info@suwar-magazine.org

ربيع براغ .. الدرس الذي لم يفهمه اليسار التقليدي حتى اليوم

ربيع براغ .. الدرس الذي لم يفهمه اليسار التقليدي حتى اليوم
Whatsapp
Facebook Share

 

 

ألم يصبح ربيع براغ صفحة من صفحات الماضي؟

 

ولماذا علينا اليوم أن نتذكره بعد أكثر من نصف قرن على حدوثه، وبعد أن تغيّر العالم بشكل جذري عمّا كان يوم قيامه.

 

الجواب هو لا.. ليس هذا فقط لأنّ الذكرى الثالثة والخمسين لنهايته ستحلّ قريباً، ولا لأنّ الأيام العاصفة اللاحقة أثبتت كم كان هذا الربيع على حق، وكم كان السوفييت على خطأ، هذا إن لم يكونوا على باطل، بل أيضاً لأنّ الكثيرين من الشيوعيين ومن يشبهم من أصحاب الذهنيّات اليساريّة الدوغمائيّة ما زالوا يحملون نفس الفكرة التي استخدمها السوفييت للقضاء على هذه الحركة، وهي "نظريّة المؤامرة" التي يسقطها اليوم وبشكل ميكانيكي بحت مثل هؤلاء اليساريّين -والأصح "اليسارويّين أو اليسارجيّين"- من العرب والسوريّين، الذين يعلنون باستمرار وبأعلى الأصوات أنّ الربيع العربي هو نسخة جديدة من ربيع براغ، لها نفس الصانع والآليّة والهدف و"الاسم".

 

هؤلاء بالطبع سيسارعون إلى "تخوين أو تسفيه" هذا المقال، ووضعه في خانة العداء للاشتراكيّة أو العمالة للإمبرياليّة، وهذا ليس غريباً عن ذهنيتهم التكفيريّة، التي لا ترى في كلّ ما أو من يخالفها إلّا رجساً من عمل الإمبرياليّة الرجيم، وأمام حديث عظيم جلل كسقوط الاتحاد السوفييتي.. اكتفت هذه الذهنيّة القزمة بتقديم تفسير قزمي سخيف لهذا السقوط، وهو أنّه تمّ بمؤامرة غربيّة قادها ونفذها العميل غورباتشوف، ولم تكلّف هذه الذهنيّة المتخشّبة نفسها عناء التحليل النقدي العقلاني لهذه التجربة العظيمة رغم كلّ عيوبها، فصغّرتها وأهانتها لدرجة جعلتها فيها ألعوبة في يد متآمرة!  

 

1-نظرة موجزة على ربيع براغ:

 

في العشرين من شهر آب الحالي ستحلّ الذكرى الثالثة والخمسون لعمليّة "الدانوب" التي قامت فيها قوات سوفييتيّة مدعومة بقوّات حليفة من حلف وارسو من بولونيا وبلغاريا والمجر وألمانيا الشرقية باجتياح تشيكوسلوفاكيا للقضاء على حركة الإصلاح التي كان يقودها الأمين العام للحزب الشيوعي التشيكوسلوفاكي ألكسندر دوبتشيك (بالسلوفاكية: Alexander Dubček)، المتخرّج من مدرسة الحزب العالي في اللجنة المركزيّة للحزب الشيوعي السوفيتي، والتي كان يسانده العديد من الشيوعيّين الإصلاحيّين التشيكوسلوفاكيّين، وأطلق عليها تسمية "ربيع براغ"، وفي عمليّة الدانوب تمّ اقتحام تشيكوسلوفاكيا من عشرين موقعاً من أربعة جهات بقوّات تتألّف من ثلاثين فرقة سوفييتيّة مدعومة بوحدات بلغاريّة ومجريّة وبولنديّة وألمانيّة شرقيّة، وتضمّ حوالي 250 ألف جندي بقيادة سوفييتيّة وفقاً لبعض المصادر، أمّا الجيش التشيكوسلوفاكي فقد بقي في ثكناته خلال هذه العمليّة، وقدّ تمّت هذه العمليّة بعد حملة إعلاميّة معادية لإصلاحات دوبتشيك كان السوفييت من خلالها يريدون إيصال رسالة إلى دوبتشك توضّح له رفضهم لما يقوم به من إصلاحات، وبنفس الوقت تجهّز الرأي العام في بلادهم وفي بقيّة دول حلف وارسو وبين حلفائهم في بقيّة العالم لإجهاض حركته بالقوّة، وتبرّر استخدام هذه القوة.. عندما يقتضي الأمر ذلك.

 

 

لم يتوقّف دوبتشيك الذي كان يؤيّده الكثير من الإصلاحيّين، ولاسيما في أوساط المثقّفين والكتّاب والطلّاب، عن إصلاحاته، رغم ما أبداه السوفييت من استياء ضدّها، فتمّ في النهاية اجتياح تشيكوسلوفاكيا والسيطرة عليها خلال يومي 20  آب أغسطس 1968،  وبهذا الشأن يقول المعهد التشيكي لدراسات الأنظمة أنّ "قوّات الاحتلال قتلت 108 أشخاص وجرحت نحو 500 آخرين ما بين 21 آبأغسطس ونهاية كانون الأولديسمبر 1968".

