info@suwar-magazine.org

إرث الديكتاتورية الذي لم ينتهِ بعد

إرث الديكتاتورية الذي لم ينتهِ بعد
Whatsapp
Facebook Share

 

 

من الظواهر المؤسفة التي ما تزال مستمرة بشكل لافتٍ للنظر حتى اليوم، حتى والصراع في سوريا يوشك أن ينهي عامه العاشر، هي ظاهرة "السلبية" عند فئة واسعة من الناس، فهذه الفئة الكبيرة ما زالت تعيش كما كانت تعيش قبل بداية الربيع العربي والانتفاضة السورية خانعة مستسلمة، وليس لديها أدنى استعداد للدفاع عن حقوقها، حتى في المواقف البسيطة، التي يتطاول عليها فيها بعض الخبثاء غير الخطرين فعلياً، والتي يكفي فيها في معظم الأحيان بعض التكاتف الأهلي لوضع حد لهم، ولو كان الأمر يتعلق بمواجهة جريمة منظمة أو تشبيح أو غطرسة أمنية أو ما شابه، لأمكن إيجاد نوع من العذر لها بذريعة عدم تكافؤ موازين القوى، ولكن يبدو أن وضع هؤلاء يمكن إيجازه بالقول "أن تكون خانعاً يعني أن تكون خانعاً بلا حد"!

 

هذه الظاهرة تقابلها ظاهرة معاكسة تتمثل باتساع نطاق الجريمة المنظمة، وغير المنظمة، وأعمال الزعرنة، وما يشبه ذلك، ما يدل على تدنٍّ واضح في مستوى الأخلاق العامة.

 

كلتا الظاهرتين لهما جذورهما التي تمتد بعيداً إلى ما قبل عام 2011، لكن التعامل معهما إلى الآن ما يزال، حتى من قبل كثيرين في الوسط الثقافي، يجري بنفس الأسلوب الذي كان يجري قبل عام 2011، الذي كان يتم فيه لوم الشعب وذمّه على سلبيته أو على ما يحدث من أعمال وسلوكيات غير أخلاقية، حتى ما كان يحدث منها على المستوى الرسمي في أجهزة ومؤسسات الدولة، حيث كان الشعب هو من يُحمّل مسؤولية فساد المسؤولين الرسميين، وليس "الدولة" التي تحتضن، وتحمي هؤلاء الفاسدين وتعطيهم سيفها ليضربوا به، وبشكل تكون أقسى ضرباته موجهة إلى الشرفاء والوطنيين الحقيقيين الذي يسعون بصدق لمحاربة الفساد والدفاع عن الوطن، وعن الدولة لتكون دولة وطنية، وحامية للوطن، وليس راعية للفساد.

 

كثيراً ما كنا نسمع أصواتاً تَصِمُ الشعبَ بالتخنث، والخصاء والنفاق، وقلة الشرف وقلة العقل، والغوغائية وهلم جرى، وحقيقة لم يكن ذلك كله كذباً، فقدر كبير مما تقدم كان موجوداً ومتنامياً قبل عام 2011، وحاله لم يتغير بالنسبة لشريحة واسعة من الناس حتى اليوم، إن لم يكن قد تغير باتجاه الأسوأ!

 

غالبية أصحاب تلك الأصوات، لم يكونوا يشيرون ولو بهمسة إلى دور منظومة الحكم القائمة في كل ما تقدم، وإن هم فعلوا فهم كانوا يتحدثون عن فساد المسؤول بصفته الشخصية، التي ترجع أسبابها-برأيهم- إلى عوامل تربوية فاسدة يتحمل وزرها الأسرة والمجتمع، أما "الدولة" فهي بريئة، بل وضحيّة، والشعب هو الجاني وفقا لذلك الرأي.

 

 

هذه الآراء بعضها كان يطرح بشكل متعمد لتضليل الناس، وتبرئة المذنب الحقيقي، وتحميل مسؤولية الفساد إلى مذنب هو فعلياً الضحية، وبعضها كان ينساق بشكل غير واع مع هذه الدعاية المضللة.

 

فعلياً ليس هناك شعب في العالم أو التاريخ يتصف بطبيعته بالصفات المخزية التي تم ذكرها أعلاه، وليس هناك ثقافة شعبية تتميز بها بشكل خاص بدورها، فهذه آفات اجتماعية تصيب كل المجتمعات، والشعوب عندما تتوفر لها العوامل والظروف المناسبة!

 

فإذا تحدثنا عن حال الشعب السوري، وبحثنا عن سبب تفشي تلك الآفات في ثقافته الراهنة، فماذا يمكننا أن نقول؟

 

عندما نُحَمِّل المسؤولية لشخصية ما، فيجب التأكد  قبل كل شيء أننا نتحدث عن شخصية لها وجود حقيقي متكامل، وقادرة على اتخاذ القرار والفعل، إذ لا يلام مثلاً شخص لا يتقن السباحة على عدم إنقاذه شخصا آخر يغرق، فهو ببساطة لا يملك القدرة على ذلك!

 

فإذا لُمْنا الشعب السوري على سلبيته مثلاً، يجب أن ننظر في ما إذا كنا في حال ينطبق عليه المثال السابق أم لا!

 

واقعياً لكي يقوم أي شخص بأي عمل فهو يحتاج عدا عن إرادة القيام بذلك العمل إلى الصلاحية، أو السماحية وإلى أدوات وخبرة ليقوم به، والشعب لكي يتصرف كشعب ويتخذ موقفه كشعب فيجب أن يكون لديه الصلاحية والأدوات والخبرة اللازمة لذلك، فهل كان هذا متوفرا للشعب السوري؟!

 

قبل الإجابة عن ذلك، دعونا نتأمل قليلاً في مفهوم الشعب نفسه!

 

فعليا لكي يتكمن الشعب من القيام بمبادرات أو باتخاذ مواقف، فيجب أن يكون لديه كل مقومات الكون شعباً فاعلاً!

 

لكن ماذا يعني الكون "شعباً فاعلاً"؟!

 

الكون شعباً بالمفهوم المنطقي الحديث يعني الارتقاء في الاجتماع فوق البنى الجماعية الدنيا مثل القبيلة والقوم والعشيرة والطائفة وما شابه، وتجاوزها إلى حالة من الارتباط الإنساني الأعلى بين الأفراد، ما يعني أن الشعب هو جماعة إنسانية تقوم على الرابطة الإنسانية، التي لا يمكنها أن تكون كذلك إلا إذا كانت رابطة عقلانية بنفس الوقت، ولا تقوم على روابط الانتماء الفئوي، أو النسب التقليدي، أو الإيمان الاتّباعي كما هو الحال في الجماعات الأدنى.

 

اقرأ أيضاً:

 

 

هذا يقتضي لكي لا يتحول الشعب إلى كتلة من الأفراد منفرطة العقد عند تجاوز البنى الدنيا أن يمتلك الشعب البنية البديلة الأعلى، التي تتمثل في وعي نفسه كشعب واحد له كيانه وهويته، وفي امتلاكه لفعالية هذه الكيان، التي لا يمكنها أن تتحقق إلا بوجود الهيكلية المنظمة والفعل المنظم، ولكي يمتلك الشعب هيكلاً تنظيمياً، ويكون قادراً على الفعل المنظم، فهو يحتاج إلى التنظيم أو المنظمات والمؤسسات.

 

في الحالة الديمقراطية، وهي الشكل الاجتماعي الأرقى لحالة الانتظام الشعبي، لا يمكن لـ "حكم الشعب" أن يتحقق إلا إذا كانت الدولة هي "دولة الشعب"، أي عندما تتحول الدولة نفسها إلى هيكل تنظيمي محوري يشكل العامود الفقري لمنظومة الانتظام الشامل المفتوحة التي ينتظم من خلالها الشعب، والدولة هنا لا تكون الإطار الوحيد الناظم للشعب، ولكنها تكون نواة وقاطرة عملية التنظيم، التي تدخل فيها مختلف أشكال التنظيمات السياسية والمدنية وسواها بشكل مستقل عن مؤسسة الدولة.

 

في الحالة الديكتاتورية تتضخم الدولة، وتهيمن أو تقضي على كل ما عداها من أشكال تنظيمية أخرى، وبما أن الديكتاتورية والفساد هما دوماً قرينان لا ينفصلان، ففي الحالة الديكتاتورية يفقد الشعب فعلياً بنيته الناظمة وقدرته على الفعل، ويتحول إلى "شعب مع وقف التنفيذ".

 

عند تحليل الحالة السورية، نجد أن الشعب السوري لم ينضج ويرتقي بعد  بالقدر الكافي إلى مستوى "الشعب الحديث"، فما تزال "أشكال الجماعة الدنيا" كالطائفة والقبيلة والإثنية وسواها حاضرة بقوة، وهذا له تأثير معرقل كبير على نمو أشكال الاجتماع الحديثة، سواء بسبب وجود هذه البنى التقليدية كبنى مادية حادة لا تتوافق مع أشكال التنظيم الحديثة، أو بسبب وجود ثقافة تقليدية متطابقة معها تنعكس أيضاً بشدة سلبية على إنتاج الانتظام الحديث المقتضي بدوره لثقافة حديثة!

