الإلحاد بين حريّة الاعتقاد وعبثية الوجود
إن الكتابة عن الإلحاد هي دوماً مسألة حرجة في إطار ثقافة دينيّة محافظة، تعطي للدين الأولويّة القِيَميّة في حياتها، ولا ترى الخير إلّا في نطاقه ومن منظوره، ما يجعل الإلحاد بنظرها أكبر الشرور، وهذه الحراجة تزداد في وقت كوقتنا الراهن تمرّ فيه البلاد بأزمة كارثيّة مستفحلة، ما يجعل الكتابة عن هذا الموضوع تبدو وكأنّها اليوم تماماً خارج أوانها.
مع ذلك، يمكننا ألّا نوافق على مسألة التوقيت هذه، فنحن اليوم، ونحن حتّى تحت نار هذه الأزمة الحارقة، التي ندرك تماماً أنّها انفجرت نتيجة تضخم واقع مأزوم على كافة الصُعد، علينا عدم إرجاء الحديث عن أيّ جانب من جوانب هذه الأزمة، التي يلعب فيها العامل الديني وقضيّة الحريات دورين جوهريّين خطيرين، وعلى العكس من ذلك علينا تعرية كلّ عيوب وعورات واقعنا الاجتماعي، وعدم مُداراتها أو التستر عليها أكثر، وهذا الكلام نفسه يُقال حول مشكلة وقوع الإلحاد داخل نطاق المحظور، وإحاطته بالخطوط الحمراء العريضة، التي لا يجب أن يبقى أيّ خط منها قائماً في وجه النقاش العقلاني وحريّة الفكر، إذا أردنا لمجتمعنا التعافي الإنساني الحقيقي.
وهذه المقالة تناقش موضوع الإلحاد من مُنطلق عقلاني، وهي لا تبتغي الدفاع عن الإلحاد، فالقضيّة هنا لا تدخل في نطاق الدفاع عن الإلحاد أو الدين، فهذا أمرٌ يخصّ أهل كلّ منهما، ولكنّها قضيّة حقوق وقيم إنسانيّة أولاً وقضيّة فكر عقلاني ثانيّاً.. وتأسيس لمجتمع إنساني أفضل ثالثاً، وهذا ما ستنطلق منه وتركّز عليه هذه المقالة.
لماذا يلحد الإنسان؟
طَرْحُ هذا السؤال يشبه تماماً السؤال "لماذا يؤمن الإنسان"؟
في كلتا الحالتين يمكن الإجابة بأنّ القضيّة هي قضيّة قناعة، قناعة حقيقيّة متكوّنة لدى الإنسان، وهو لا يتعمد اختيارها، ولا يمكنه أن يكذب فيها، لأنّ الأمر ليس إراديّاً، فلا أحد يستطيع أن يتخذ قراراً بأن يكون مثلاً ملحداً اليوم، ومسيحيّاً غداً، ومسلماً بعد غد، أو ما يشبه ذلك، فالقناعات لا تتشكّل وفقاً لإرادة الإنسان، ولا تتبع قراراته، وفي الوقت الذي يكون فيه مؤمن ما مقتنعاً بوجود الله، وبأنّ دينه هو الدين الصحيح، فالملحد مثله تماماّ مقتنع أيضاً بأنّ الله غير موجود، وبالتالي فلا دين صحيح، وهذا ما يقوله له عقله بصدق، وهو لا يتعمّد الإلحاد وإنكار وجود الله، والملحد لا يتعمّد نفي وجود الله، فتعمّد النفي يعني أن يكون هذا الشخص مقتنعاً أساساً ومسبقاً بوجود الله، ثم يقرّر التنكر لله ونفي وجوده رغم قناعته بأنّه موجود، ولو حدث مثل هذا الأمر، لما جاز لنا عندها نعت هذا الشخص العجائبي بـ "الملحد"، لأنّه مقتنع أصلاً بوجود الله، أي مؤمن بوجود الله، ولوجدنا أنفسنا أمام شخص غريب الأطوار، يؤمن بالله، ثم ينكر وجوده معاً، ويكون في مثل هذه الحالة إمّا شخصيّة فصاميّة تؤمن وتلحد بنفس الوقت، أي تعتقد بالشيء ونقيضه معاً، كرؤية شيء ما أبيض وأسود اللون بنفس الوقت، وهذا قطعاً ليس من صفات العقل السليم، أو سيكون هذا الشخص مدعيّاً طوعيّاً للإلحاد، وهذا أيضا ما لا يفعله عاقل، لأنّ العاقل الذي يؤمن بوجود الله.. لا يقوم بإنكار وجود الله، فهذا في مثل هذه الحالة يضعه في موضع تحد، ومواجهة مع الله، ويجعله متقصّداً معاداة الله، وهذا خيار لا يفعله العاقل، الذي لا يخوض عادة تحد أو مواجهة مع شخص آخر أقوى منه، فكيف إذاً يعادي ويجابه قوة أعظميّة يؤمن بوجودها كالله؟!
بناء على ذلك يمكن القول أنّ الملحد هو كالمؤمن تماماً في موضوع القناعة، شخص صادق ومتصالح تماماً مع نفسه، وهو عندما يعلن إلحاده يعبّر عن قناعته الحقيقيّة، وعما هو مقتنع بصدق أنّه حقيقة وصحيح، ولو ادّعى هذا الملحد الإيمان، لناقض عندها قناعاته، ولكذب على نفسه وسواه.
وهكذا نصل إلى خلاصة مفادها أنّه إذا كان الله موجوداً، فليس الملحد مذنباً في أنّه لم يستطع بما لديه من قدرة عقليّة -أنعم بها الله نفسه عليه- أن يدرك حقيقة وجود الله، وهو لم يتعمّد إنكار وجود الله وعداوته، أمّا إن كان الله غير موجود، فعندها يكون الملحد هو المصيب، والمؤمن هو المخطئ، ولا يكون ثمّة من يحاسب لا هذا ولا ذاك على الإلحاد أو الإيمان.
لذا يجب على المؤمن أن يفهم تماماً أنّ الملحد ليس شخصاً فاسداً أو شريراً أو وضيعاً لأنّه عدو الله، ولكنّه شخص سوي صالح تماماً يتّبع مثل المؤمن نفسه ما يعتقده حقيقةً وصحاً، إلّا أنّه يختلف في طريقة تفكيره عن المؤمن، ونفس الكلام أيضاً ينطبق على المؤمن المختلف الذي يتّبع دينا آخر، يعتقده بصدق الدين الصحيح.
هل هناك أنماط مختلفة من الإلحاد؟
بكل تأكيد.. نعم!
فهناك "إلحاد فكري": وهو يقوم على أرضيّة فكريّة متينة، تتكوّن بعد تفكير معمّق، واطلاع واسع لدى صاحبه، يصل بنتيجتهما إلى خلاصة أنّ الله غير موجود، وهذا الإلحاد هو إلحاد الفلاسفة والعلماء والمفكّرين.
وهناك "إلحاد إيمانوي": وهو لا يختلف عن الإيمان الديني التقليدي، فكما يؤمن المؤمن في هذا الإيمان بالله بشكل تسليمي، ولا يؤسّس قناعته بوجود الله على أساس منطقي وحجج عقليّة متينة، يكون الملحد الإيماني مثله تماماً، ويتصرّف بشكل مماثل لتصرّفه، فـ(يؤمن) بأنّ الله غير موجود بشكل تسليمي أيضاً، ودون أن يؤسّس قناعته الإلحاديّة هذه على أُسس منطقيّة وعقلانيّة كافيّة.
كما أنّه هناك "إلحاد ردّي": وهذا النوع من الإلحاد لا يقوم على أرضيّة منطقيّة عقلانيّة قويّة كالإلحاد الفكري، ولا ينشأ بشكل تسليمي غير واع كالإلحاد الإيمانوي، ولكنّه يأتي كردّة فعل على الأديان، إمّا بسبب خلافاتها وصراعاتها التي لا تنتهي، أو بسبب الصورة المتناقضة أو غير المقنعة أو المُنفّرة التي تقدّمها لله، أو بسبب سوء المتديّنين كممارستهم للعنف التكفيري، ورفض المختلف بسبب التعصّب والتطرّف، أو استغلالهم الدين لتحقيق مكاسب مُغرضة غير نزيهة.
اقرأ أيضاً:
هل هناك تعصّب إلحادي؟
أيضا يمكن الجواب عن هذا السؤال بثقة: "نعم"!
ولو عدنا إلى أنماط الملحدين المذكورة في الفقرة السابقة، لأمكننا القول أنّ النموذجين الثاني والثالث قابلان تماماً للتعصّب والتطرف، فالملحد الإيمانوي هو تماماً مثل المؤمن الديني من الناحية الذهنيّة، ويمتلك مثله "ذهنيّة إيمانيّة" ترى في إيمانها وحده الحقيقة الكاملة، ولا يقبل بأيّ اختلاف معه أو عنه، ومثل هذه الذهنيّة لا يصعب عليها الوقوع في التعصّب والتطرّف؛ أمّا الملحد الردّي الذي يتشكّل لديه الإلحاد بسبب ما يراه من مساوئ وأمور سلبيّة في الأديان ولدى أتباعها، فمن الطبيعي أن تتكوّن لديه ردّة فعل سلبيّة ضدّ الأديان، وهي قد تكون شديدة أو مبالغاً فيها أحياناً، وبذلك يمكنه أيضاً أن يتحوّل إلى متعصّب أو متطرّف في موقفه من الأديان والمتدينين، لكن ماذا عن الإلحاد الفكري أو العقلاني؟ هنا الأمر يختلف فالعقلانيّة لا تتعصّب ولا تتطرّف، وهي تقبل بالاختلاف وتحترمه، وتعترف للآخرين بحقّ الاختلاف.. كما تعترف لهم- وهذا جدّ مهم- بحقّ الخطأ، فالعقل يدرك تماماً أنّه كعقل يخطئ ويصيب ويختلف مع سواه من العقول، وهذا كلّه من طبيعة العقل، وهو مهم أيضاً لإدراك الحقائق.
الإلحاد كوصمة اجتماعيّة:
في الثقافات الدينيّة.. تربط الذهنيّة الدينيّة بشكل كامل جلّي بين الخير والإيمان بالله، وليس هذا فحسب، بل بالإيمان بالله وفق طريقة محدّدة بشكل صارم تتمثّل بالدين الذي تعتنقه هذه الذهنيّة، وهنا يصبح كُلّا من الملحد والمؤمن بدين آخر خارج دائرة الخير الذي تعرفه، وتعترف به هذه الذهنيّة، فعلى سبيل المثال بالنسبة لمسلم تقليدي أو مسيحي تقليدي، الهندوسي وثني كافر، لأنّه يتّبع ديناً باطلاً برأي كلّ منهما، وكذلك الشيوعي الذي يتّبع الفلسفة الماديّة الملحدة، وهنا بالنسبة لمثل هذين المؤمنين التقليديّين، لا تُعطى قيمة هامّة للصفات والمزايا الإنسانيّة الحسنة التي يمكن أن يتحلى بها الهندوسي أو الشيوعي، فالتقييم في الذهن الديني لا يتمّ قطعاً على أساس إنساني.. بل على أساس ديني، ومن لم يكن ذا دين صحيح، فلا قيمة حقيقيّة له كإنسان.. أيّا كان بالمعيار الإنساني.
في مثل هذه الثقافة.. يصبح الإلحاد بكلّ تأكيد وصمة كبرى، هذا إذا لم يصبح "جريمة" جللة يعاقب عليها بأقصى شدّة، والملحد بنظر هذه الثقافة يعتبر عدواً لله، وهذا يُعتبر ذروة الشر وأقبح العيوب.
العقل السليم يحتجّ بقوّة على المتديّنين:
ردّاً على تلك المواقف.. سيقول العقل السليم لأيّ مؤمن، من أيّ دين أو معتقد كان، يؤمن بوحدانيّة صحّة دينه أو معتقده، ويُكفّر الآخرين سواءً كانوا مُلحدين أو مختلفين عقائديّاً: هل أقمت دينك أيّها المتديّن على أساس عقلي.. أي هل توصّلت إلى أنّ دينك هو الصحيح بناء على إعمال العقل والبحث العقلي في مسألة وجود الله وصحّة الأديان؟ إن كنت قد فعلت ذلك.. فما هو ذنب شخص آخر فعل الشيء نفسه، وتوصّل إلى أنّ ديناً أو مُعتقداً آخر هو الصحيح، وما هو فضلك أنت عليه، ومن طبيعة العقول أن تختلف رغم حسن الغايات؟ هل تشكّل قناعتك دليلاً دامغاً على صحّة معتقدك.. وبطلان معتقده؟ وهل لديك دليل قاطع على ذلك، لماذا لا يكون رأيه هو الصحيح، طالما أنّ كلّ هذه الاختلافات هي نتائج عمل عقول تجتهد وتبحث عن الحقائق؟ أمّا إن كنت قد اتبعت دينك ليس على أساس العقل، كأن يكون أتاك عن طريق النقل، أي عن طريق الوراثة، فموقفك العقائدي في غاية الضعف، وليس لديك أيّ دليل عقلاني على صحّة ما تتّبع، ولا فضل لك على سواك ممن تعتبرهم كفرة أو ضالين من أتباع المعتقدات الأخرى الذين أيضاً اعتنقوا أديانهم اعتماداً على النقل والوراثة الثقافيّة، أمّا من يتّبع أيّة فلسفة أخرى سواء كانت ماديّة أو روحيّة مختلفة عن دينك، فهو في موضع يتقدّم ويعلو عليكم جميعاً كمتديّنين إيمانويّين بمعيار العقل لأنّه يعتمد على العقل ويتّبع العقل.
الإلحاد حقّ من حقوق الإنسان:
ممّا تقدّم يمكننا ببساطة أن نقول أنّه أيّاً كان الأساس الذي تقوم عليه القناعات والأفكار، سواء كانت قائمة على العقل أو النقل، فلا أحد لديه الدليل الكامل على صحّة معتقده أو فكره، وبناء على ذلك فليس لديه أيّ حقّ أن يفرض عقيدته أو فكره على الآخرين، ويجعل من نفسه حكماً أو حاكماً عليهم باسم الحقّ والصحيح؛ هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية على كل صاحب فكر أو عقيدة يعتبرهما أصح وأفضل من غيرهما أن يعي أنّ الآخرين يفكّرون أو يعتقدون مثله، وكلّ منهم بدوره يرى أو يعتقد بأنّ رأيه أو عقيدته هما الأصح والأفضل، فكيف نحلّ مثل هذا الخلاف؟! ونتفادى العواقب التي يمكن أن تنجم عنه؟
قد يقول البعض بالحوار.. وهذا طرح إيجابي بالطبع، ومع ذلك فليس من ضامن قطعاً أنّ الحوار ينهي الخلاف، هذا عندما يتحاور المفكّرون العقلانيّون أو حتّى العلماء النظاميّون، فكيف إذاً عندما يكون من يفترض بهم الحوار مؤمنين متشدّدين، وهذا ما يثبته التاريخ والواقع الراهن؟ إذاً يبقى حلّ وحيد فقط، وهو الاعتراف بالاختلاف وقبول الاختلاف، وهذا يعني أن يقبل كلّ صاحب معتقد أو رأي المختلفين عنه كمساوين له تماماً، والمساواة هنا شرط لازم تماماً، وإلّا فلن يكون الاعتراف والقبول حقيقيّين، وسيبقى التمييز والغبن قائمين.. وقادرين على إثارة النزاعات.
هذه المساواة تعني أن يعترف كلّ طرف لسواه بحقوق تامّة غير منقوصة كالحقوق التي يعترف بها لنفسه، وإن كان يعتبر حيازته لمعتقد أو رأي وتمسّكه بهما وحبّه واحترامه لهما ودفاعه عنهما حقاً من حقوقه، فعليه أن يعترف بمثل هذا الحق لكلّ مختلف في الرأي أو العقيدة تماماً ودون أيّ نقصان، سواء كان مختلفاً في الدين أو حتّى ملحداً، وبعد أن تتمّ هذه المساواة في ميدان الرأي والمعتقد بين جميع المختلفين، فبعدها لا يبقى أيّ أساس أو مبرر للتمييز بينهم على أساس الرأي والمعتقد في ميادين الحياة الأخرى، التي يجب تطبيق المساواة الكاملة عليها.. وإقرار حقوق متساوية للجميع فيها.
وهكذا نصل إلى خلاصة جازمة لا يمكن فيها إلّا الاعتراف بحقّ الملحد في أن يكون ملحداً، وبوجوب تساويه مع المتديّن في كلّ شيء بلا استثناء.
ومن الضروري هنا الانتباه إلى قضيّة هامّة، وهي أن اعتراف المؤمن بحقّ الملحد في الإلحاد، هي قطعاً ليست اعترافاً بالإلحاد نفسه، بل اعترافاً بحق الشخص الآخر بأن يكون لديه رأيه أو معتقده الخاصين، مهما كانا مختلفين، وحتّى لو كانا إلحاداً، وبالطبع.. العكس بالعكس، وهذا الاعتراف المُتبادل بين المتديّن والملحد، هو ليس اعترافاً بالدين أو الإلحاد نفسيهما من المختلفين فيهما، بل هو حصراً اعتراف بحقّ الآخر في حريّة واختلاف المعتقد والرأي بدون أيّة قيود جهوية على هذا الحقّ، الذي يجب ألّا يؤطّر إلّا في إطار الخير الإنساني، وعدم التسبّب بأيّ أذى بالمعيار الإنساني وحده.
الدين والإلحاد والأخلاق:
في الثقافات الدينيّة، يُشكّل الدين عادة الأساس والمستند لأيّة منظومة أخلاقيّة، وكثيراً ما تعني عبارة "صاحب دين" أنّ هذا الشخص "حميد الأخلاق والسلوك".. ولا يقصد هنا بكلمة "دين" "المنظومة المعتقديّة" التي يعتقد بها هذا المتدين، وبذلك تأخذ عبارة "بلا دين" معنى مناقضاً تماماً لما سبق الحديث عنه من حسن الخلق والسلوك، وتصبح عبارة "بلا دين" رديفاً للقول "بلا ضمير" أو بلا "أخلاق".