 

في 5 كانون الثاني/ يناير 1968، انطلقت العمليّة الإصلاحيّة التي كان يقودها دوبتشك بعد تعيينه كأمين عام للحزب الشيوعي، بعد استقالة الزعيم التشيكوسلوفاكي أنطونين نوفوتني في يناير 1968 بسبب الأحوال المعيشيّة الصعبة وسوء الأوضاع الاقتصاديّة والخلافات في قيادة الحزب، والخلافات القوميّة بين التشيك والسلوفاك، وهذا ما أيّدته القيادة السوفييتيّة في البداية لأنّها كانت تخشى أن تؤدّي الظروف السيئة في تشيكوسلوفاكيا إلى تفجر الأوضاع فيها، وتجدر الإشارة إلى أنّ نوفوتني الذي استلم الرئاسة عام 1957، رغم أنّه كان محافظاً بطبعه، قام ببعض الاصطلاحات الاقتصاديّة وأصدر عفواً سياسيّاً عامّاً، وأعلن عام 1960 أنّه قد تمّ إنجاز بناء الاشتراكيّة في تشيكوسلوفاكيا.

 

بعد استلامه للسلطة زار دوبتشيك موسكو، ثمّ أعلن بعدها عن برنامجه الإصلاحي الذي طرح فيه مشروع "الطريق التشيكوسلوفاكي إلى الاشتراكيّة" الذي يقوم على مفهوم "الاشتراكيّة ذات الوجه الإنساني"، وركّز فيه على إلغاء وصاية الحزب على المجتمع، والحدّ من هيمنة الأجهزة الأمنيّة على الدولة، وإطلاق الحريّات الفكريّة والإعلاميّة والسياسيّة، فقام بـإلغاء الرقابة على الصحافة والتعبير، وأقرّ حريّة التنقل، وسعى لتحرير الاقتصاد من المركزيّة، ووضع دستوراً تمّ فيه تحويل البلاد إلى جمهوريّة فيدراليّة للمساواة بين شعبي التشيك والسلوفاك اللذين يشكلّان القسم الأكبر من سكّان البلاد، ورفع الحظر عن عمل الأحزاب الأخرى، وأعلن عن خطّة انتقاليّة مدّتها عشر سنوات يتمّ فيها تحوّل تشيكوسلوفاكيا إلى "اشتراكيّة ديمقراطيّة".

 

 

اعتبر السوفييت بزعامة بريجينف يومها هذا النهج خطيراً، ويمكنه أن يمتدّ إلى بقيّة الدول الاشتراكيّة الأخرى، وأن يزعزع استقرار المنظومة الاشتراكيّة، ولذلك قرّروا القضاء على هذه الحركة، التي استمرت سبعة أشهر، وفي ختام عمليّة "الدانوب"، أرغموا دوبتشيك على إيقاف إصلاحاته والتراجع عنها باستثناء تحويل البلاد إلى فيدراليّة، ولكنّهم أبقوه في منصبه كقائد شكلي للحزب الشيوعي حتى آذارمارس 1969، حيث أُقيل على أثر مظاهرات عنيفة ضدّ السوفييت، وخلفه الزعيم السلوڤاكي المتشدّد گوستاڤ هوساك (Gustav Husak)، وبعد ذلك عُيّن دوبتشك سفيراً في تركيا، ثم سُلّم من عام 1970 حتى 1986 دائرة الغابات في براتسلافا (عاصمة سلوفاكيا) بعيداً عن النشاط السياسي، لكنّه عاد إلى الأضواء من جديد بعد انهيار النظام الشيوعي عام 1989، وأُعيد له الاعتبار، فتسلّم رئاسة البرلمان التشيكوسلوڤاكي بعد ما يسمى بـ "الثورة المخمليّة"، وبعد انفصال سلوڤاكيا عن التشيك عام 1991، تسلّم رئاسة الحزب الاشتراكي السلوڤاكي في حزيرانيونيو 1992، وتوفي في تشرين الثانينوفمبر 1992 في براتسلاڤا في حادث سير.

 

تبريراً لاجتياحهم لتشيكوسلوفاكيا روّج السوفييت نظريّة مؤامرة مفادها أن ما يسمى بـ "ربيع براغ" لم يكن إلّا مؤامرة تخريبيّة دبّرتها الدوائر الأمنيّة الغربيّة ضدّ المعسكر الاشتراكي، وأنّ "الموقف في تشيكوسلوفاكيا كان مرشّحاً لتقويض منظومة الأمن العسكري القائمة في أوروبا الشرقيّة، ولذا قرّر الاتحاد السوفيتي في 16 آبأغسطس عام 1968 أن يزجّ بقوّات بلدان معاهدة وارسو في تشيكوسلوفاكيا لتنحية دوبتشيك من رئاسة الحزب الشيوعي وإعادة هذه البلاد إلى مجرى التطوّر السابق" كما تقول بوّابة روسيا اليوم، وفي الوقت الذي رفض فيه العديد من الشيوعيين ذوي الاستقلاليّة ولا سيما في أوروبا ما فعله السوفييت، فقد أيّد الشيوعيّون التابعون لموسكو أينما كانوا ما قامت به، وتبنوا وجهة نظرها، وما زالوا يدافعون عنها حتّى اليوم، ولذا ما يزال -مثلاً- العديد من الشيوعيّين الجبهويّين الموالين للنظام في سوريا وسواهم من الشيوعيّين التقليديّين يُصرّون على أنّ "الربيع العربي"، ومن قبله "ربيع دمشق" هما مؤامرتان من تدبير نفس الدوائر الأمنيّة الغربيّة التي تتلاعب بالمنطقة وفقاً لما يخدم مصالحها، ويدخل في عدّاد ذلك "ضرب الأنظمة الوطنيّة" على غرار النظام السوري في هذه المنطقة!

 

وبالتالي -فبرأيهم- كلّ من "ربيع براغ" و"ربيع دمشق" و"الربيع العربي" كلّها سواء في كونها فصولاً من نفس المؤامرة، تتمّ من قبل نفس المخرجين، بنفس السيناريوهات وبنفس الأسماء، ولنفس الغايات، ورغم اختلاف الأزمنة والظروف، فالتسميات نفسها تشهد!

 

2-هل كان "ربيع براغ" "مؤامرة غربيّة"؟

 

عند استلام دوبتشيك للسلطة، لم يكن المجتمع التشيكوسلوفاكي ينعم بالرخاء والرفاه والسلام، بل كان يعاني من أزمة متعدّدة الصُعد، وهذه الأزمة نفسها هي ما جعلت مقاليد السلطة تؤول إلى دوبتشيك نفسه، وأيّ قائد عقلاني ووطني في مكانه كان سيجد نفسه ملزماً بالبحث عن حل حقيقي لهذه الأزمة، وأن يجري الإصلاحات المناسبة، أمّا تجاهل الأزمة أو اللجوء إلى حلول زائفة فلا يفعله إلّا الحاكم الفاسد.

 

فهل تصرّف دوبتشيك كقائد وطني؟ وكلّ قائد وطني عليه أن يعطي الأولويّة لمصلحة بلاده؟

 

إذا ما نظرنا إلى الإصلاحات التي قام بها دوبتشيك، والتي قام فيها برفع القيود عن حريّات العمل الفكري والإعلامي والسياسي، وسعى فيها لتحرير اقتصاد بلاده من المركزيّة ومن التبعيّة للاقتصاد السوفييتي، وحاول فيها تحقيق المساواة بين القوميّات عبر فدرلة البلاد، وعمل فيها على رفع وصاية الحزب عن المجتمع والحدّ من هيمنة الأجهزة الأمنيّة على الدولة، فهل ثمّة بين هذه الإصلاحات أيّ إصلاح يمكن وصمه باللاوطنيّة وبخدمة مصالح الغرب؟

 

ولم لا يحقّ لدوبتشيك أن ينتهج نهجاً تشيكوسلوفاكيّاً خاصّاً في الاشتراكيّة، والماركسيّة نفسها تركّز كثيراً على التعامل مع الظروف الموضوعيّة بواقعيّة، ولينين نفسه أكبر مثال على "ترويس الماركسية" بما يتناسب مع ظروف روسيا التي لم تكن ناضجة صناعيّاً وعُماليّاً بقدر ألمانيا وبريطانيا اللتين رشحهما ماركس أكثر لحدوث الثورة الاشتراكيّة؟

 

وبالتالي يمكن القول أنّه ليس هناك أي خلل أخلاقي أو منطقي في توجّه دوبتشيك نحو خيار خاص في الاشتراكيّة!

 

أما عن الخطة الانتقاليّة لتحويل البلاد إلى دولة "اشتراكيّة ديمقراطيّة" خلال عشرة سنوات، فهذه قطعاً ليست بجريمة، وهي أمر صائب تماماً، فبعد أكثر من عشرين عاماً من تطبيق الاشتراكيّة القائمة على حكم الحزب الواحد بشكل رئيس وعلى الرقابة الصارمة على الأنشطة الاجتماعيّة والثقافيّة والسياسيّة، وبعد القضاء على الطبقيّة في المجتمع، هل كان يفترض تأجيل الحقوق والحريّات المدنيّة إلى ما بعد زوال الرأسماليّة في كلّ العالم مثلاً، وهذا يعني تأجيلها إلى زمن (لا يعلمه إلا الله).

 

مشكلة "الاشتراكيّة الديمقراطيّة" التي يمقتها ويحتقرها الشيوعيّون التقليديّون تكمن في أنّها تخلّت عن الخيار الثوري للوصول إلى الاشتراكية في الدول الرأسماليّة، واستبدلته بطريق ديمقراطي مزعوم مصمّم وفق معايير الرأسماليّة للديمقراطيّة الموضوعة فعليّاً لخدمة المصالح الرأسماليّة وحمايتها، وهذا يعني أنّ "الاشتراكيّة الديمقراطيّة" في الغرب الرأسمالي تتبع طريقاً ديمقراطيّاً إلى الاشتراكية مرسوماً بمعايير رأسمالية، وبالتالي يصبح هذا الطريق مستحيلاً فعلياً، ويصبح معه الأسلوب "الاشتراكي الديمقراطي" كاذباً.

 

لكنّ النظر إلى الاشتراكيّة الديمقراطيّة بهذا المنظور في مجتمع اشتراكي هو أمر غير صائب بتاتاً، فهي هنا لا تعود تبنٍّ لطريق زائف للاشتراكيّة، فالاشتراكيّة هنا محقّقة، وبالتالي تصبح الاشتراكية الديمقراطية في مثل هذه الحالة تبنٍّ لديمقراطيّة قائمة على أرضية اشتراكية، وتتكامل فيها الاشتراكية والديمقراطية، فتنشأ عن ذلك "اشتراكية ديمقراطية" أو "ديمقراطية اشتراكية"، تتكامل فيها كل من الديمقراطيّة والاشتراكية وتكمّل كلّ منهما الأخرى.

 

وطرح الانتقال إلى نموذج اشتراكي ديمقراطي يحافظ على حسنات الاشتراكيّة الاجتماعيّة والاقتصاديّة ويكاملها مع حسنات الديمقراطيّة المدنيّة والسياسيّة، بعد ترسيخ أسس اقتصاد لا طبقي في المجتمع والقضاء على الطبقيّة فيه ينسجم تماماً مع الفكر الماركسي، الذي لا يسعى قطعاً إلى تكريس ديكتاتوريّة البروليتاريا بشكل أبدي، وإنّما يهدف إلى إقامة مجتمع لا طبقي لا تعود  فيه البروليتاريا نفسها موجودة، ومجتمع متطوّر ومنظّم بما يكفي ليستغني عن الدولة نفسها كسلطة، وهذا المجتمع يسمى في الماركسية بـ "مجتمع الإدارة الذاتيّة الشيوعي".

 

وعليه ليس هناك أيّ دليل ولا أيّ مبرر قطعاً لوصم حركة "ربيع براغ" بالمؤامرة، بل يجب النظر إليها كحركة إصلاح وطني حقيقي مستحقّ، ومن يعتبرها مؤامرة هو متعصّب ومفتر ومعتد.

 

3- كيف نقيّم عمليّة "الدانوب"؟

 

بعد انتصار الثورة الاشتراكيّة في روسيا القيصريّة بقيادة فلاديمير لينين، أعطى لينين للشعوب التي كانت واقعة تحت الاحتلال القيصري الروسي "حقّ تقرير المصير"، وترك لها حرية الاختيار في أن تبقى مع الروس وتبني معهم النظام الاشتراكي، أو أن تستقلّ بنفسها وتبني دولتها الخاصّة بالنظام التي يناسبها، أي أنّه لم يضع الالتزام بالاشتراكيّة شرطاً لاستقلال هذه الشعوب، وفي النتيجة استقلت بولونيا، ولم تتبنّ النظام الاشتراكي بعد الاستقلال، وللينين مقالة هامّة في هذا الشأن كتبها عام 1914 بعنوان "حقّ الشّعوب في تقرير المصير" ودافع فيها عن البند التاسع من برنامج الماركسيّين الرّوس المنضوين في حزب العمّال الاشتراكي الديمقراطيّ الذي ينص "حقّ تقرير المصير لجميع الشّعوب التي تشملها حدود الدّولة"، أيّ الدولة الروسيّة حينها.

 

 

فإذا ما نظرنا إلى تشيكوسلوفاكيا خلال فترة ربيع براغ، فسنجد أنّها كانت تتمتّع بشخصيّة الدولة المستقلّة ذات السيادة، ويحكمها حاكم شرعي، ويحقّ لهذا الحاكم الشرعي أن يقوم بالإصلاحات التي يراها مناسبة طالما أنّ شعبه موافق عليها، وهو مسؤول أمام هذا الشعب وحده، ولا يحقّ لأيّة دولة أخرى أن تحاسبه على هذا، أو تتدخّل في شؤون بلاده، أو تفرض عليه إراداتها.

 

 ودوبتشيك كان حاكماً شرعيّاً في بلاده يومها، وحركته الإصلاحيّة كانت مؤيَّدة من قبل الكثيرين في بلاده، والشعب فيها كان موافقاً عليها، ولم تحدث ضدّها أيّة احتجاجات، وبالتالي فما كان يحدث في تشكيوسلوفاكيا حينها يندرج تماماً في نطاق الخيار الوطني والسيادة الوطنيّة، ولا يحقّ قطعاً لأيّ طرف خارجي أن يتدخّل فيه، كونه شأن خاص تماماً بدولة مستقلّة.

 

وعليه يمكن القول أنّ اجتياح تشيكوسلوفاكيا من قبل قوات الاتحاد السوفييتي وحلفائه في حلف وارسو كان ببساطة عدواناً على دولة مستقلًة، واحتلالاً لها، لا لشيء إلّا لأنّ هذه الدولة قرّرت أن تقوم بإصلاحات خاصّة تراها ضروريّة لمصلحتها.

 

 4- وماذا عن مصلحة المعسكر الاشتراكي وحلف وارسو؟

 

هنا قد يتمّ الاحتجاج ضدّ ما طُرح في الفقرة الآنفة، بأنّ تشيكوسلوفاكيا كانت عضواً في حلف وارسو، وعليها أن تلتزم بمصلحة هذا الحلف ككل.

 

وفي الرد على الاحتجاج يمكن القول ببساطة أنّه عليها أن تلتزم بمصلحة هذا الحلف ضمن حدود حريّتها وسيادتها الخاصيّتين، وليس رغماً عنها، وبشكل يضمن مصلحتها ولا يقدّم مصلحة الحلف على هذه المصلحة، ويحقّ لها متى أرادت حتى أن تنسحب بالكامل من هذا الحلف، ولا يحقّ لأحد منعها أو إجبارها على البقاء فيه، فهذا شرط من شروط حريّة وسيادة الدول وحقّ من حقوقها، ومؤخراً خرجت بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ولم يحاول أحد في الاتحاد الأوربي منعها من ذلك بأيّة قوة، ولا خطر ببال أحد فيه أن يغزوها ويُرغمها على البقاء فيه رغماً عنها.

 

مع ذلك يجب ألا نغفل واقع الأمر الخطير في تلك الفترة من الحرب الباردة، وفي الوقت الذي علينا فيه أن نسمّي عمليّة الدانوب بمسمّاها الحقيقي وبأنّها "عدوان واحتلال خارجيّين لدولة مستقلة" فيجب أن ننظر إلى ذلك أيضاً من خلال موقعه في المواجهة المصيريّة التي كان يخوضها الاتحاد السوفييتي ضدّ الولايات المتّحدة وحلفائها الأطلسيّين الرأسماليّين، والتي كان يحتاج فيها إلى حكومات حليفة في شرق أوروبا لموازنة كفّتي المواجهة.

 

النظام السوفييتي في موسكو رأى في حركة ربيع براغ خطراً كبيرا ليس لأنّه كان ضد الإصلاحات نفسها بقدر ما كان يخشى أن تمتدّ هذه الإصلاحات إلى بقيّة دول الحلف، وأن تستغلّها الولايات المتّحدة وحلفائها، وتحوّلها من إصلاحات إلى انقلابات، فيخسر الاتحاد السوفييتي حلفاءه، الذين ربّما يتحوّلون أيضاً إلى أعدائه، هذا إذا لم تنتقل عدوى المطالبة بالإصلاح إلى داخله هو نفسه.

 

وهكذا وقعت حركة ربيع براغ إلى حدّ كبير ضحيّة للمواجهة الخطيرة المستعرة على نطاق عالمي بين المعسكرين الشرقي والغربي، ولو لم يكن السوفييت واثقين تماماً من براءة دوبتشيك وأنصاره من العمالة للغرب، لما أبقوا دوبتشيك في منصبه بعد غزوهم لتشيكوسلوفاكيا حتى آذارمارس 1969، ولما أرسلوه لاحقاً سفيراً إلى تركيا، واكتفوا بعدها بتهميشه في دائرة الغابات في براتسلافا، ولو أنّهم كانوا فعلاً واثقين من تآمره لحاكموه هو وأنصاره كخونة وحكموا عليهم بأقسى العقوبات، وحتى بفرض أنّهم فعلوا ذلك كتكتيك سياسي، فهم ما كانوا ليفعلوه لولا ثقتهم بأنّ هذا التيّار الإصلاحي له احترامه الكبير ومؤيّديه الكثيرين في أوساط شعبه، والمساس العنيف بممثليه يمكن أن يؤدّي إلى ردّات فعل جماهيريّة خطيرة، فإن كان الأمر كذلك وكان لدى هذا التيار مثل هؤلاء الأنصار الشعبيّين، فسنجد أنفسنا حُكماً مضطرين للقول بأنّنا أمام تيّار إصلاحي وطني ذي شعبيّة، وليس أمام ثلّة من العملاء المتآمرين.

 

5- المعسكر الاشتراكي وفرصة"الإصلاح" المهدورة:

 

لقد بيّن تطور التاريخ اللاحق، وإن استغرق بعض الوقت، أنّ ربيع براغ لم يكن ضروريّاً في تشيكوسلوفاكيا وحدها وحسب، بل كان ضروريّاً في كلّ المعسكر الاشتراكي وحلف وارسو، وشيء من هذا القبيل كان قد بدأ فعليّاً مع محاولة خروشوف الإصلاحيّة في الاتحاد السوفييتي نفسه قبل حركة دوبتشيك بسنوات، ولكنّها أُجهضت هي الأخرى.

 

فلماذا كان الإصلاح مرفوضاً من قبل القيادة السوفييتيّة؟

 

في الإجابة عن هذا السؤال يمكن أن نضع الاحتمالات التالية: المصلحة المتناقضة مع الإصلاح، التعصّب وعدم الوعي لضرورة الإصلاح، الخوف من عواقب الإصلاح ورفضه من منطلق اختيار أهون الشرّين، اجتماع كلّ تلك الاحتمالات معاً بدرجة أو بأخرى.

 

إذا ما نظرنا إلى الاحتمال الأول.. فيمكن القول أنّه يرتبط بوجود فئة نافذة نشأت نتيجة ديكتاتوريّة الحزب الواحد، واستفادت منها، ولم تكن تريد التغيير كأيّة فئة مستبدّة مستغلّة أخرى لأنّه يتناقض مع مصلحتها.

 

أما الاحتمال الثاني.. فيرتبط بالمتعصبين والدوغمائيّين، الذين يمنعهم تعصّبهم وجمودهم العقائدي من رؤية عيوب الواقع ومخاطرها، وعلاوة على ذلك فهم يرون في كلّ من يكشف تلك العيوب ويطالب بإصلاحها عدوّاً مغرضاً أو عميلاً خائنا.

 

أما الاحتمال الثالث فيرتبط بأولئك الذين يدركون وجود العيوب وضرورة الإصلاح، ولكنّهم يخافون من أن تؤدّي محاولة الإصلاح إلى نتائج عكس ما هو مطلوب، فلا يقومون بها، وسبب هذا هو خوفهم من هذه العيوب نفسها أو عدم ثقتهم بأنفسهم أو عدم ثقتهم بشعوبهم، وهذا ما لا تفعله القيادات الكفوءة والنزيهة، التي تُدرك أنّ تأخّر الإصلاح يجعل المخاطر أكبر والعواقب أسوأ، وعدا عن ذلك فالقادة الحقيقّيون يثقون بأنفسهم وبشعوبهم، ولا سيما إن كانوا يعتمدون على إيديولوجيّة كالإيديولوجيّة الشيوعيّة التي تثق بالشعوب لتصنع الثورة الاشتراكيّة، فكيف لا تثق بها للقيام بإصلاح للنظام الاشتراكي؟!

 

لكن الإصلاح المطلوب لم يحدث، وتأخّر وواصل التأخر إلى أن استشرى الفساد وأسقط النظام الاشتراكي، وقد أدّى إلى سقوطه هذا تضافر مجموعة من العوامل المختلفة من الاحتمالات المذكورة أعلاه، والتي ترتبط جميعها بسبب أوّلي رئيس هو الديكتاتوريّة السلطويّة التي نشأت تحت غطاء ديكتاتوريّة البروليتاريا، وبدورها نمت تحت عباءتها الخاصة المصالح الخبيثة والذهنيّات المتعصّبة والذهنيّات الوصائيّة والبيروقراطيّات المترهّلة وسواها من المفاسد، وأقصيت الكفاءات الحقيقيّة.. بل وقمعت أيضاً.

 

6  - رغم الثمن الباهظ فما يزال هناك من لا يفهم أو لا يريد أن يفهم!

 

لقد سقط النظام السوفييتي والمعسكر الاشتراكي لأنّ الإصلاح لم يجر في الوقت المناسب و بالشكل المناسب، وإعادة البناء التي أطلقها غورباتشوف، وأدّت إلى تلك النتائج الكارثية هي نفسها مرّت من بوّابة الإصلاح وارتدت عباءته، لكنّها لم تكن قطعاً عمليّة إصلاح بل تدمير باسم الإصلاح، وفيها انقلبت عناصر النظام الفاسدة، التي تراكم وتفاقم فسادها خلال عقود، على النظام نفسه عندما واتتها وناسبتها الفرصة.

 

 

مع ذلك فهناك من لا يزال يتوهّم أنّ الأمور كانت على ما يرام قبل إعادة البناء تلك وأنّها كانت قابلة للاستمرار بما هي عليه، وأنّ هذه العمليّة-أي إعادة البناء- برمّتها هي عبارة عن مؤامرة مفتعلة تماماً بذريعة الإصلاح لتخريب المنظومة الاشتراكيّة، ومن يتوهّم مثل هذا الوهم بالطبع لا يقصره على إعادة البناء وحدها، بل يمدّه إلى ربيع براغ من جهة وإلى الربيع العربي من جهة ثانية، وهكذا دواليك.

 

لو نظرنا إلى ما جرى في "إعادة البناء" الغورباتشوفيّة، وافترضنا أنّها مؤامرة مدبّرة تماماً استهدفت نظاماً حسن الأوضاع، وقابلاً للاستمرار كما هو، فسنجد أنّ هذه المكيدة الخبيثة تمكّنت بيسر من إسقاط هذا النظام وكأنّه قصر من الرمال، ولم تحمه منها جيوشه الجرّارة وأسلحته الفتّاكة وأجهزة مخابراته الضاربة و أحزابه ومنظماته الواسعة المتغلغلة، وماكيناته الإعلاميّة الضخمة، وهلمّ جرى، وقد تمكّنت هذه المؤامرة من تجاوز كلّ ذلك كما يتجاوز اللص سياجاً من الكرتون، وحين اتضحت مآلات هذه (المؤامرة) المدمّرة، لم تفعل الشعوب شيئاً لحماية أنظمتها الاشتراكيّة كما كان الحال عليه في الاتحاد السوفيتي، والأسوأ أنّها وقفت ضدّ هذه الأنظمة وأيّدت أعداءها في الدول الاشتراكيّة الأخرى، التي انهارت بسرعة كبيرة، مما يدلّ على مدى هشاشتها الصارخة.

 

فهل يمكن القول عن وضع يحدث فيه كلّ هذا أنّه وضع سويّ مقبول وغير مأزوم وقابل للاستمرار؟!

 

من يقول مثل هذا الكلام هو حتماً شخص مصاب بالذهان أو بانفصام الشخصيّة، لأنّ أبسط حدود العقل لا يمكنها أن تحكم على مثل هذا الوضع إلّا بأنّه وضع بائس مستفحل الأزمة، ويحتاج إلى إصلاح جذري سريع.

 

7- هل كان الإصلاح ممكناً؟

 

بناء على نتائج إعادة البناء الغورباتشوفيّة قد يقول لنا قائل: «تريدون الإصلاح؟ حسنا انظروا ماذا فعل إصلاحكم»!

بمثل هذه المقاربة نكون قد دخلنا في معضلة لا مخرج منها، فنتائج إعادة البناء الكارثيّة بيّنت مدى هشاشة وتدهور الأوضاع في النظام السوفييتي والمنظومة الاشتراكيّة، ومدى ضرورة الإصلاح! ولكن الإصلاح تسبّب بالدمار، وهذا يضعنا في مأزق مغلق، مفاده أنّه لدينا نظام لا مفر من إصلاحه، ولكن إصلاحه يعني دماره، وهذا يعني أنّ مثل هذا النظام هو نظام غير صالح وغير جدير بالبقاء.

 

في واقع الأمر، لم يكن سبب سقوط الاتحاد السوفييتي والمنظومة الاشتراكيّة هو "الإصلاح"، بل كان السبب هو "عدم الإصلاح"، وتجاهل الإصلاح المتكرّر هو ما تسبّب في المحصّلة بالسقوط، وإن كان لا بدّ من البحث عن المجرمين والمتآمرين الذين تسبّبوا بهذا السقوط، فقبل البحث عنهم في الخارج يجب البحث عنهم في الداخل، في داخل المنظومة نفسها، وسنجد أنّهم أولئك الذين رفضوا إصلاح المنظومة ومنعوا تطوّرها، وتركوا الفساد يتغلغل فيها، إمّا بسبب خبث المصالح أو  جمود الفكر أو سوء التدبير، وفي الوقت المناسب انقلبت الفئة الخبيثة التي كان من مصلحتها الحفاظ على فساد النظام على النظام نفسه لأنّ مصالحها أصبحت تقتضي الانقلاب، والاستمرار في الفساد السابق لم يعد ممكناً، والإصلاح الحقيقي الذي كان لا يزال حينها ممكناً رغم جسامة صعوبته هو خطر كبير على هذه الفئة الفاسدة المغرضة، التي كانت تستفيد بدرجة كبيرة من أشكال الفساد الأخرى المتمثّلة بالتعصّب والجمود العقائدي والخوف وعدم الثقة بالنفس وبالشعب من قبل بعض القيادات وهلمّ جرى...