 

تلك هي الناحية الأولى، وهي على درجة كبيرة من الأهمية والخطورة، أما الناحية ثانية وهي الأهم والأخطر بشكل جد راجح، فهي تتمثل بشكل الدولة القائم، وهو شكل دكتاتوري، استبدادي فاسد.

 

إذاً علام سيلام الشعب وهو محكوم بدولة قامعة تعرقل تطوره ونموه، ومحروم بالتالي من كل أشكال التنظيم السياسي والمدني الفعلية، التي يمكنه من خلالها أن يعبر عن نفسه كشعب، ويتصرف كشعب؟ فحين تكون الأحزاب السياسة والتنظيمات المدنية ملاحقة أو مقيدة أو مستتبعة، ويكون العمل السياسي والمدني ممنوعاً أو هامشياً، ويكون الإعلام والثقافة محاصران ومجيران لصالح منظومة الحكم المستبدة القائمة، فبأية آلية سيعمل الشعب في حالة يكون فيها العمل الجماعي أو الجماعوي ممنوعاً؟

 

فقدان هذه الآلية التي يُفقد معها العمل الجماعوي، تتحول بعد فترة إلى حالة من العجز عن القيام بعمل جماعوي، ويًفقد فيها الإحساس بوجود الجماعة سواء كقوة موحدة فاعلة، أو كبنية جمعية لها مصلحة واحدة.

 

هذه الحالة من فقدان القدرة على العمل الجماعي، تنمّيها وترسخها أيضاً حالة القمع، التي تنشر الخوف، وترسخ لدى الفرد "ثقافة السكوت"، وهكذا نصل إلى حالة يتحول فيها ما "يسمى بالشعب" إلى كتلة من الأفراد الخائفين المعتادين عن السكوت، والفاقدين لآليات العمل الجماعي وللإحساس بالجماعة، والمفتقدين إلى القدرة والخبرة في ميدان العمل الجماعي، وعندما تتكون وتتوطد مثل هذه الحالة، فهي تصبح حكماً حالة عامة، وتنسحب على كل المواقف الكبيرة والصغيرة، ويتعود فيها الناس على هدر حقوقهم وعدم المبالاة حتى بهذا الهدر، ما يجعلهم خانعين إلى درجة أن عشرات منهم مثلا لا يستطيعون -أو لا يتجرؤون- في حافلة نقل عامة على الطلب من مدخن جاهل أو سافل أن يطفئ سيجارته حفاظاً على صحتهم وصحة ما بينهم من أطفال، ورغم وجود قانون نظري إلى جانبهم، ولكنه هو الآخر قانون مع وقف التنفيذ كجل القوانين في حالة الاستبداد والفساد، وهذا ما ينمي وبقوة أيضا حالة الاستلاب والسلبية هذه.

 

 

لكي يكون الشعب، أي شعب، شعباً فاعلاً، فهو بحاجة قبل كل شيء إلى "دولة شعب"، تعمل لصالح الشعب وتقوده وتنظم جهوده وقواه، لتتمحور حولها، وتستند عليها كل أشكال التنظيم الأخرى المستقلة عن مؤسسة الدولة التي ينشئها الشعب على كافة المستويات والصعد، وبوجود مثل هذه الدولة القائدة، يمتلك الفرد الإرادة والقدرة على الدفاع عن المصلحة العامة، والحقوق الإنسانية عبر العمل الجمعي، ويصبح الشعب قادراً على العمل الجماعي، أما عندما ما تكون الدولة مستبدة، وفاسدة بنفس الوقت بالتالي، فهي تفعل العكس تماماً، فتقضي على روح المبادرة لدى الفرد، وتقضي على إمكانية وقدرة وإرادة العمل الجماعي عند الشعب.

 

أما فيما يتعلق بانتشار وتفشي ظاهرة التردي الأخلاقي، فهذا أيضاً تلعب الدور الأساسي فيه الدولة عندما تكون دولة فساد واستبداد، فهي بدلاً من أن تكافح الفساد، تفعل العكس وتتحول إلى منتجة، وحاضنة وحامية له، وهي أيضاً تثبط قدرة الشعب نفسه على مكافحة الفساد، وتحوله هو أيضاً إلى بيئة خصبة لنموه، وفي مثل هذه الظروف حُكماً ستتدنى الأخلاق، وبقوة على المستويين الرسمي والشعبي.