وبالطبع.. عندما تكون الأخلاق الضابطة لسلوك الفرد قائمة على إيمان ديني، فهذا يجعل الأمر أسهل عليه من الناحية النفسيّة، لأنّه في المواقف الصعبة سيحس بأنّ "الله" يسانده.. وسيكافئه على حسن تصرّفه، فيصبح من الأسهل عليه المحافظة على الخُلق الحسن، كما أنّ ربط الأخلاق بالدين.. له أيضاً حسنة كبيرة أخرى على المستوى المجتمعي، لأنّ الخوف من عقاب الله يمكنه أن يشكّل رادعاً لذوي النفوس الرديئة، ووازعاً لهم يمنعهم من فعل الشرور.
مع ذلك فليس كلّ شيء حسناً في عمليّة الربط بين الأخلاق والدين، والسبب الأوّل في ذلك هو اختلاف الأديان، الذي يؤدي إلى اختلافات قد تصغر أو تكبر في التقييمات الأخلاقيّة، وعدا عن ذلك .. فهذا الاختلاف يمكنه أن يبخس الشخص الخلوق حتّى في ما تتوافق عليه المنظومات الدينيّة المختلفة قيمته الإنسانيّة كإنسان خلوق.. عندما يصنّف بموجب أديان أو عقائد غيره ككافر أو صاحب معتقد أو رأي باطل، ويعامل لا على أساس أخلاقه الرفيعة.. بل على أساس معتقده أو رأيه المعتبَرين باطلَين أو ضالَّين؛ وإضافة إلى ذلك... فحتّى الالتزامات الأخلاقيّة القائمة على أساس ديني.. قد تفقد مضمونها كأخلاق وكقيم، وتتحوّل إلى مجرد انصياعات لأوامر ربانيّة، ليس حبّاً بالله بصفته الخير المطلق، بل خوفاً من عقابه أو طمعاً بثوابه، بصفته الجبّار القادر على كلّ شيء، وهنا يمكن أيضاً أن يتحوّل الدين إلى تجارة، فيرتكب الشخص الرذائل والشرور ثمّ يكثر من الإجراءات الدينيّة، ويتشدّد فيها تعويضاً عن شروره ورذائله، لأنّ الله برأيه يحسب كلّ الحسنات والسيئات ويجمعهما حسابيّاً ثم يحصّل الفرق الحسابي بينهما؛ وأسوأ من ذلك هو عندما يتحوّل الدين إلى أساس تقوم، وتشرعن عليه قيم هدّامة إنسانيّاً كحالة التكفير أو محاربة الكفّار، وفعل الفظائع الإنسانيّة بحقّهم بصفتهم كفّاراً، والتاريخ حافل بمثل هذه الحالات، التي كانت تصل أحياناً إلى حدّ إبادة المختلف بذريعة كفره.
بالمقابل يمكننا أن نجد في ساحة الإلحاد أيضاً أخياراً أو أشراراً، كباراً أو صغاراً، والكثيرون منّا ربما يعرفون شخصيّاً ملحدين لا يختلفون في سلوكهم الأخلاقي عن سواهم من المتديّنين، بل حتى ربما يعرفون ملحدين على درجات عالية من الرقي الفكري والسلوكي، كما يمكننا أن نجد في التاريخ الحديث ملحدين بلغوا درجات سامية من نكران النفس إلى درجة أنّهم ضحّوا بأنفسهم في سبيل إيمانهم بالإنسانيّة، وتشي غيفارا واحد منهم على سبيل المثال.
وبالتالي يمكننا القول بثقة أنّ الأخلاق، بما هي قيم إنسانيّة رفيعة، ليست مرهونة بالدين أو الإلحاد، وهنا وهناك يمكن أن نجد كبار وصغار الصالحين والأشرار.
ولكن ماذا عن عيوب الإلحاد ؟
عند الحديث عن العيوب.. يمكننا على حدّ سواء أن نجد عيوباً كثيرة، صغيرة أو كبيرة، سواء في ساحات الدين أو ساحات الإلحاد.
فأبسط ما يقال عن عيوب الدين، أن التاريخ الديني حافل بالصراعات الدينيّة، التي كثيراً ما كانت تتسبّب بكوارث كبيرة، كما أنّ التواريخ الدينيّة تزخر أيضاً بحالات اضطهاد المختلفين والعلماء والمفكرين، وتحالف رجال الدين الانتهازيّين مع السلاطين الظلمة، وتأجيج واستغلال الشعور الديني لبسطاء العوام لتحقيق المآرب الفاسدة، ويضاف إلى ذلك تكريس، وتحصين التمييز الجائر ضدّ المرأة... وسوى ذلك.
وهذا كلّه يعتمد على تقييد أو تغييب العقل، وإعلاء الإيمان والتسليم على العقل والفكر والنقد، ما يقيّد العقل ويعرقل العلم، ويضعف حركة تطور المجتمع، ويكرّس الظلم والفساد، ويرسّخ الجهل، وينشر التعصّب والتطّرف.
أمّا بالنسبة للإلحاد فالمشكلة الأساسيّة فيه تكمن في كونه يُجرّد الإنسان من الروح في مقابل تقييد الدين للعقل وتفرقته للناس، ففي الإلحاد يصبح الإنسان مجرّد كائن جسدي زائل، ويتساوى في المصير مع سواه من الكائنات، ولا يعود في خاتمة المطاف ثمّة فرق بينه وبين النملة، فكلاهما يأتيان من التراب ويعودان إلى التراب، وكلاهما أوجدتهما نفس الصدفة العابرة في كون لا واع وغير مكترث!
وهكذا لا يعود للإنسان قيمة ولا للحياة معنى!
الإلحاد والعبث:
إنّ أخطر نتائج الإلحاد هي العبث، العبث الذي يشعر به الإنسان عندما يشعر بأنّ مصيره هو شخصيّاً، ومصير كلّ من وما يحبّه ويعزّه هو الفناء، وعندما تتكوّن لدى الإنسان قناعة بهذه العبثيّة، في كثير من الأحيان يكون لها عواقب سيئة كبيرة، فهي قد تدفع بالإنسان إلى اليأس والإحباط، طالما أنّه محتوم المصير بالفناء، وقد تحوّله إلى شخص لا مبال.. لا يكترث بالنجاح ولا يفكّر بالأفضل سواء على المستوى الفردي أو الجمعي، ولا يأبه لمشاكل واقعه أو معاناة غيره أو عيوب مجتمعه، طالما أنّ كل ذلك سينتهي ويفنى، وهذه اللامبالاة قد تذهب باتجاه أخطر وتلتقي مع الأنانيّة والعدوانيّة، وهنا سيحاول الإنسان أن يغتنم وجوده المؤقّت ليحصل على أكبر قدر من المكاسب والمتع، وتتضخّم لديه الأنانيّة، فلا يبالي بأيّ شر يُلحقه بغيره أو يتسبّب به لسواه، وفي أقل الحالات سوءاً قد يتحوّل هذا الإنسان إلى كائن استهلاكي فردي يهتمّ بمتطلباته الاستهلاكيّة الخاصّة وحسب.
مثل هذه العبثيّة فعليّاً تُفقد الإنسان ووجوده الإنساني الإنسانيّة، التي لا يمكنها أن تتحقّق وتنمو بشكلها السليم إلّا إذا نظر الإنسان إلى نفسه كذات روحيّة كونيّة، ورأى في كلّ وجوده وحياته تحقيقاً فاعلاً وتنميّة مستمرّة لهذه الذات.
إذاً هل الدين هو البديل؟
هو كذلك إلى حدّ ما، فالمتديّنون على اختلاف أديانهم لا يرون في وجودهم عبثاً فانياً في كون مادي عديم الوعي والإحساس بالإنسان وطموحاته ومشاكله؛ لكنّ الأديان التقليديّة، لا تستطيع أن تكون البديل الإنساني لا لإنسان المستقبل ولا الحاضر، وهي حتّى لم تكن كذلك بالنسبة لإنسان الماضي، وما هي إلا نتاجات لاعقلانيّة لعقل غير عقلاني قاصر، وقد فشلت في تقديم النموذج الإنساني الحقيقي، وتداخل فيها الخير بالشر واختلطا إلى أقصى الحدود، كما أنّها لا تستطيع في العالم المعاصر الصمود أمام تحديات العقل والعلم الحديثين، وهذا ليس غريباً كونها من منتجات أزمنة لم تكن فيها مثل هذه التحديات موجودة.
الذهنيّات الدينيّة مثلاً ليس لديها أيّ جواب يقنع العقل الحديث حول الدليل على وجود الله، وليس لديها أي تفسير لمشكلة الشر، ولماذا يسمح الإله الطيب كلّي القدرة بالشرور الكبيرة والكثيرة الموجودة، وليس لديها أيضاً أيّ تفسير مقنع لمسألة تعدّدها وكثرتها هي نفسها كأديان.
التفاسير التي تقنع العقل الحديث هي فقط التي يصنعها العقل الحديث، ولذا ليس أمام الأديان من خيار إلّا أن ترتقي إلى مستوى هذا العقل الحديث، وهذا يعني خضوعها لعمليّة إعادة هندسة معقلنة جذريّة، أو التنحي جانباً.. وعدم عرقلة العقل في بحثه عن الحقائق وحلول المشاكل في حياة الإنسان.
أما العقل الحديث فهو بدوره مطالب بإعادة نظر جذريّة في العقلانيّة الماديّة التي أنتجها، والتي فشلت بدورها فشلاً ذريعاً في بناء النموذج الإنساني الحقيقي، بل وحوّلت العقل نفسه إلى عقل وظيفي يخدم النزعات والأغراض اللاعقلانيّة المتمثّلة بشكل رئيس بالمصالح الأنانيّة المتورّمة المختلفة.. والمتصارعة في ما بينها بشكل وحشي مسعور في العالم المعاصر.
ما هي العلاقة بين الإلحاد والعلمانية؟
كثيراً ما يتّهم المتديّنون المختلفون العلمانيّةَ بأنّها سبب الإلحاد، الذي يتسبّب بدوره بهيمنة ثقافة اللاثقافة، والاستهلاك وتوحّش المصالح في عصرنا الراهن.
أول جزء من الردّ على هذا هو أنّ السلطات الدينيّة كانت وما زالت بسبب مصالحها أو تعصّباتها تلعب في أحيان كثيرة أدواراً خطيرة في ما كان، وما وصل إليه العالم الحديث من فساد وعدوانيّة. والجزء الثاني من الردّ هو أنّ مشاكل العالم الحديث وشروره ليست مرتبطة حصريّاً بالإلحاد، فهناك أخيار وأشرار في معسكريّ الدين والإلحاد على حد سواء، وهناك أشرار لا يأبهون لا بالدين ولا بالإلحاد، آلهتهم وأديانهم تتجسّد في مصالحهم.. وليس لديهم من آلهة أو أديان سواها! أما الجزء الثالث من الردّ، فهو أنّه أيّاً كان دور الإلحاد في أزمة العالم المعاصر، فالعلمانيّة والإلحاد لا يتطابقان ولا يقترنان.
ما تشترك فيه العلمانيّة والإلحاد في بعض الجوانب هو قيام كلّ منهما على عقل فاعل لا يُقنعه الدين، ولكنّ العلمانيّة لا تعتبر الإلحاد شرطاً لازماً من شروطها، وشرطها اللازم الرئيس هو العقل، العقل الذي ينظّم حياة وعالم الإنسان، وليس الغيب والتسليم والإيمان اللاواعي، والعلمانيّة تقبل بهذا العقل سواء كان عقلاً إلحاديّاً أو تأليهيّاً، بشرط أن يحافظ على عقلانيّته، ولذا فالعلمانيّة تنسجم مع الفكر المثالي ليس بأقل من انسجامها مع الفكر المادي، وهي -مثلاً- يمكن أن تتوافق إلى أبعد الحدود مع فلسفة تأليهيّة كالربوبية (Deism) التي تقول بإله سببي يصنع العالم.. ثم يعطيه الاستقلاليّة، ولا يتدخّل فيه بعد إتمام عمليّة الصنع.
إذا ما البديل؟
البديل الإنساني - كما ثبت حتّى الآن- لا يكون بدين بلا عقل، أو يقلّص دور العقل، ولا يكون أيضاً بعقل بلا روح.. أو بعقل بلا مركزيّة إنسانيّة!
البديل المطلوب هو منهجيّة فكريّة متوازنة تتكامل فيها العقلانيّة والروحانيّة، ويتوازن فيها العقل مع الروح، وبلا هذين التكامل والتوازن لا يكون ثمّة عقلانيّة أو روحانيّة حقيقيّتين، فالروحانيّة لا يمكن أن تقوم بلا قاعدة عقلانيّة، ولن تكون بغير ذلك إلّا تركيبة من التصوّرات والخيالات في أحسن أحوالها.. ولن تكون في المحصّلة إلّاً نوعاً من أنواع الأساطير، والعقلانيّة عندما تفقد البعد الروحي.. تفقد معه البعد الإنساني، وعندها يفقد العقل عقلانيّته، ويتحوّل إلى مجرّد أداة وظيفيّة خطيرة.. يمكن توظيفها لخدمة أخبث وأحطّ الأغراض المعادية كليّاً للإنسانيّة.. كما هو حال علماء أسلحة الدمار الشامل مثلاً.
هنا قد يحتجّ الماديّون -وهم محقّون في ذلك- ويقولون للمفكرين الروحيّين عليكم أن تثبتوا أوّلاً أنّ "المبدأ أو القطب غير المادي في الوجود" سواء أسميتموه روحاً أو إلهاً أو عقلاً كونيّاً، وهلمّ جرّى موجود بحدّ ذاته، وإلّا لن تكون أيّة روحانيّة مزعومة إلّا بناء على رمال متحركة.
هذا صحيح تماماً، وهذه مهمّة أولئك العقلانيّين الذين لديهم القناعة الكافية بأنّ "الفكر المادي"، رغم كلّ ما فيه من ذكاء، غير كاف البتّة لتأسيس النموذج الإنساني السليم.
بالطبع بالنسبة لكثير من أتباع أو أنصار الفكر المادي، سيبدو هذا الطرح، وكأنّه ضرب من الشعوذة التي تستحق الرجم، وهذا شكل من أشكال التعصّب، وعليهم ببساطة أن ينظروا إلى الواقع في المجتمعات المتقدّمة، وسيجدون حقيقيتين جليّتين، أولهما هي استمرار وفاعليّة الأديان التقليديّة ونمو المعتقدات الدينيّة غير التقليديّة والمدارس الروحيّة المختلفة في هذه المجتمعات، ولا سيما على مستوى الطبقة الوسطى، ما يدلّ بشكل مؤكّد على أنّ الإنسان لديه حاجات روحيّة مثل ما لديه حاجات جسديّة، وثانيهما هو أنّ الفكر المثالي بتنوّعات مدارسه الفلسفيّة أيضاً ما يزال موجوداً وبقوّة، وهذا نتاج عقل.. عقل فلسفي، وليس تصوّرات وأوهام لاعقلانيّة.
خلاصة:
كما سلف الذكر.. هذه المقالة لا تهدف إلى الدفاع عن نمط فكري أو معتقدي محدّد أو الترويج له، أو النيل بشكل محدّد من سواه، وما تهدف إليه بشكل رئيس هو المساهمة في تجاوز ما اعتدنا على السكوت عنه، أي مسألة أو مشكلة الدين، أحد أقطاب "الثالوث المحرّم".. فالدين يجب ألّا يبقى في موضع الحصانة، ويجب أن يخضع للنقد بدون أيّة قيود، كما يجب أن يتمّ نقد وتجاوز كلّ القيم والأعراف المبنيّة عليه والمستندة إليه، ويجب أن يتوقّف عن لعب دور الآمر أو الوصي في المجتمع وأن يكفّ عن احتلال موقع السيادة على المجتمع، وبدلاً عن ذلك يجب الاعتراف بالدين كخيار من خيارات ثقافيّة وعقائديّة متعدّدة، والقبول التام بمساواة الدين مع كلّ أنماط التعدّد والاختلاف العقائدي والفكري الأخرى بما في ذلك الإلحاد، وإسقاط أيّة وصمة عنها أو انتقاص موجّه ضدها، فبدون مثل هذه المساواة لا يُبنى عالم إنساني حضاري حقيقي، وسيبقى الاختلاف سبباً للخلاف ومن ثمّ الخصام والصراع، وكلام مشابه يمكن قوله عن الانعكاس السيء لهيمنة الدين، أو هيمنة دين محدد، في المجتمع على الحريّات، بما فيها حريّة العقل الجوهريّة للتقدّم والتطوّر.. بما هي شرط لازم لنمو العلم ونماء الثقافة.. ولتنشئة الإنسان كذات فاعلة بنّاءة في حياته الخاصّة والحياة العامّة معاً.
عدا عن ذلك، أيّ النقد السياسي لدور الدين الاجتماعي، فالمقالة أيضاً توجّه نقداً بنيويّاً ووظيفيّاً لكلّ من الدين والإلحاد على حدّ سواء.. وتنطلق من التجربة التاريخيّة غير الناجحة لكلّ منهما لتتلمّس ما يمكن أن يكون بديلاً حقيقيّاً أفضل لتجاوز حدود الفشل في تأسيس النظام الاجتماعي الإنساني الأفضل، دون أن تُنكر الحسنات الموجودة في التوجّهات المعتقديّة والفكريّة المختلفة.. وما تمّ تحقيقه من عناصر النجاح الإنساني حتّى اليوم.
وعليه يمكن القول أنّه أمامنا سبيلان لا ثالث لهما، أولهما هو سبيل للسلام والحياة الكريمة، ويتمثّل بالاعتراف بالاختلاف الإنساني، وبحقّ كلّ إنسان في أن يختلف ويكون حرّاً في ما يختلف فيه.. إن هو اختلف عن سواه؛ أمّا الآخر فهو سبيل الصراع والدمار القائم على وهم حيازة الحقيقة الكاملة المطلقة، والسعي بناء على ذلك إلى إلغاء أو تهميش المختلفين... فإمّا أن نكون متساوين متعايشين متعاونين، أو نكون متنازعين متصارعين في عبوديّتنا لأصنام خلافاتنا، فنجعل من الاختلاف سبباً للدمار المتبادل، بدلاً من أن نجعله سبباً لإغناء وإثراء الحياة.