info@suwar-magazine.org

لماذا انسحبت أمريكا من أفغانستان؟

لماذا انسحبت أمريكا من أفغانستان؟
Whatsapp
Facebook Share

 

يثير انسحاب أمريكا من أفغانستان خلال صيف العام الحالي، الذي جاء مفاجئاً وسريعاً بالنسبة للكثيرين، الكثير من التساؤلات، كما وتكثر حوله الفرضيّات والتحليلات، ويذهب الكثيرون إلى القول بأنّ أمريكا قد هـُزمت في أفغانستان، فيما يذهب سواهم إلى قول مختلف تماماً مفاده أنّ هناك تغيّراً في الإستراتيجيّة الأمريكيّة، وبين هاتين الفرضيّتين التي يمكن إدراجهما في إطار الفرضيّات ذات الخطوط العريضة، هناك العديد من الفرضيّات الجزئيّة المختلفة.. بل والمتداخلة، والتي يقدّم كلّاً منهما مضامين مختلفة بالقليل أو الكثير لكل من أطروحتي الهزيمة وتغيّر الإستراتيجيّة.

 

وهذه المقالة تسعى لمناقشة الاحتمالات والفرضيّات الكامنة وراء الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، وتحاول استجلاء أسبابه وغاياته بناء على ذلك.

 

لتفسير الانسحاب الأمريكي من أفغانستان يمكننا أن نضع الاحتمالات التالية:

 

  • أمريكا هُزمت من قبل طالبان.
  • أمريكا تتحمّل أعباء ثقيلة في أفغانستان هي في غنى عنها.
  • أمريكا يئست من بناء دولة ديمقراطيّة في أفغانستان.
  • أمريكا لم تتوقّع الانهيار السريع للجيش الأفغاني بعد انسحابها.
  • أمريكا لم تعد تهتم بأفغانستان.
  • أمريكا تختبر استراتيجيّة جديدة في أفغانستان.

 

عند مناقشة هذه الاحتمالات، سنجد أنّ الاحتمال الأول منها ليس مقنعاً، رغم كثرة ما يقال عن مثل هذه الهزيمة في وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، فطالبان المطرودة منذ عام 2003 من أفغانستان والمتواجدة بشكل غير رسمي([1]) في باكستان، وليس لها إلّا بعض البقايا السريّة في أفغانستان نفسها، لم تكن تقوم بحرب عصابات يمكنها أن تكبّد فيها أمريكا خسائر عسكريّة واقتصاديّة وسياسيّة فادحة تجعل أمريكا تفكّر بـ "الهرب" من أفغانستان، ولم يكن في مقدور طالبان فعل ذلك، فهي مثلاً ليست مدعومة من قبل قوى عالميّة على غرار حركة "الفييتكونغ" في فيتنام التي كانت تحظى بدعم الاتحاد السوفييتي والمعسكر الاشتراكي والصين ضدّ أمريكا، وليست في وضع يماثل جبهة "التحرير الوطني الجزائريّة" التي كانت بدورها مدعومة من قبل الاتحاد السوفييتي والمعسكر الاشتراكي، ومن قبل مصر عبدالناصر ودول عربيّة أخرى ضدّ فرنسا، كما أنّ وضع طالبان يختلف اليوم بشكل جذري عن وضع من كانوا يسمّون بـ "المجاهدين الأفغان" الذين كانوا يحاربون الاتحاد السوفييتي في الثمانينيات، والذين كانت تدعمهم أمريكا نفسها وتسميهم "مناضلين من أجل الحرية"، وكان يدعمهم معها العديد من حلفاءها الغربيّين والعرب ولا سيما الخليجيّين، فطالبان اليوم على الساحة الدوليّة هي تنظيم يُعتبر متطرّفاً، وهو تنظيم منبوذ ومعزول، وهو أضعف بكثير من أن يقدر على القيام بحرب عصابات تجبر دولة عظمى كالولايات المتّحدة على الانسحاب من أفغانستان.

 

 

وفي واقع الأمر طالبان لا يمكنها اليوم أن تحظى بأيّ دعم حقيقي من أيّ طرف في العالم ضدّ أمريكا، فكلّ من روسيا والصين وإيران، هي فعليّاً أكثر خشية من أمريكا بكثير من التنظيمات الإسلاميّة المتطرّفة، فروسيا والصين اللتان يوجد في كلّ منهما ملايين عديدة من المسلمين تخشيان كثيراً من امتداد التطرّف الإسلامي إلى مسلميهما، ما يمكن أن يشكّل خطراً كبيراً على أمنيهما ووحديتهما، ودعم تنظيم متطرّف كطالبان وتقويته، وهو الموجود في منطقة قريبة من كلّ من روسيا والصين، يمكنه أن يشجّع معنويّاً المتطرفين الإسلاميّين فيهما، وقد يوّفر لهم أيضاً قدراً من الدعم والمساندة الماديّين عن طريق طالبان نفسه، هذا عدا ما يمكن أن تتسبّب به تقوية طالبان من بلبلة واضطراب وعدم استقرار في أفغانستان ومحيطها وهذا ما ينعكس بسلبيّة كبيرة على مصالح وأوضاع هذه الدول المحيطة ومصالح كلّ من الصين وروسيا وإيران.. التي لها مصالح فيها ومعها؛ وليست إيران هي الأخرى في وضع أفضل، فنمو تنظيم متطرّف "سُنّي المذهب" على حدودها، يُعتبر في وضع كالوضع الراهن الذي يعاني فيه العالم الإسلامي من ارتفاع حدّة التعصّب والانقسام والصراع الطائفي تهديداً جديّاً لأمنها الخارجي، وليس هذا فحسب بل وتهديداً لأمنها الداخلي، لأنّ فيها بدورها أيضاً يوجد الملايين من المواطنيين السُنّة، الذي يمكن أن تنتقل إلى الكثير منهم عدوى التطرّف والعنف عند نمو تنظيم سُنّي متطرّف على حدود بلادهم؛ وإذا ما افترضنا أنّ دول الخليج هي من يدعم طالبان، فهذا افتراض في غير محله، فهذه الدول لا تستطيع فعل ذلك بسبب علاقتها الوثيقة مع أمريكا، وبسبب خشيتها هي نفسها من خطر المتطرّفين، وكلام مماثل يمكن قوله عن تركيا أيضاً إذا ما افترض أنّها تدعم طالبان.

 

وهكذا يمكننا الجزم بأنّ مقولة هزيمة أمريكا في أفغانستان بالمعنيّين الحربي والعسكري هي خرافة ساذجة لا أكثر، وبالتالي لا بدّ من النظر في الاحتمالات الأخرى.

 

فإذا ما ذهبنا إلى الاحتمال الثاني، الذي يمكن تسميته بـ "السبب الاقتصادي"، وهو من حيث المبدأ سبب ممكن، فسنجد أن أمريكا لديها قوّات وقواعد في العديد من البلدان الأجنبية البعيدة عن حدودها، ومنها ما هو أقدم من أفغانستان بكثير، وبحسب "مركز بيو (PEW) الأمريكي للأبحاث" فالقوّات الأمريكيّة تنتشر خارج أمريكا في قرابة 800 قاعدة عسكريّة و177 دولة ويختلف انتشارها بشكل كبير من حيث الأعداد بين دولة وأخرى، وأكبر عدد من القوّات الأمريكيّة هو في اليابان التي يوجد فيها أكثر من أربعين ألف مقاتل، كما يوجد 23 ألف و635 في كوريا الجنوبيّة، و34 ألفاً و435 في ألمانيا، و11 ألفاً و756 في إيطاليا، و8 آلاف و349 في بريطانيا، و8 آلاف و598 في البحرين، و9 آلاف و241 في الكويت، و13 ألفاً و329 في أفغانستان، وغيرها...، وقد بلغ في عام 2017 إجمالي عدد المقاتلين الأمريكيين المنتشرين خارج أمريكا 215 ألفا و249 مقاتلاً فاعلاً([2]).

 

وكما نرى فهناك العديد من الدول التي تنتشر فيها القوّات الأمريكيّة بأعداد أكبر من أفغانستان بكثير، أو بأعداد قريبة منها، وهذه القوّات كلّها منتشرة لحماية مصالح أمريكا المختلفة الاستراتيجيّة والعسكريّة والاقتصاديّة والسياسيّة وسواها، وأمريكا تتحمّل نفقات كلّ تلك القوّات مقابل حماية مصالحها، وأفغانستان لا تشكّل استثناءً في هذه المعادلة، ولا هي تستهلك أيضاً مصاريف باهظة استثنائيّة بالمنظور اللوجيستي.

 

 

إذاً هل تغيرت حسابات المصالح الأمريكية، فباتت ترى في وجود قوّاتها في أفغانستان هدراً بلا طائل، لدرجة أنّها باتت مستعدّة حتى لتسليمها لطالبان لتوفير ما تنفقه على قوّاتها فيها؟

 

هذا يحيلنا إلى الاحتمال الثالث القائل أنّ أمريكا لم تعد تبالي بأفغانستان، فما مدى صحّة مثل هذا الافتراض؟

 

ما لا شكّ فيه أنّ وجود القوّات الأمريكيّة في أفغانستان كان يخدم مصلحة أمريكا من الناحية الاستراتيجيّة، فهو كان يشكل عامل لجم وردع لتنامي الحركات الإسلاميّة المتطرفة فيها، التي تعتبر في السياسة الأمريكيّة الخارجيّة حركات خطرة على الأمن القومي الأمريكي والسلام العالمي، وما زالت أمريكا تخوض حربها ضدّها في معركتها الطويلة التي تسميها بالحرب ضدّ الإرهاب، ولذا من غير المعقول بالمفهوم الحربي في (حرب حقيقيّة) أن تضحّي أمريكا بانتصار كبير أحرزته على طالبان، وأن تنسحب من أرض انتصرت فيها في معركتها معها، ولها أهميّة كبيرة بالمعنى العسكري، فتعيدها إلى عدوّتها طالبان، ناسفة بذلك كلّ ما أنجزته وتكلّفته خلال مواجهة استمرت قرابة عقدين من الزمن، وكل هذا لكي توفّر بعض النفقات؛ وهذا لا يفعله حتّى الحمقى! وحتى ذرائعيّة وبراغماتيّة حرب أمريكا على الإرهاب، لا يمكنها أن تدفعها إلى مثل هذا السلوك الذي يهدّد صدقيّتها في هذه الحرب المزعومة على الإرهاب، فهذه الحرب لم تفقد ربحيّتها بعد بالنسبة لأمريكا التي ما تزال تجدها مجدية.

 

والقول أيضاً بأنّ مصالح أمريكا قد تغيّرت بهذا الشكل الجذري، إلى درجة أنّها أصبحت معدومة في أفغانستان، بحيث لم تعد أمريكا تبالي بتاتاً بمن يحكم أفغانستان سواء كان مدنيّاً معتدلاً أم متطرّفاً تكفيريّاً، هو أيضاً لا يقنع حتّى الحمقى، فليست أفغانستان أقل أهميّة من الناحية الجيواستراتيجيّة من أوروبا أو الشرق الأقصى أو الشرق الأوسط وهي صاحبة الموقع الحسّاس القريب جغرافيّاً من كل من روسيا والصين والمحاذية لإيران والهند وباكستان، وهذه جميعها قوى دوليّة أو إقليميّة لا تجهل أمريكا قطعاً تأثيراتها المختلفة على مصالحها، كما أنّه ليس من المنطقي بتاتاً أن تستمتر أمريكا في معركتها ضدّ الإرهاب، وبنفس الوقت تنسحب لصالح الإرهاب، حتّى وإن لم تكن طالبان نفسها مدرجة على قائمة الإرهاب أمريكيّاً بشكل رسمي، فالغزو الأمريكي لأفغانستان نفسه، تمّ بسبب عمليات 11 أيلول الإرهابية التي نسبتها أمريكا لتنظيم "القاعدة" الذي كانت تحتضنه أفغانستان الطالبانيّة، ما يعني أنّ هذا الغزو نفسه تمّ بذريعة محاربة الإرهاب، وبناء على جزم بوجود علاقة وثيقة بين طالبان والقاعدة، وسواء كانت طالبان مصنّفة كحركة إرهابيّة بشكل رسمي أم لا، فهي قطعاً لا تحتاج إلى تصنيف رسمي في ما يتعلق بتطرّفها، والعلاقة الوثقى بين الإرهاب والتطرّف هي بدورها لا تحتاج إلى تصنيفات رسميّة، وما لا يحتاج بدوره أيضاً إلى تصنيفات رسمية هو الموقف الأمريكي من الحركات الإسلاميّة المتطرّفة، التي تؤكد الوقائع بما لا يترك مجالاً للشكّ أنّه موقف اهتمام كبير، وهو بالطبع يختلف في جوهره كثيراً عمّا هو معلن في ظاهره حيث تدّعي أمريكا محاربة التطرف والإرهاب، وأمريكا التي استخدمت "الجهاديّين الأفغان" ودعمتهم ضدّ الاتحاد السوفييتي في حين، ثمّ حاربتهم كإرهابيّين عندما اقتضى الأمر في حين آخر، لا يمكن أن تتحوّل فجأة إلى غير مبالية تماماً بهم في منطقة حسّاسة كأفغانستان، فيما هي ما تزال مهتمّة بقوة بمواجهتهم -كما هو معلن- في مناطق أخرى من العالم، وبالأخص بعد أن تواجدت في أفغانستان نفسها لمواجهتهم حوالي عقدين من الزمن، لا سيما أنّ أيّ نشاط لهؤلاء المتطرفين في أفغانستان لا يمكن عزله عن نشاطاتهم الأخرى، وبالأخص في المناطق القريبة جغرافيّاً كالشرق الأوسط، وهو منطقة جدّ حسّاسة وخطيرة بالنسبة للمصالح الأمريكية والغربية.

 

وعليه يمكن الانتقال إلى الاحتمال الذي يفترض تغيراً في الاستراتيجيّة الأمريكيّة في كيفيّة التعامل مع طالبان.

 

لكن قبل مناقشة هذا الاحتمال لا بدّ من النظر في احتمالين مرتبطين بالدولة الديمقراطيّة الأفغانيّة المزعومة التي اصطنعتها أمريكا خلال تواجدها في أفغانستان، والتي لم تتمكّن بعد انسحاب صانعتها أمريكا من الصمود لأسابيع في وجه طالبان المعزولة دوليّاً!

 

وهذان الاحتمالان هما:

الأول: أمريكا انسحبت لأنّها يئست من إمكانيّة بناء دولة حقيقيّة في أفغانستان.

 

والثاني: أمريكا كانت تتوقّع أن تتمكّن الدولة التي أنشأتها في أفغانستان من حماية نفسها من طالبان.

يعني الافتراض الأول أنّ أمريكا التي تعبت ويئست في محاولتها الفاشلة بناء دولة معتدلة حقيقية في أفغانستان قرّرت أخيراً أن تترك أفغانستان غير مبالية بمصيرها، ومسألة اللامبالاة المزعومة، تمّ تفنيدها أعلاه، وهذا يحيلنا إلى احتمال المفاضلة بين أفغانستان تحكمها حكومة فاسدة خاضعة لأمريكا، أو تحكمها طالبان المتطرّفة المعادية لأمريكا، ولن يشك أحد في أنّ الاحتمال الأول هو الأقل سوءاً مهما كان سيئاً بالنسبة لأمريكا، وبالطبع هذا لا يستثني احتمالاً ثالثاً مفاده "أفغانستان تحكمها طالبان متوافقة أو متّفقة مع أمريكا"، وهذا ما سيتم الحديث عنه لاحقاً.

 

 

أما الاحتمال الثاني الذي يقول بأنّ أمريكا كانت تتوقّع أن يستطيع الجيش الأفغاني أن يحمي بلده من طالبان، لا سيما أنّ أمريكا صرفت 83 مليار دولار لبناء هذا الجيش، الذي كان يُزعم أنّ تعداده مع قوات الشرطة هو 300 ألف مقاتل مسلّحين بأسلحة حديثة وثقيلة مقابل 70 ألف مقاتل ميليشيوي في طالبان([3])، وبدون الدخول في ملابسات هذا الموضوع والجدل الدائر حولها بعد انهيار هذا الجيش بعد الانسحاب الأمريكي باجتياح طالباني مواز، يمكن القول لو أنّ أمريكا بنت استراتيجيتها فعليّاً على الثقة بأنّ القوات المسلحة الأفغانيّة ستصمد أمام طالبان، لكانت أوقفت انسحابها بعد أن تبدّى منذ بدايته عجز هذه القوات عن مواجهة طالبان أو كانت تصدت بنفسها -أي أمريكا- لطالبان، وأمريكا لو أرادت كانت تستطيع خلال العشرين عاماً الماضية سحق طالبان، فهي كان بمقدورها قطع كل دعم عنها، ولا سيما في باكستان التي كانت تحتضن طالبان، وهي بنفس الوقت دولة جيّدة العلاقة مع أمريكا، ولكانت أمريكا أقنعت باكستان أو حتّى فرضت عليها طرد أو محاربة طالبان، لو هي -أي أمريكا- أرادت ذلك، لكنّها لم ترد ذلك، وأبقت على طالبان لتعيد استخدامها في الوقت المناسب الذي يقتضي فيه الأمر ذلك.  

 

إذاً يمكننا القول بناء على سيناريو "الانسحاب الأمريكي الاستيلاء" أنّ استيلاء طالبان على أفغانستان لم يكن يتعارض مع إستراتيجيّة أمريكيّة يتمّ فيها الانسحاب اعتماد على تصوّر بأنّ الدولة الأفغانيّة التي شكّلتها أمريكا قادرة على الصمود في وجه ميليشيا طالبان، وبما أنّ فرضيّة اللامبالاة الأمريكيّة تجاه من يحكم أفغانستان تمّ رفضها آنفاً، فهذا يعني أن سكوت أمريكا على إعادة استيلاء طالبان على أفغانستان لم تأت بشكل مفاجئ وكنتيجة لأمر واقع فرضته طالبان، فقد كان بمقدور أمريكا منع طالبان من ذلك تماماً، ولكنّها لم تفعل، وهذا معناه الموافقة على "حكم طالبان" لأفغانستان.

 

وهذا يعيدنا إلى احتمال التغيّر في الاستراتيجيّة الأمريكيّة في التعامل مع طالبان الذي سبق الحديث عنه.

 

فهل هذا التغيّر ممكن؟

 

في مناقشتنا لهذا الاحتمال بادئ ذي بدئ علينا أن نتذكّر أنّ أمريكا رغم حربها مع طالبان، فهي لم تضعها على قائمة الإرهاب([4])، وهذا ما مكّنها من الدخول معها في مفاوضات، بل من الممكن القول أنّ رغبة أمريكا بالتفاوض مع طالبان هي السبب الرئيس في عدم وضعها على قائمة الإرهاب، فأمريكا لم تكن تريد أن تحارب طالبان أو أن تقضي عليها بذريعة أنّها حركة إرهابيّة، وكانت تفاوضها لتعمل لاحقاً معاً أو تستعملها، وهذا ما جرى، فقد وقّعت أمريكا اتفاقاً مع طالبان يقضي بانسحاب القوّات الأجنبيّة من أفغانستان في 1 مايو/أيار 2021([5])، وأمريكا باشرت بالانسحاب حتّى بدون وجود اتفاق أو تسوية سياسيّة بين الحكومة الأفغانيّة وطالبان، ولم تلتزم بالاتفاق الذي كان ينصّ على أن تنسحب أمريكا إن أوفت طالبان بالتزاماتها والتزمت بالجزء الخاص بها من شروط الاتفاق ([6])، فهل كان التزام طالبان يعني اقتحامها لأفغانستان والاستيلاء على السلطة فيها، وهذا ما نفّذته بأحسن ما يكون؟