 

هذا ما تفعله الديكتاتورية، أما الديمقراطية فهي على العكس من ذلك، فالدولة فيها تكون دولة سليمة وتقوم بواجباتها، التي تدخل مكافحة الفساد في عداد مهماتها الكبرى، وهذه الدولة التي تكون تحت رقابة الشعب الفعلية التي تلزمها بالقيام بواجباتها، لا تكافح الفساد فقط عبر ملاحقة الفاسدين عند ظهورهم، فهي بإداراتها الصالحة للمجتمع تقوده للتطور على كافة الصعد، وهذا تلقائياً يجفف الكم الكبير من منابع الفساد، كما أن هذه الدولة التي لا تصادر إرادة الشعب بل تنميها وتعززها، تعطي شعبها القدرة الأكبر ليساهم هو نفسه معها بدور أساسي في التصدي للفساد، وفي مثل هذه الظروف يمكن للأخلاق أن تنمو وترتفع على شتى الصعد.

 

بالنسبة لشعبنا السوري الذي قضى عقوداً تحت نير الاستبداد، لا يعود غريباً أن تتدنى قدرة هذا الشعب على العمل الجماعي المبادر والدفاع عن حقوقه، والتصدي للفساد، ولا يستغرب أن يتحول الفرد على نطاق واسع إلى كائن مستلب فاقد الثقة والإرادة في مجال أي عمل نضالي أو جماعي!

 

هذا ما كان الحال عليه قبل عام 2011، وبعد أكثر من عشرة أعوام من العنف المدمر، فليس غريباً أيضاً أن تزداد تلك الأحوال سوءاً على مستوى شريحة واسعة من الناس.

 

وِزْرَ كل هذا تتحمله السلطة المستبدة الفاسدة، التي كان فسادها واستبدادها العاملين الأكبرين في الكارثة التي وقعت فيها البلاد!

 

وهذه طبيعة كل نظام حكم مستبد، فالاستبداد لا يستقيم إلا بمصادرة قدرة الشعب والفرد على العمل البناء المبادر، وشل إرادة الناس وثقتهم بالقيام بمثل هذا العمل، ثم تحميلهم ذنب كل الفساد، والتردي الناجمين عن سياسة الحكم المستبد، وإقناعهم بهذا الذنب!

 

مع ذلك، فلم يكن الشعب السوري بهذه السلبية المعيبة التي يحلو للبعض تصويره فيها، وقد قام بالعديد من التحركات لمواجهة الاستبداد الحاكم، ومن أشهر هذه التحركات حركة "ربيع دمشق" في مطلع الألفية الجديدة، وانتفاضة 2011 التي بدأت كحركة سلمية، قبل أن يدفعها تعنت السلطة الحاكمة وتدخلات القوى الخبيثة المغرضة من الداخل والخارج في مجرى العنف!

 

واليوم، ورغم كل مأساوية الظروف، فثمة تغير جوهري إيجابي ينمو بدوره على نطاق واضح، ويكتسب فيه الناس القدرة أكثر فأكثر على المبادرة واتخاذ الموقف الفاعل!

 

هذا ما لا تراه، أو لا تريد أن تراه، تلك الأصوات التي لا تعلو إلا لذم وشتم الشعب السوري!

 

وهي أصوات سبق لها أن وقفت بشكل محموم ضد "ربيع دمشق" في مطلع الألفية الجديدة، واعتبرته مؤامرة خارجية معادية، ونفس الشيء فعلته مع "انتفاضة 2011" منذ لحظاتها الأولى، ما يعني أن هذه الأصوات تعاني من عاهة مستفحلة على مستوى العقل أو على مستويي الشرف والضمير، وهي أصوات غارقة في العار سواء كانت تتعمد ما تقول وتتغياه خبثاً أو لا تتعمده وتتكلم جهلاً، وهي في المحصلة أبواق ينفخ فيها الاستبداد والفساد!

 

وخلاصة الكلام هي أن كل مظاهر الاستلاب والانحطاط الأخلاقي هي في مجتمعنا السوري وسواه من المجتمعات العربية وغير العربية مرتبطة بشكل رئيس بالديكتاتوريات، وهي ستبقى وتنمو ما بقيت الديكتاتوريات، ولن تنتهي إلا بانتهائها وإرساء الديمقراطية، وبما أن هذا ليس بقريب سورياً وعربياً حتى الآن، فستستمر معاناة هذه الشعوب من نتاج وإرث الديكتاتورية، وما فيه من استلاب واستسلام وانتشار للفساد وتردي القيم.

 

  

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard