساعات القليلة القادمة ثقيلة كفرض مدرسي، اتفقنا أن ننطلق في الساعة الثالثة فجراً سويّة باتجاه الحدود الفاصلة، عدت أنّا وكهرمان إلى منزل أبو حبيب، حزمت حقيبتي وودعتهما، ربّت كهرمان على كتفي وقال لي "ارفع رأسك، يوماً ما ستّتذكر كلمتي هذه.. "

 

أتت سيارة لتقلنا، صعدت خلفاً إلى جانب يوخان وانطلق السائق وشاب آخر سيتولّى أمر عبورنا إلى الجهة التركيّة، وما هي إلّا لحظات وصلنا فيها إلى أقرب نقطة من الشريط الشائك الفاصل بين الجانبين، نظرت أمامي فرأيت أنوار قرية تركيّة بعيدة، بدت كالضوء الذي يتحدّث عنه هؤلاء الذين تكلّموا عن رحلة عبورهم من الحياة إلى الموت، شعرت بضربات قلبي تتسارع كصوت قطار بخاري يمضي نحو أفق مجهول بعيد، تعالت أصواتنا فطلب منّا الشاب أن نخفضها لكيلا يسمعنا حرس الحدود التركي، كنّا عشر أشخاص، وذلك الشريط الحدودي على بعد دقيقتين مشياً، سرنا بهدوء نحو فجوة في الشريط أنزلها الشاب بقدميه وطلب منّا أن نعبر كلّاً على حداً، كنت أول العابرين، تقدّمنا بضع مئات من الأمتار عندما سمعنا أصوات بعيدة قادمة من مخفر الحراسة للجندرما التركي، بدأت الأمطار تهطل بغزارة.. "هذا ما كان ينقصنا" قلت ليوخان ممازحاً.

 

بدأت خطواتنا تصبح أكثر صعوبة مع الوحل الذي كبّلنا، بدونا كمجموعة من السجناء المقيّدين بسلاسل حديديّة ونحن نسير تباعاً، "اللعنة على هذا الشتاء" قلت لنفسي، طلب منّا الشاب أن نحثّ الخطا، بدأت أنفاسي تتسارع، ذلك الوحل اللعين قد ابتلع حذائي.. اقتربنا من شريط شائك آخر، كنت قد رفعت قدمي لكي أقفز من فوقه عندما أحسست أنّ شيئاً ما قد منعني من العبور، كان ''البانطلون'' الذي أرتدي قد علق في السلك الشائك ممزقاً إيّاه من الكاحل حتى ركبتي، شعرت ببرودة تسيل من قدمي، كانت دمائي، لم أشعر بألم الجرح إلّا لاحقاً. 

 

اقرأ أيضاً:

 

بين سوريا وتركيا... جدارٌ يحمل الموت بين طياته

 

دقيقتين بعدها سمعنا صوتاً من بعيد، صرخ الجندي التركي "... ور ور،، ور ور..." ركضنا جميعاً، صوت رصاصتين، لم أعد قادراً على التقاط أنفاسي، كنت أفكّر بأشياء فارغة لأول مرة، وفجأة رأيت نفسي مرميّاً، بعد أن تدحرجت، أسرع الشاب، ويوخان نحوي وساعداني على النهوض. قلت لهم مازحاً: "لا تخافوا، بس شو رأيكم بهالحركة؟ ..."  ضحكنا كثيراً، وعاودنا الهرولة، من حسن حظنا أنّ الجندرما لم يطلق الكلاب خلفنا، وقد تكفّلت الأمطار بالباقي. وبعد عشر دقائق وصلنا إلى حقل ذرة كثيف، أختبأنا فيه لربع ساعة، وبعد أن استعدنا هدوءنا، قال لي يوخان: "  Welcome, you are in Turkey.. " 

 

خمس دقائق أخرى، جاءت سيارة ونقلتنا جميعاً إلى المدينة، كان المطر قد توقّف، تذكرت جان، ضحكت، تلك هي أقدار جان الذي حدّثني عنها، والتي تآمرت لكي تجعلنا نعبر بنجاح. 

 

وصلنا إلى بيت أقارب الشاب، اغتسلنا وتناولنا فطوراً سريعاً.  بدأ الفجر بالنهوض كنهوض تلك الإبتسامة في وجهي، ندي، متعب،، لكنّه مفعم بالأمل ومتخم بالضياء. 

 

صباحاً ودّعت يوخان، وذهبت أنا والشاب إلى محطة البولمانات وقطعت تذكرة إلى غازي عنتاب. 

 

في الطريق جلست ساكناً كشاهدة قبر، ولكن من دون نقوشات، كنت أنظر إلى الأراضي الزراعيّة، اعترت وجهي إبتسامة ودمعة، تلمّست محفظة النقود، اطمأنّيت.. اتصلت بسالار وأخبرته أنّي سأصل بعد ستّة ساعات، وأغمضت عيناي، خلت أنّ أحداً يوقظني لكنّي لم أرد ذلك، فأنّا الآن في حقول اليانسون في بلدتي، الرائحة تأسرني، وذلك النور الذي رأيته حملني كطفل صغير حديث الولادة، أتى بي إلى الشاهدة وبكثير من الحنين وضعني ونقش عليها تاريخ ولادتي، ومن ثمّ غادر بعد أن بعثني من جديد....

 

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard