الإلحاد وتشريعات المنطقة العربيّة
لاتزال مسألة الإلحاد من التابوهات العديدة في المنطقة العربية التي تتنهك بشدّة حرية المعتقد على الصعيدين التشريعي والاجتماعي. ويختلف الإلحاد عن الردّة عن الإسلام، وذلك على الرغم من الترابط الوثيق بينهما فيما إذا كان معلن الإلحاد من المنتمين بأوراقه الرسمية إلى الدين الإسلامي. فقد يُتهم بالردّة ليس فقط المسلم الذي يُعلن إلحاده، إنما أيضاً فئات أخرى كالمسلمين بالولادة الذي يسعون إلى الانتماء إلى أديان أخرى مُعترف بها أو محظورة في الإسلام، فضلاً عن الذين يفسّرون الدين الإسلامي بطريقة غير تقليدية أو حتى من يجدّف بالله ويُتّهم بازدرائه للدين الإسلامي أو تركه للصلاة. في حين يمكن أن يكون الملحد من المنتمين بأوراقه الثبوتية إلى غير الدين الإسلامي، وهو الشخص الذي لايؤمن بأي دين ولا يعتقد بوجود الآلهة. فليس بالضرورة أن يكون الملحد من المرتدين عن الإسلام، بينما يعدُّ الملحد المنتمي إلى الإسلام بأوراقه من المرتدين.
كما هو الوضع بالنسبة للمرتدين، يسبّب التقييد على الملحدين في المنطقة العربية بانتهاك حقين أساسيين يشكلان صلب حقوق الانسان، وهما كل من حرية المعتقد وحرية التعبير، لا سيّما عن الآراء الدينية. هذا ومن المعروف بأنّ الدين يُفرض على مواطني الدول العربية بحسب ديانة أسرهم، دون أن يتمكنوا لاحقاً من اختيار دين غير معترف به رسمياً أو بترك الإسلام أو الإلحاد. ويترتّب عن الانتماء إلى الدين آثاراً قانونيةً جمّةً، لا سيما على صعيد الأحوال الشخصية التي تتنوع فيها القوانين والمحاكم تبعاً لديانة الشخص، فضلاً عن فرض مواد تعليمية دينية بحسب دين الطفل وأحياناً اشتراط انتماء ديني لتبوّء بعض المناصب.
تختلف عقوبة الملحد من بلدٍ عربيٍ إلى آخر، وقد تصل حدّ الإعدام في ظلّ أنظمة ذات أيديولوجية إسلامية متطرّفة، في حين قد يتم تجريد الملحد في بلدان أخرى من حقوقه السياسية والمدنية، لاسيما حرمانه من الميراث والتفريق قسراً عن زوجه. وإذا كان الوضع القانوني للملحد ملتبساً، فيعود ذلك إلى غياب تشريعات إيجابية وصريحة تجرّم وتحظر الإلحاد في أغلب الدول العربية. مع ذلك يلجأ القضاة عادةً إلى فكرة النظام العام، التي غالباً ما تُعدُّ الشريعة الإسلامية أحد أركانه الرئيسية، وذلك لمنع العدول عن الدين الإسلامي أو التسجيل في خانة الديانة (لاديني) أو (ملحد). كما أنّ اعتبار الإسلام كدين للدولة أو الشريعة الإسلامية كمصدر للتشريع في أغلب الدساتير العربية من شأنه أن يؤدي إلى منع الجهاز القضائي من قبول إجراءات تتعارض والتفسير التقليدي للدين الإسلامي الذي يحظر ترك الإسلام أو الإنتماء إلى غير "الديانات السماوية" المعترف بها.
وفي قرار قضائي صادر في 13/5/1985، ردّت المحكمة الابتدائية في القاهرة طلب إمرأة مسيحية في محاولة ترك دينها لاعتناق "الدين الفرعوني" وبالتالي استبعاد القانون الكنسي الذي يحظر فسخ الرابطة الزوجية. وقد جاء في قرار المحكمة بأنّ "الشريعة لا تسمح بالزواج بين ذمّي وملحدة أو معتنقة لدين غير سماوي"، وأوضحت بأنّ الإلحاد ليس ديناً معترفاً به في مصر. وبهذا قد لا تُطّبق عقوبة بحق الملحد، مسلماً كان أو غير مسلم، ولكن لايُسمح له في جميع الأحوال بتغيير ديانته في أوراقه الثبوتية.
اقرأ أيضاً:
وتبدو التشريعات أوضح فيما يخصّ الردة عن الإسلام التي تجرّمها صراحة العديد من القوانين الجنائية العربية، بينما تصمت هذه القوانين عن ذكر مصطلح "الإلحاد". فجاء مثلاً في المادة 259 من قانون العقوبات اليمني على أن "كل من ارتد عن دين الإسلام يعاقَب بالإعدام بعد الاستتابة ثلاثًا وإمهاله 30 يوماً، ويعتبر ردةً الجهر بأقوال أو أفعال تتنافى مع قواعد الإسلام وأركانه عن عمد أو إصرار، فإذا لم يثبت العمد أو الإصرار وأبدى الجاني التوبة فلا عقاب". وحتى في ظلّ غياب النصّ القانوني المجرّم لكل من الردّة والإلحاد، غالباً ما يُطبقّ بحق هذه الفئة من الأشخاص تهماً جنائيةً ذات صلة كزعزعة الأمن العام أو ازدراء الأديان أوالإساءة إلى الإسلام. ويبدو بأنّ ازدياد المعلنين عن إلحادهم في وسائل التواصل الاجتماعي يحثّ الأجهزة التشريعية على التصدي لهذا النقص التشريعي، كما حدثَ عام 2018 في البرلمان المصري الذي ناقشَ مشروع قانون تجريم ظاهرة "الإلحاد"، ولكن لم يعتمده حتى يومنا هذا.
ويستند النظام القضائي في المشرق العربي على مواد نصّت عليها صراحة قوانين الأحوال الشخصية، وأخرى تلزم القضاة بالرجوع إلى الرأي الثابت لأبي حنيفة في حال غياب النصّ القانوني، وبهذا يأخذون بالنصوص الواردة في كتاب قدري باشا التي تفرض قيود على تغيير الديانة (أنظرالمواد 31-32، 120-130 و 303-309-382). ومن المواد الصريحة التي تتعلق بتغيير الدين والردّة والتي تطبّق حتماً في حالات إلحاد المسلمين، ما تضمنه قانون الأحوال الشخصية الأردني لسنة 2010 الذي تحرّم مادته 28 "زواج المرتد عن الإسلام أو المرتدة ولو كان الطرف الآخر غير مسلم"، وتلزم مادته 48 المرأة المرتدة بإعادة المهر، وتشترط المادة 171 في مستحق الحضانة بأن لا يكون مرتداً.
في ظلّ الاقتتال والاحتقان الديني والطائفي الذي تشهده الكثير من الدول العربية، لا بدّ من اتخاذ إجراءات على كافة الأصعدة ليتاح ضمان حرية المعتقد التي تشتمل على عدم الانتماء لأي دين والحق في الإلحاد. في هذا الإطار يجب التوقف عن فرض أنظمة تعليمية وقوانين دينية، لاسيما في مجال الأحوال الشخصية، على أشخاص لايؤمنون بها. كما لابدّ من السماح لهكذا أشخاص، أسوة بغيرهم، بالتعبير عن معتقداتهم وآرائهم بالدين من دون التعرض لأية عقوبات أو تقييدات. سيؤثّر حتماً احترام الحق في حرية المعقد بالحدّ من الاحتقان الديني، لاسيما من خلال تجاوز الانتماءات الدينية وبالتالي تعزيز الانتماء الوطني في ظلّ دول مدنية قائمة على المساواة التامة بين مواطنيها بصرف النظر عن معتقداتهم.