فيلم الدائرة يرصد الخناق المميت لحياة المرأة
لم تكن كلّ الفخاخ التشريعيّة الضابطة لقيم المجتمع سوى مجموعة من المتاهات والدوائر المغلقة على نفسها والتي تطبِق قبضتها على روح أبنائها وخاصة المرأة منها، لتبقى في صراع مع هذا الظلم الكيدي المُمَارس نحوها محاولة تارة التمرد، وتارة الهروب، وتارة البحث عمن ينصر قضيتها وحقوقها، ويقف معها للانتصار على لعبة الموت المحكمة.
فيلم (الدائرة) هو من أهمّ الافلام التي تتناول قضايا المرأة وحقوقها، وتعرّف بأصناف الاضطهاد النفسي والاجتماعي والجسدي التي تعانيها بكافة فئات المجتمعات، وخاصّة المنغلقة على نفسها والتي استخدمت التمييز الجندري والتفريق بين الرجل والمرأة في معاملاتها، وشرائعها وتشريعاتها.
لقّب النقّاد الإيرانيّين الفيلم باسم ((دائرة القيود)) للمخرج الإيراني (جعفر بناهي) الذي يعتبر من أكثر المخرجين جرأة في تناول الواقع الإيراني ونقده. ما عرّضه لغضب النظام الإيراني نتيجة طبيعة أفلامه التي تُعرّي وتصف بجرأة المجتمع الإيراني على كافة الأصعدة، وهو الذي يناضل لتحقيق حريّة أفراد مجتمعه عبر ما يقدّمه، فهو ممنوع من مغادرة إيران ومحكوم عليه بالحبس لمدة ست سنوات، وعدم إخراج أو كتابة أفلام لمدّة عشرين عام.
حصل فيلم "الدائرة" على جائزة الأسد الذهبي بمهرجان البندقيّة وغيرها من الجوائز، حيث يركّز الفيلم على القيود وشتّى أنواع التفرقة السائدة المفروضة على النساء في إيران وعلى حياتهن، ويصوّر حالة الاضطهاد اليوميّة والظلم الذي تتعرضنّ لها على اختلاف أعمارهن.
يعكس الفيلم صورة معاملة المرأة والنظرة إليها في مجتمع منغلق، موصِّفاً مأساة الحياة لدى المرأة الإيرانيّة بطريقة مميّزة سينمائيّاً كالعادة، حيث أبدع المخرج في الإخراج والحبكة السينمائيّة الصادقة التي تشدّ وتحفّز المشاهد وتحرّضه لإيجاد الحلول والبحث ما وراء الصورة الواقعيّة.
تدور أحداث الفيلم حول سبعة نساء من النسوة، إيرانيّات خرقن القانون وخرجن عليه بطريقة ما فكان مصيرهنّ السجن، ليفرج عنهنّ بعد ذلك ويعدنّ للاختلاط بالمجتمع الإيراني مجدداً، لا تبدو الجرائم التي ارتكبتها النسوة معروفة وواضحة والتي كانت السبب في دخولهن السجن بل كانت غامضة في معظمها، بحيث ينوّه الفيلم إلى أنّ العقوبة لم يكتفي أثرها بالسجن بل استمر أثرها بعد خروجهنّ منه والإفراج عنهنّ، حيث نشاهد الشرطة دوماً تلاحقهنّ وهنّ يعشنّ بحالة قلق ورعب مستمر من الخوف بالقبض عليهنّ مجدّداً بأيّة تهمة قد تعيدهنّ مجدّداً إلى خناق العتمة والظلم مجدّداً، وهذا ما يدفعهنّ للتصرف بحالة من التوتر والهرع في التعامل مع باقي أجزاء المجتمع.
فمثلاً تضطرّ إحداهنّ بسبب افتقارها إلى ما يثبت شخصيّتها إلى الكذب، لمجرد أن تبتاع تذكرة سفر بالباص إلى خارج البلدة، وأخرى تضطرّ إلى الهروب من السجن بعد محاولتها للقيام بالإجهاض، وعندما تعود إلى منزل أسرتها يتمّ طردها وبكلّ عنف وقسوة.
بدأ الفيلم بصراخ امرأة كانت تلد مع شاشة سوداء مستمرّة وكأنّ البداية كناية عن عزاء وليس ولادة، لينتقل بحركة سريعة لكاميرته فيه يظهر انعكاس الاضطراب والهلع الذي يترافق مع نبأ ولادة ابنة جميلة للعائلة التي كانت تنتظر صبيّاً، وإلّا سيضطرّ أهل الرجل إلى طلاق المرأة وإعادتها لبيت أهلها لأنّها أنجبت ابنة وليس ولد، مشيراّ لحجم الأسى النفسي الذي تعانيه المرأة منذ ولادتها لتوأد فكريّاً وإنسانيّاً حتى قبل خروجها للحياة.
ينتقل بنا الفيلم لقصة الفتيات الثلاث اللواتي خرجن من السجن مباشرة ولا يمتلكن النقود لركوب الحافلة .. يدفعك المشهد لتتساءل من هنّ هؤلاء الفتيات؟؟ وماذا فعلت الفتاة الأخرى؟؟ ولماذا لم يهربن؟ وما هي التهمة التي كانت ملصقة بهنّ سابقاً بحيث تبقى هذه الأسئلة غامضة لدى المشاهد.
