الاقتصاد الرَّيعي السوري والشركات الخاصّة
منذ فترة قريبة أجرت قناة روسيا اليوم مقابلة مع الرئيس الروسي بوتين... تحت عنوان عشرون سؤال وعشرون جواب.
وعند سؤال بوتين عن مشاركة القطاع الخاص باتخاذ القرارات الاقتصاديّة كان جوابه: "إنّ القطاع الخاص يجب أن يعمل بالقطاع الإنتاجي أمّا القطاع الريعي يجب أن يبقى بيد الدولة لأهميّة العائد الضريبي للدولة، وخاصّة القطاع التجاري لأنّ القيمة المضافة يجب أن تبقى بيد الدولة، ويجب ألّا يسمح للقطاع الخاص بالمشاركة باتخاذ القرارات التي يجب أن تأتي ضمن استراتيجيّة واضحة لبناء الاقتصاد، وهي لاتقبل الخطأ أوالمواربة. وقد توقّفت روسيا عن المطالبة بذلك منذ فترة".
وعند سؤاله عن آليّات المحاسبة أجاب: "إنّ مهمّة الدولة تقع في منع رجال الأعمال من الاحتيال قبل محاسبتهم، ولو سمح لهم بالتدخّل بالقطاع الريعي للدولة لاحتالوا عليه واختفوا في شوارع لندن".
في تقرير لمركز فيريل للدراسات ورد مايلي: "حتى عام 2000 كان الاقتصاد السوري اقتصاداً اشتراكيّاً بشكل عام. فيما بعد ومع استلام عبد الله الدردري منصب رئيس هيئة تخطيط الدولة، ثمّ نائب رئيس الوزراء للشؤون الاقتصاديّة، بدأ تطبيق الاصلاحات الاقتصادية، وعملية نقل الاقتصاد السوري الاشتراكي، إلى الاقتصاد الرأسمالي "اقتصاد السوق". حاولت الحكومة السورية "خداع" الشعب فأسمتهُ (اقتصاد السوق الاجتماعي) كي لا يظهر الانقلاب التام على ما كان قبل عام 2000.
وبدأت عملية "مُتسرّعة" لتلبية أوامر البنك الدولي، ومنظمة التجارة العالميّة، وهو ما ذكرناه بوضوح في بحث "الربيع العربي الجزء الثاني" بمركز فيريل للدراسات، نعم الحكومة السورية بعد عام 2003 كانت تُنفّذُ أوامر البنك الدولي حرفيّاً في الإصلاحات ومهندس التنفيذ هو عبد الله الدردري.
بدأت الحكومة السوريّة برفعِ الدعم عن المواد الأساسيّة، وهذا لم يحدث نهائيّاً قبل ذلك، كون الاقتصاد السوري اشتراكيّاً. بدأت الخطوة بالمازوت، وهي خطوة خطيرة!!! حيث قفز سعره عام 2006 من 9 ليرات إلى 16 ليرة بنسبة 56% رفعُ سعر المازوت يعني رفع سعر كافة المنتوجات الزراعيّة والغذائيّة والمواصلات. ثم قفز سعرهُ عام 2008 إلى 25 ليرة سوريّة، ودون سابق إنذار أومصارحة المواطن السوري … المازوت الذي حافظ على سعر ثابت لأكثر من 13 عاماً، زادت الحكومة السوريّة سعرهُ خلال عامين أكثر من 180%!! ثم جاء رفع سعر الكهرباء والماء … ثمّ جاء وزير الماليّة الدكتور محمد الحسين، ليرفع الضرائب من 3% إلى 14% خلال سنتين. وبدأ المواطن العادي يُعاني…
الخطوة الثانية كانت: فتح الأسواق السوريّة أمام البضائع المستوردة، وتقديم تسهيلات للتجّار لاستيراد ما يحلو لهم، بخفض الضرائب على المستوردات… هنا تمّ القضاء على قسم كبير من الصناعات المحليّة، فأفلست الكثير من المصانع، خاصّة مصانع وورشات صناعة الأقمشة والألبسة والأثاث، التي لا يمكنها منافسة المنتوجات الصينيّة والتركيّة.
الخطوة الثالثة كانت: الخصخصة. تم تعديل قوانين الاستثمار الأجنبي، القانون 8، وأُنشأت بورصة دمشق، وفتحت بنوك وشركات أجنبيّة وجامعات خاصّة، وتمّت زخرفة الوضع للشعب السوري بالمزيد من الملاهي والمطاعم و"الانترنت"، وظنّ الناس أنّهم في "بحبوحة" غير دارين بالقادم… وقلائل هم الذين يعرفون ماذا كان يحدث في سوريا …
تدمير الاقتصاد السوري
في تلك الفترة كان قسم واسع من الشعب السوري "مبهوراً" بما يحدث. استطاعت الحكومة السوريّة ومعها الطبقة المخمليّة، إشغال الناس بالقشور، بينما كان يصعد أثرياءٌ على حساب الاقتصاد السوري الذي يتمّ تدميره عن قصد.
وتغيّرت الحياة في سوريا… باتَ الجميع يحمل أحدث طراز الموبايلات، ويتحدّث عن سعر الدولار!! لم يعد أحد يطهو في المنزل، فالمطعم يقوم بإيصال الوجبات للمنزل، قضاء إجازة الصيف أصبح في تركيا "الشقيقة" بجانب قصور أبطال المسلسلات التركية… وبقروض مُيّسرة من البنوك! بالمقابل ارتفعت نسبة البطالة، وزاد عدد الفقراء تدريجيّاً مع ارتفاع الأسعار، وبدأت الطبقة الوسطى تتلاشى.
الحكومات السوريّة المتعاقبة، أمّنت الموبايل بثمنه طبعاً، للجميع، لكنّها أهملت المشاريع التنمويّة والإنتاجيّة… هل سألت الحكومة السوريّة أيّ مواطن / مواطنة أين يسكن/تسكن، وهل مسكنه/مسكنها صالح للعيش؟ لم تقم الحكومات السوريّة بأيّ مشروع وطني كبير ذو جدوى اقتصاديّة إنتاجيّة منذ عام 2003، اللهم سوى افتتاح صالات البلياردو، والمراكز السياحيّة والتسوّق. معظم ما ترونهُ من مشاريع كبرى ومساكن ومؤسسات بُنيت منذ عشرات السنين…
الحكومات السوريّة المتعاقبة، بنت ورمّمت مئات المساجد وعدّة كنائس، لكنّها لم تسأل هل يستطيعُ المواطن/المواطنة، الذي تدعوهُ للصلاة، تأمين خبز أطفالهِ؟ والحجّة "الكاذبة" دوماً وأبداً: "التكاليف هي تبرعاتٌ من فلان وعلتان"، وكأنّ فلان، التّقيّ الورِع، يتبرّعُ لسواد عيون الدولة.
أيّام "الرفاهية" الزائفة كانت قصيرة… فالشركات الأجنبيّة التي سمحت لها الحكومة السورية بالدخول ومعها البنوك، واستيراد البضائع الأجنبيّة، وفتح الأسواق وإبهار الناس بكل جديد، كلّ هذا أدّى لسحب السيولة من يد الشعب، وخسارة الخزينة للعملات الصعبة … ازداد الفقر ومعه التضخّم الاقتصادي وبدأ الانهيار … مع بدء الانهيار بدأت النقمة لدى شريحة واسعة من الشعب الفقير، تمّت تغذية هذه النقمة من قِبل "فلان" نفسهُ الذي تبرّع لبناء المساجد !!
مَن المسؤول عمّا حدث قبل 2011؟
لا يمكن تحميل مسؤوليّة ما حدث لشخص واحد هو عبد الله الدردري، صحيح أنّه كان يملك كاريزما "عدديّة" يُبهرُ فيها المسؤولين قليلي الخبرة، وكان مُروِّجاً لسياسة الانفتاح حيث درس الاقتصاد في أمريكا، لكنّه لم يكن لوحده، فرئيس الوزراء آنذاك محمد ناجي عطري، ضخّم الوضع قبل التغييرات "المتسرّعة" بالقول: (الدولة السوريّة غير قادرة على التحمل، ولن تستطيعَ أن تبقى أباً للجميع)، ثم تحدّثَ عن عهد اقتصادي جديد سيتمّ الانتقال إليه. أي كانت هناك مجموعة كاملة من كبار المسؤولين والأثرياء تسحبُ سوريا نحوالحافة… بعض هؤلاء مازال على كرسيه ملتصقاً !!!.
فيما بعد، بدأ تطبيق القسم الثاني من التدمير، وكلّكم تعرفون ما حدث، بتدخّل تركيا وقطر والسعودية اللواتي كان لهنّ صدر البيت، والعتبة للسوريّين الوطنيّين.
فلنربط ما قاله بوتين عن الاقتصاد الريعي مع ما ذكره مركز فيريل للدراسات ونطبّقه على مجموعة من الخدمات والمستوردات السوريّة بثلاثة أمثلة:
شركة تكامل:
بيّنت الشركة على موقعها أنّها تأخذ عمولة ثابتة عن كلّ الخدمات، ولم تذكر المبلغ وصرّح وزير التموين أنّ ملكية الشركة عادت لشركة محروقات، لعدم وجود شفافيّة لا نعرف أيّ المعلومات صحيحة.
انتشرت في الفترة الأخيرة، وقبل إعلان وزير التجارة نقلها لشركة المحروقات، العديد من المقالات حول ملكيّة الشركة وطريقة إدارتها وهذا ليس فحوى المقالة بقدر ما هي الأرقام والتقديرات:
* عن كلّ ليتر بنزين يتمّ تعبئته تتقاضى شركة تكامل ٥ ليرات للسيّارات الخاصّة و٣ ليرات للسيارات الحكومية، باعتبار أنّ مخصّصات السيارة ١٠٠ ليتر شهريّاً، وحسب إحصاءات ما قبل الأزمة يوجد في سوريا ٢ مليون سيّارة خاصّة، مما يعني ٢٠٠ مليون ليتر شهريّاً، وحصول الشركة على مليار ليرة شهريّاً، أيّ ١٢ مليار ليرة سنوياً. بالنسبة للسيّارات الحكوميّة هنالك عدد من التقديرات حولها، وبعضها يصل إلى ٣٠٠ ألف سيّارة، مما يعني ٣٠ مليون ليتر شهريّاً، و٩٠ مليون ليرة لشركة تكامل، وسيتجاوز المبلغ مليار ليرة سنويّاً.
* تحصل شركة تكامل على ١٠٠ ليرة من كلّ تعبئة جرّة غاز وبوجود بحدود ٢ مليون بطاقة عائليّة يكون دخل الشركة ٢٠٠ مليون ليرة من تعبئة واحدة لكلّ بطاقة، وإذا قامت كلّ أسرة بتعبئة جرة الغاز عشر مرات فقط سنويّاً (كل ٣٦ يوم وهورقم معقول) سيكون دخل الشركة من الغاز ٢ مليار ليرة.
* تحصل شركة تكامل على ١٠٠ ليرة من كلّ تعبئة مازوت، فإذا تمّت التعبئة على مرحلتين يكون ريعها من كلّ بطاقة ٢٠٠ ليرة وبوجود ٢ مليون بطاقة سيكون دخل الشركة ٤٠٠ مليون ليرة من المازوت المنزلي، وإذا أخذنا مازوت المواصلات والمازوت للصناعة والزراعة بعين الاعتبار، فإنّ دخلها لا يقل عن ٢ مليار ليرة من المازوت.
لا داعي لحساب المنتجات الأخرى التي أصبحت توزّع على البطاقة الذكية لأنّ دخلها من المحروقات حسب التقديرات السابقة سيكون بحدود ٢٠ مليار ليرة سنويّاً على أقلّ تقدير. تتراوح قيمة دعم المحروقات الذي تقوم به الحكومة السوريّة بين ٢٠٠ و٤٠٠ مليار ليرة سوريّة، وهوما يشكل ١٠- ٢٠ بالمئة من الميزانيّة. وهي تعني هذه التقديرات أنّ بحدود ٥- ١٠ بالمئة من الدعم أصبح يذهب لشركة تكامل وليس للمواطن.
شركات الخلوي:
وفقاً لإحصائيّات ما قبل الأزمة فقد كان عدد خطوط الخلوي في سوريا عام ٢٠١٠ بحدود عشرة ملايين خط، وإذا أضفنا لها عدد خطوط السيرف، والتي يقدّر عددها بمليون خط، وقدّرنا فاتورة خط الخليوي بألفي ليرة شهريّاً، والسيرف بثلاثة آلاف ليرة، فإنّ مجموع فواتير الخليوي سيكون ٢٠ مليار ليرة شهريّاً، وخطوط السيرف ٣ مليار ليرة، وسيكون إيراد شركات الخليوي أكثر من ٢٧٥ مليار ليرة سوريّة سنويّاً.
الزيوت النباتيّة
استيراد الزيوت: إذا كانت الأسرة السورية تستهلك شهريّاً ليترين من الزيوت النباتية المستوردة، فإنّ السوريّون يستهلكون (بفرض ٥ أشخاص للأسرة وتعداد سكّاني ٢٥ مليون) ١٠ مليون ليتر شهريّاً، وإذا فرضنا أنّ مربح الليتر فقط ٣٠٠ ليرة، فإنّ مرابح استيراد وتوزيع الزيوت النباتيّة يبلغ ٣ مليار ليرة شهريّاً على الأقل، والمربح السنوي يكون أكثر من ٣٦ مليار ليرة سوريّة.
الأمثلة الثلاثة المذكورة (خدمات تكامل، الخلوي، الزيوت النباتية) تُوضّح جواب الرئيس الروسي عن أنّ مجالات الخدمات والتجارة الريعيّة يجب أن تكون بيد الدولة لأنّ عوائدها ستسدّ العجز في أيّ ميزانيّة، ويمكن استخدامها لإنشاء بنية تحتيّة قوية، ومشاريع وطنيّة إنتاجيّة. طبعاً كما ذكرت، هي تقديرات لعدم وجود شفافيّة وأرقام واضحة، لذا فإنّ المبلغ الذي يتمّ الحديث عنه في هذه الأمثلة قد يتراوح بين ٢٠٠ و٤٠٠ مليار ليرة سوريّة.
كان يجب أن يترافق ذلك كما في الثمانينات، عندما استطاعت الدولة، وبالقوة، ضبط سعر الصرف، وضبط الحدود، ومنع تهريب العملة خارج البلد، وضبط الأسعار ومنع الاحتكار. هذه الإجراءت التي لوطبّقت وبالسرعة الكافية لما أصبحت السوق السوداء أقوى من الدولة. والأهمّ من ذلك كان يجب أن يحدث ذلك كلّه بشفافيّة مطلقة لا تدع مجالاً لنشر الإشاعات المغرضة، ولا تُثير شكوكاً لدى المواطن باستخدام آليّات غير مدروسة وارتجاليّة.
لكن الذي حصل هو عكس ذلك تماماً وأصرّت الدولة عامدة على سياسة منحت نفسها حقّ النهب من خلال الإصرار على فرض كميّات هائلة من الضرائب وتعميق الاقتصاد الريعي، وتشجيع الاحتكارات ما أدى إلى افقار الشعب لأبعد الحدود، والتضخّم الهائل لثروات المحتكرين وليشرب الفقراء من ماء البحر إن لم يعجبهم.