 

رغم كلّ ذلك لم يكن الإصلاح مستحيلاً، ولا سيما على الصُعد الاجتماعيّة والاقتصاديّة والمؤسساتيّة، ولكنّه كان يحتاج إلى قيادة إصلاحيّة حقيقيّة، وهذا هو الجانب الأصعب في الموضوع، لأنّ الفساد في المؤسّسة السياسيّة التي كان يُفترض فيها قيادة هذا الإصلاح كان منتشراً ومتغلغلاً إلى درجة خطيرة، ما مكّن في المحصّلة طُغمة من الفاسدين من استغلال الإصلاح نفسه، والانقلاب على النظام نفسه بذريعة الإصلاح.

 

8- بين إعادة البناء وربيع براغ؟

 

ما الفرق بين ربيع براغ وإعادة البناء، وما المانع من المطابقة بينهما واعتبارهما معا عمليّتين تخريبيّتين تدّعيان وتستغلّان الإصلاح؟

 

في كلتا الحالتين يمكن القول أنّ الإصلاح كان ضرورة حتميّة، وأنّه لا خوف على أيّ نظام صالح من إصلاح حقيقي، كما أنّه لا خوف على نظام غني عن الإصلاح من مؤامرة تخريبيّة تتذرّع بالإصلاح، والخطر الحقيقي هو عندما يكون الإصلاح واجباً .. وبدلاً من المصلّح يأتي المخرّب في ثوب المصلّح، وهذا ما حصل في إعادة البناء لأنّ الفساد كان قد استشرى إلى درجة كبيرة، والنظام الاشتراكي بالمقابل قد وهن إلى درجة كبيرة وشوكة الفاسدين قد اشتدّت بالدرجة نفسها، لكنّ الحال لم يكن كذلك أيام ربيع براغ، فلا الفساد ولا وهن النظام ولا شوكة الفاسدين كان بذلك الحجم الخطير، ولكنّ المشكلة الكبرى كانت في أنّه عندما وعت بعض القيادات ضرورة الإصلاح كما حدث في  محاولة خرشوف السوفييتيّة ودوبتشيك التشيكوسلوفاكيّة وسواهما، كان هناك قيادات لا تعي ولا تفهم ضرورة الإصلاح أو لا تريد عمداً الإصلاح أو تخشى الإصلاح، وهذه القيادات كانت هي الأقوى، وهي التي أودت بالمنظومة الاشتراكيّة إلى الكارثة في خاتمة المطاف.

 

ولو أنّ ربيع براغ استمر في تشيكوسلوفاكيا وحدث ربيع مثله في بقيّة المنظومة الاشتراكيّة، لما انهارت الاشتراكيّة بعد عقدين من الزمان اشتشرى خلالهما فيها الفساد وتنامى الوهن إلى أخطر الحدود.

 

كان دوبتشيك يريد تحويل بلاده إلى "اشتراكيّة ديمقراطيّة" خلال عقد من الزمن، واستمرت محاولته الإصلاحيّة سبعة أشهر تقريباً، قبل القضاء عليها بالغزو السوفييتي-الوارسوي.. فماذا كانت النتيجة اللاحقة؟

 

النتيجة اللاحقة كانت أنّه بين 17 تشرين الثاني/ نوفمبر و29 كانون الأول / ديسمبر من عام 1989حدثت ما تسمّى بـ "الثورة المخمليّة"، وهي فعليّاً كانت ثورة سلميّة جماهيريّة، أسقطت النظام الشيوعي في البلاد بالكامل، وأدّت إلى استبداله بالرأسماليّة، وهذا لم يكن ليحدث لو أنّ الجماهير لم تكن قد فقدت ثقتها بالحكم الشيوعي وسئمت منه، وهذا بدوره لم يكن ليحدث لو أنّ هذا النظام نفسه لم يكن قد أوغل في الاستبداد والفساد.

 

وما حدث في تشيكوسلوفاكيا، حدث في سواها من دول المعسكر الاشتراكي بصور مشابهة، وسقطت فيها الأنظمة الشيوعيّة سقوطا ذريعاً سريعاً، يدلّ بشكل دامغ على مدى فسادها ووهنها وعزلتها وإفلاسها.

 

9- هل الشيوعيّة بحدّ ذاتها هي السبب؟

أي باختصار هل الشيوعية بطبيعتها نظام غير صالح للبقاء؟ وهذا ما يروّج له خصومها، ولا سيما بعد انهيار معسكرها!

 

في كتابه المعنون بـ "الولايات المتحدة، طليعة الانحطاط" يقول الفيلسوف الفرنسي روجيه غارودي أنّ الاتحاد السوفييتي لم يسقط بسبب تبنيه الماركسيّة، بل بسبب تخليه عن الماركسيّة، كما يقول أيضاً أنّ التاريخ لم يُثبت يوماً كما أثبت اليوم كم كان كارل ماركس على حقّ وكم كان آدم سميث على خطأ.

 

وما يمكن قوله حول سقوط المنظومة الاشتراكيّة هو أنّ السبب ليس في عدم صلاحيّة الشيوعيّة نفسها، ولكنّه في "الديكتاتوريّة" التي أفسدت النظم الشيوعيّة، وانحرفت بعيداً عن أُسس الشيوعيّة، ومن يفهم الماركسيّة يفهم جيداً أنّها قطعاً لا تتبنّى الديكتاتوريّة، وأنّها تتغيّا مجتمعاً لا طبقيّة فيه ولا استغلال ولا تسلّط من أيّ شكل كان.

 

والحالة المزرية التي يتخبّط فيها العالم المعاصر تحت نيّر الرأسماليّة المتوحّشة، وصراع المصالح المسعور بين المراكز الرأسماليّة الذي ينعكس بأكثر الأشكال وحشيّة على الدول والمجتمعات الأخرى، والذي تدفع فيه سوريا اليوم أبهظ الأثمان في هذا الصراع الضاري الذي تتناقض فيه بشكل رئيس المصالح الأمريكيّة والروسيّة وسواها من المصالح، هو خير دليل على فداحة سوء وتهافت وتأزّم الرأسماليّة، وضرورة الحلّ الاشتراكي.

 

 10- وماذا عن الربيع العربي؟

 

في ختام هذا المقال نعود إلى الربيع العربي، ونقول لأولئك الذين يعتبرون أنّ هذا الربيع هو مؤامرة، أنّ هذا ليس غريباً على أتباع الديكتاتوريّات العربيّة، لأنّ هذا الربيع يتناقض ويهدّد مصالحهم، ولذا فهم يروجون أكاذيب المؤامرة لتشويه صورة هذا الربيع وتزييف الحقيقة، وتبرئة الديكتاتوريّات المجرمة.

 

أمّا أن يفعل الشيء نفسه أشخاص يعتبرون أنفسهم "مناضلين شيوعيّين" كحال بعض الشيوعيّين السوريّين الجبهويّين، فهذا عار جلل، وهذا يدل إمّا على كذب هؤلاء الأشخاص وانتهازيّتهم، أو على غوغائيّتهم وانمساخ الشيوعيّة في أذهانهم الكليلة.

 

تتميز الماركسيّة بأنّها من أكثر الفلسفات التي ركّزت على مسألة "الثورة" وعالجتها وحلّلتها وفسّرتها وتبنّتها، وهذا يجعلها الفلسفة الأكثر ثوريّة سواء على مستوى دراستها لمسألة الثورة أو مستوى تبنّيها لقضيّة الثورة.

وبعد كلّ ذلك يأتي "مدّعي ماركسيّة" ويصِم ثورات الربيع العربي بالمؤامرة كأسخف مؤمن مهجوس "بعقيدة المؤامرة"، ويعمى هذا الدعي أو يتعامى عن رؤية التناقضات الاجتماعيّة الجسيمة التي تطفح بها كلّ المجتمعات العربية، والتي يرجع الدور الأكبر في صنعها أو منع حلّها للديكتاتوريّات الحاكمة.

 

هناك في كلّ دولة عربيّة بلا أيّ استثناء، ورغم اختلاف الظروف والحيثيّات، من المظالم والمفاسد والرزايا ما يكفي لانتاج عشرات الثورات.

 

هذه الحقيقية لا يريد أن يراها اليسار العربي التقليدي المفلس بشكل عام، والسوري بشكل خاص، ولذا فممثّلوه يكرّرون بشكل متواصل مقولة المؤامرة ويصمون بها هذا الربيع، ولا يُجهدون أنفسهم في محاولة تحليله بشكل عقلاني نقدي نزيه لها، والشيء نفسه سبق أن فعلوه في ما يتعلق بسقوط الاتحاد السوفييتي، وفي كلتا الحالتين كان الأمر بنظرهم مؤامرة صهيونيّة ماسونيّة إمبرياليّة، وكذلك كان في ربيع براغ، وهناك دائماً متآمر خارجي شيطاني يجب تحميله كل الوزر بنظر هذه اليسار، أمّا المذنب الداخلي الأخطر والأكثر تخريباً فهو لا يُرى، بل ويُبرّأ أيضاً!

 

هذا السلوك الديماغوجي هو دليل كاف على مدى إفلاس مثل اليسار فكريّاً وأخلاقيّاً، وعلى أنّه تماما لا يختلف عن أولئك الفاسدين الذين تسبّبوا بسبب خبث مصالحهم أو فساد ذهنيّاتهم أو خور إراداتهم بسقوط الأنظمة الاشتراكيّة في الاتحاد السوفييتي وأوروبا الشرقيّة وغيرها من مناطق العالم.

 

وهؤلاء لن يتغيّروا، ولن يفهموا أنّ العالم قد تغيّر، وأنّ التاريخ قد تجاوزهم وخَلَفَهُم خلفه كمستحاثات من خارج العصر.

 

 

مراجع تمّت الاستعانة بها:

 

- ربيع براغ 1968، Brag Guide

- غزو حلف وارسو لتشيكوسلوفاكيا - ويكيبيديا

- ربيع براغ - ويكيبيديا

- حين سحقت دبابات حلف وارسو ″ربيع براغ″ قبل خمسين عاما أخبار DW عربية

- ربيع پراگ - المعرفة

- ألكسندر دوبتشك - المعرفة

- ألكسندر دوبتشيك - ويكيبيديا

- من ربيع براغ إلى الثورة المخملية- ويب أرشيف.

- الثورة المخملية - ويكيبيديا

- كتاب وسلوفاكيون وفضيحة أشعلت ربيع براغ في 1968 - فرانس 24

- الذكرى الـ50 لـربيع براغ بعيون اليوم، العربي الجديد.

- أحداث ربيع براغ في عام 1968 - روسيا اليوم

- لينينية - ويكيبيديا

- الثورة المخملية - ويكيبيديا

- 1903: Russian Social-Democratic Labour Party Second Congress Part 1

- Новотный, Антонин - Википедия

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard