الدولة الوطنية، هل هي مطلب السوريّين؟
"أنتم أيّها الفلاسفة تكتبون على الورق، أمّا نحن فنكتب على جلود البشر"
كاترينا الثانية، إمبراطورة روسيا
"السلطة تصنع الأشخاص الذين يصنعونها"، وتنقش خصائصها على جلود من تتسلّط عليهم، وعلى ما تحت جلودهم أيضاً. النظام السوري، الذي يسمّيه رعاياه وحلفاؤه دولة، ليس له أيّ سمة من سمات الدولة الوطنيّة الحديثة، وأيّ معنى من معانيها، سوى الاسم وهياكل تشريعيّة لا تُشرِّع وتنفيذيّة لا تنفِّذ وقضائيّة لا تقضي إلّا بما تمليه عليها قوى، ليس "الشعب" واحداً منها. ولكن هذا النظام ينقش سلطته على جلود السوريّين والسوريّات جميعاً، وليس له وظيفة غير هذه الوظيفة. السوريّون والسوريّات موسومون وموسومات، بمياسم مختلفة وسمات مختلفة، كما توسم القطعان، لأنّ النظام عمل كلّ ما يستطيعه لكي لا يكونوا شعباً، ولكي لا تكون لهم دولة كبقيّة خلق الله.
قبل الحرب، حوّل النظام المجتمع السوري إلى "مجتمع بلا طبقات"، حسب وصف حنة أرندت للنظم الشموليّة (التوتاليتارية) أو نظم الاستبداد الكلّي، وحوّل الشعب إلى جماهير ذات خصائص قطيعيّة، بتعبير جورج طرابيشي، واخترقت أجهزته الأمنيّة جميع البنى الاجتماعيّة – الاقتصادية والثقافيّة والسياسيّة، وأشاعت فيها أخلاق الوشاية والنميمة والكيد والضغينة، علاوة على الفساد أي إنّ السلطة نقشت تفاهتها وعنصريّتها في ثقافة السوريّين والسوريّات، تحت عنوان "الثقافة القوميّة الاشتراكيّة"، مثلما نقشت همجيّتها على جلودهم/ـنّ.
بعد عشر سنوات من حرب قذرة، كسر فيها قسم غير قليل من السوريّين حاجز الخوف، وصاروا يجهرون (من خارج المناطق التي يسيطر عليها النظام) بمعارضة السلطة، لا بمجرد نقدها، وصار من الممكن ألّا تعود الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل عام 2011، فهل يتوافق السوريّون والسوريات على عقد اجتماعي جديد، تنهض على أساساته أو على مبادئه دولة وطنيّةـ وسلطة تنبثق من الشعب، وتكون مسؤولة أمامه، ويكون قادر على منحها الثقة أو حجبها عنها؟
يعرف الحقوقيّون الدولة بأنّها أرض وشعب وسلطة عامّة، وهو تعريف يمكن أن يضفي "مشروعيّة عقلانيّة" على نظام كنظام البعث وسلطة كالسلطة الشموليّة في سوريا، بغضّ النظر عمّا تفعله هذه السلطة بالأرض والشعب، ومن يسمع تبجّح السلطة بوحدة سوريا أرضاً وشعباً يظن أنّها سلطة وطنيّة، عامّة لجميع السوريّين والسوريّات ومنتخبة انتخاباً صحيحاً. يمكن أن ينطبق هذا التعريف الحقوقي على الدولة المستبدّة ودولة العشيرة أو العائلة، لولا وصف السلطة بأنّها سلطة عامّة. السلطة العامّة هي التي تنبثق من الشعب بالانتخاب الحر. صفة العموميّة هنا هي معنى الوطنيّة.
تتأسّس الدولة الوطنيّة بعقد اجتماعي بين مواطنين أحرار ومواطنات حرائر، لا بين عشائر وطوائف وإثنيّات؛ والدستور هو التعبير العملي عن العقد الاجتماعي، ولا يكون كذلك إلّا إذا صدر عن هيئة منتخبة من الشعب انتخاباً صحيحاً، وفق قانون انتخاب يحقّق أوسع مشاركة شعبيّة ممكنة في انتخاب هذه الهيئة. وأفضل قانون، في الحالة السوريّة هو الذي يمنح الناخب/ـة صوتاً واحداً لمرشح/ـة واحد/ة، في دوائر انتخابيّة صغيرة، ويشرف على الانتخابات قضاء مستقل ومنظمات المجتمع المدني والصحافة المستقلّة. الهيئة المنتخبة تكون هيئة تأسيسيّة تختار من بين أعضائها ومن غير أعضائها لجنة من ذوي المعرفة والخبرة والاختصاص والجدارة الأخلاقيّة لكتابة الدستور، ثمّ تعرضه على الاستفتاء الشعبي، ويمكن لهذه الهيئة أن تتحوّل إلى برلمان ينتخب رئيساً للدولة ويكلّف شخصاً لتأليف الحكومة. وتسري هذه الآليّة في جميع المؤسّسات. العقد الاجتماعي، بهذه الصفات هو الذي يحوّل الجماعات المختلفة إثنيّاً ودينيّاً ومذهبيّاً وجنسيّاً وجهويّاً إلى شعب، أفراده مواطنات حرائر ومواطنون أحرار متساوون ومتساويات في الحقوق المدنيّة والسياسيّة والالتزامات القانونيّة.
هل يتّفق السوريّون والسوريّات على عقد اجتماعي وسياسي، وجمعيّة تأسيسيّة منتخبة تقرّر طبيعة الدولة ونظام الحكم، وتضمن سيادة القانون واستقلال القضاء؟ التجربة الدستوريّة السوريّة غير مشجّعة، فالدساتير إمّا أن يدوسها العسكر، ببساطيرهم المقدّسة، وإمّا أن يأكلها حمار غوّار الطوشي. والأحزاب السياسيّة أثبتت تجربة نصف قرن أنّها لا تؤتمن على شيء، ولا تخدم سوى مصالح قياداتها، وتغطي فسادهم وارتكاباتهم، وأخيراً جرائمهم.
عرّف لسان العرب الدُّولة بأنّها "العُقبة في المال والحرب" أيّ الانتصار والغلبة، والانتقال من حال إلى حال، أما المعجم الوسيط؛ فقد عرّف الدولة على أنّها "انقلاب الزمان" أي تغيّر الزمان من خسارة إلى ربح وبالعكس. أمّا وفق التعريف التقليدي للدولة؛ فهي أرض وشعب وحكومة سياسيّة.
مفهوم الدولة مفهوم حديث، عرّفه الأوربيّون في أواخر القرن السادس عشر الميلادي، وجسدّته بالفعل الثورة الفرنسيّة عام (1789)، وهو مفهوم ينتمي إلى الفلسفة السياسيّة وفنّ السياسة، وقد أخذ الأروبيّون هذا المفهوم عن اليونان ونموذج المدينة – الدولة، الذي كان معروفاً في سوريا الكبرى والعراق وغيرهما لذلك لا تعبّر عنه كلمة الدولة في لغتنا العربية.
"الدولة الوطنيّة هي دولة جميع مواطنيها بالتساوي، تبدو لغير مواطنيها (من الخارج) دولة وطنيّة أو قوميّة (سوريّة أو مصريّة أو فرنسيّة)، وتبدو لمواطنيها ومواطناتها جميعاً (من الداخل) دولة حقّ وقانون"، حسب جاد الكريم الجباعي. ويكمل الجباعي قائلاً: المجتمع المدني والدولة السياسية حدّان جدليّان في "كليّة عينيّة" أو وحدة تناقضيّة، (كالقطبين: السالب والموجب في المغناطيس) لا ينفكّ أحدهما عن الآخر إلّا بانتفاء الكليّة العينيّة ذاتها، أيّ بانفراط العقد الاجتماعي، والانتكاس إلى حالة الطبيعة، حالة ما قبل السياسة وما دون السياسة وحرب الجميع على الجميع"، وهذا ما نشهده اليوم على الساحة السوريّة واللبنانيّة واليمنيّة وغيرها من البلدان العربية المحكومة بالاستبداد، والسلطة المطلقة التي لا تُعنى إلّا بمصالحها الشخصيّة.
السوريّون اليوم منقسمون قسمين موالين ومعارضين، فضلاً عن انقسامهم قسمين آخرين: مقيمين ومهجّرين داخل البلاد وإلى خارجها، دمّر نظام البعث اجتماعهم المدني والسياسي وأفسد قيمهم الاجتماعيّة وعلاقاتهم الإنسانيّة، ودمر البنى التحتية والمؤسسات وجفّف ينابيع الحياة. الموالون لا يبتغون أكثر من الحفاظ على دولة البعث ومؤسّساتها وعلى سوريا الأسد، والشطَّار من المعارضين يريدون دولة مدنيّة، والله أعلم ما هي الدولة المدنيّة، إلّا إذا كانت الدولة التي نظر لها سيّد قطب، ويتبنّاها الإخوان المسلمون.
إذا عدنا إلى مقولة الجباعي: المجتمع المدني والدولة السياسيّة حدّان جدليّان في "كليّة عينيّة" نرى أنّ المجتمع السوري ليس مجتمعاً مدنيّاً، إنّما بفعل التسلّط والاستبداد انتكس إلى مجتمع أهلي، ولاذ بعباءة العائلة والطائفة والعشيرة، فالتسلّط والاستبداد نشرا التعصّب والجهل والتشبّث بالعقيدة والمذهب، لا المذهب الديني فحسب؛ بل المذهب السياسي والعقيدة السياسيّة، والعرف الاجتماعي، فلم يعد الشعب شعباً سياسيّاً، أي لم يعد شريكاً في الدولة أو الوطن شراكة حرّة أو ينتمي إليها، والدولة لم تعد بدورها دولة وطنيّة، إنّما تصنّف أفراد المجتمع حسب انتماءاتهم السياسيّة وولاءاتهم لها، فالقومي العربي هو مواطن شريف ووطني والبعثي في سوريا كذلك، أمّا من يعارضهما فهو عميل للقوى الخارجيّة المعادية للدولة الوطنيّة في تقدير حكّامها.
تحوّلت الفكرة القوميّة العربيّة، في أذهان معتنقيها ومعتنقاتها إلى أديولوجيا يصعب التحرر من ربقتها، وغير قابلة للنقاش، ولا للحوار الحر، بل أصبحت أداة لسلطة قاهرة غير خاضعة لأي شكل من أشكال المحاسبة، فالمكوّنات القوميّة والدينيّة في العالم العربي بوجه عام، وفي سوريا ولبنان بوجه خاص، عاجزة عن إنتاج هويّة وطنيّة جامعة، ودولة وطنيّة تحفظ حقوق مواطنيها ومواطناتها في الحريّة والكرامة الإنسانيّة، وتحقّق العدالة الاجتماعيّة. في سوريا تصدّرت المشهد أحزاب يساريّة في "الجبهة الوطنيّة التقدميّة، وقدّمت نفسها "للجماهير" على أنّها الممثّل الشرعي والوحيد للأمّة العربية وأنّها وحدها معنيّة بتحرير فلسطين من البحر إلى النهر من الصهيونيّة، واستعادة المقدّسات فجعلت من شعارات "المقاومة والممانعة" هويّة وطنيّة كلّ ما عداها باطل، فاحتكرت الوطن والوطنيّة، تخون من يخالفها وتكافئ من يواليها. وبهذا حكمت على نفسها وعلى الشعب بالحبس داخل شرنقة الأيديولوجيا القوميّة القائمة على التعصّب القومي وإقصاء الآخر المختلف سياسيّاً ودينيّاً وإثنيّاً، كلّ ذلك أدّى إلى تشكيل هويّة رخوة، تراوح بين الهويّة الوطنيّة والهويّة القوميّة، ووقوف الدول العربيّة في منتصف الطريق.
ما زال القوميّون العرب يظنّون أنّ القوميّة العربيّة تنوب عن الدولة الوطنيّة، وما زال المجتمع المدني غير قادر على تشكيل ذاته، لا من خلال أفراده، ولا من خلال منظّماته المدنيّة في ظلّ الأنظمة الشموليّة، الاستبداديّة، التي ترتعب من هذا المفهوم (المجتمع المدني)، وتعتبره معادياً لسلطتها المطلقة؛ لأنّه يؤمن بالحرية والعدالة والمساواة، ويطالب بحقوقه المدنيّة والسياسيّة والمساواة بين النساء والرجال، فلا يمكن أن تكون الدولة دولة وطنيّة ما دامت كفّة قوانينها ترجح باتجاه واحد، وما دامت سلطتها الأمنيّة تكمّ الأفواه وتمنع الحريّات.
السلطة المطلقة لا تنقش في أذهان الشعوب شعاراتها وانتصاراتها الوهميّة فحسب؛ إنّما تنقش صورتها على جلودهم.