نشاهد الكاميرا تتحرك بسرعة تعبير عن الارتباك والخوف الذي تعيشه الشخصيّات الثلاث. واحدة منهنّ حاولت استعمال الهاتف، اعتقلتها الشرطة وسألتها عن هويّتها، إحداهنّ تحاول التدخين بكلّ جرأة وهي دلالة رمزيّة تعبّر عن الاختناق والرغبة في الانعتاق ولو عن طريق زفرات متتاليّة من الدخان. لكنّها في كلّ مرّة تحرم من القدرة على التدخين لأنّ الجميع يخاف من الشرطة المنتشرة في كلّ مكان.
اختفت الفتاة الثانيّة عن ناظرينا بعدما أمّنت السفر لصديقتها الثالثة. وطلبت منها السفر إلى بلدتها حيث الطبيعة الجميلة والمروج الخضراء والهواء الطلق.
اقرأ أيضاً:
فيلم (المولود مرتين) تجسيدٌ لعذابات النّساء والأطفال في الحرب
وتتابع أحداث الفيلم الذي يرصد مصير الفتيات، حيث نرى إحداهنّ في بيت والديها مختبئة بعدما غادرت السجن.
فيطردها والدها من البيت بعدما جاء أخويها لتعنيفها. هربت تبحث عن منفذ لها، لم تستطع المبيت في الفندق، كما لم تستطع التحرك بحريّة في الشارع، فذهبت عند إحدى صديقاتها بالمستشفى حتى تساعدها على تنزيل الجنين الذي في بطنها، لأنّ في انتشار خبر حملها الموت لها ناهيك عن معاقبة أهلها والقانون لها.
تحاول المرأة ترك ابنتها الصغيرة في الشارع لعلّ أحداً يقوم بالتقاطها، فتصرخ بها إحداهنّ فتذهب لجلب ابنتها التي يمسكها أحد الرجال في الشارع ويتصل بالشرطة، فتأخذ الفتاة الصغيرة لمقرها بينما تفرّ الأم باكية وهي تدخن احتجاجاً ورفضاً وغضباً من قدرها.
ينتقل الفيلم عبر مشاهده لسرد قصّة امرأة أخرى تكون بصحبة رجل يسوق سيارة فتوقفه الشرطة، يحاول الرجل استعطافها لتركه، فتتركه الشرطة بينما تقتاد السيّدة لتعتقلها، يظهر لقطة مقرّبة على وجه السيدة التي تحاول التدخين بكلّ جرأة فيمنعها الشرطي بحجّة ممنوع التدخين في السيارة. بعد فترة، نرى الشرطي المسؤول يدخّن بعدما حاول أحد السجناء التقرّب منه والتودّد إليه بإعطائه سيجارة، لم يعد ممنوعاً. تعود بنا الكاميرا إلى السيدة.
تأخذ السيجارة هي أيضاً وتدخّن. وهذا نوع من التحدي العلني لسلطة الرجل والمجتمع. من أجل أن تقفل الدائرة التي تدور فيها كلّ هذه الأحداث، نصل إلى السجن.
تحرك بطيء للكاميرا داخل الزنزانة .... نرى الفيلم ينتهي بفتحة مشابهة كنافذة صغيرة لإحدى زنزانات السجن.
وبين البداية والنهاية تنساب أحداث الفيلم في مسار يبدأ بالحياة وينتهي بالموت. ولكن الذي لا ينتهي هو تلك الدائرة الوهميّة ذات المسار المغلق الظالم حيث تدور النسوة في فلكها من داخل محيطها في معاناة وقهر.
تنطلق أحداث الفيلم من المرأة وتتنهي بها، بحيث أقفلت الدائرة على شخصيّات تائهة وخائفة وحزينة، تبحث عن الخلاص والانعتاق من واقع محكوم بقبضة الأسى، يحاول المخرج أن يقدّم حلولاً لحياتهنّ، بتوصيفه للوضع القائم وعبر سرده لسيناريو كان مكتوب باحترافيّة، وليس فيه مكاناً لأزمنة لا عوز لها، بل كلّ لقطة لها قيمتها الزمكانيّة والإنسانيّة ورمزيّتها.
تفاصيل التخبّط والصراع النفسي الذي تعيشه الشخصيّات اللواتي ظهرن بطريقة أيضاً ذكيّة، تصوّر حجم المعاناة والقلق الداخلي لديهنّ واللواتي يدرن بانفعالاتهن وأيضاً رغبتهنّ في الخلاص والحريّة من الدوائر الوهميّة، وهذا ماظهر في التصوير من زوايا ثابتة أحياناً أو تنقّل الكاميرا بسرعة يعبّر عن ارتجاف الشخصيّات مستخدماً طريقة للسرد ذكيّة.
فكلّ الأحداث مترابطة بعضها ببعض وكأنّها سلسلة أو دائرة كاسم الفيلم تماماً، غير معتمد المخرج على شخصيّة محوريّة، بل نقلها بطريقة واقعيّة متسلسلة لا تخلو من الدهشة والتساؤل والتحفيز الفكري، لإيجاد الحلول لواقع هذه الشخصيّات ليكون بذلك من أهمّ الأفلام الواقعيّة التي وصفت بمهارة احترافيّة إخراجيّاً وسرديّاً حياة المرأة ومعاناتها تحت وطأة سياط المجتمعات المظلمة والظالمة.