 

هذا.. وما تمّ ذكره آنفاً بخصوص الاحتمالات الكامنة وراء انسحاب أمريكا من أفغانستان بهذا السيناريو الجد مريب الذي أزعج كثيراً ليس فقط خصوم ومنافسي أمريكا، بل الكثير من حلفائها وأصدقائها أيضاً، يضعنا في المحصّلة النهائية أمام احتمال واحد، ولكنّه ذو فرضيّتين، وفحوى هذا الاحتمال كما سلف الذكر هو أنّ أمريكا أعادت تسليم أفغانستان بشكل متعمّد لطالبان لأنّ لديها غاية استراتيجيّة من ذلك.

 

أمّا الفرضيّتان اللتان يمكن أن نضعهما بهذا الشأن، فهما:

 

  • الأولى هي أنّ أمريكا تريد مجدداً خلط الأوراق واستعمال مبدأ الفوضى الخلّاقة في أفغانستان، لذلك أعادت طالبان إلى أفغانستان لتقوم طالبان بما هو منتظر منها، فتحوّل أفغانستان إلى مركز للتطرّف والعنف يطال تأثيره الدول المجاورة ويمتد إلى كلّ من روسيا والصين، وبذلك تكون عودة طالبان سبيلاً للضغط على كلّ من روسيا والصين وإيران، وسواهما من دول تلك المنطقة التي تريد أمريكا أن تضغط عليها لغاية أو لأخرى.

 

  • الثانية هي أنّ أمريكا تريد تجربة أسلوب جديد في التعامل مع طالبان، والاعتراف بها والتعامل معها بدلاً من رفضها ومحاربتها، وهذا يطرح سؤالاً جوهريّاً عن السبب الذي يجعل أمريكا تفعل ذلك، وهنا يمكن أن نفترض أنّ أمريكا تجد أنّه من الأجدى لها أن تتعامل مع حكومة إسلاميّة في أفغانستان لا تُعرّض مصالح أمريكا للخطر، بدلاً من أن تتعامل مع حكومة "مدنيّة مزعومة" فاسدة فاشلة تجد أمريكا نفسها مضطرة لتحمّل مسؤوليتها وحمايتها إلى أجل غير معهود، وهذا الخيار يقتضي من طالبان بدورها أن تراعي مصالح أمريكا وحلفاءها، وألّا تسبب لأمريكا الإحراج بانتهاج سياسات متطرّفة.

 

في واقع الأمر كلتا الفرضيّتين المذكورتين لا تتناقضان قطعاً مع المبدأ الأساسي في السياسة الأمريكيّة القائم على البراغماتيّة أو النفعيّة، والتعامل الأمريكي مع القوى الإسلاميّة بشكل معلن وغير معلن في أفغانستان وسواها ليس جديداً في السياسة، فعدا عن دعم أمريكا السابق للمسمّين "مجاهدين" في الثمانينيات، هي مثلاً أيضاً كانت مستعدّة لتعامل طويل الأمد مع "الإخوان المسلمين" في مصر بعد أن وصلوا إلى السلطة بعد ثورة يناير المصريّة.

 

أمريكا في علاقتها مع الإسلام السياسي والجهاديّين الإسلاميّين لا تعتمد قطعاً على مبادئ وقيم إيديولوجيّة ثابتة، لكنّها بالمقابل تعتمد في ذلك على أسس براغماتية ثابتة، فتعاملهم وفقاً لما تقتضيه المصلحة الأمريكيّة وحسب، ولذا تتغيّر المعاملة وفقاً لما يُناسب تلك المصلحة، فتحاربهم إن اقتضى الأمر، وتهادنهم أو حتّى تحالفهم عندما يقتضي الأمر أيضاً.

 

بالطبع كلّ من تلك الفرضيّتين يمكن أن يكون لها انعكاسات سلبيّة محرجة على أمريكا، فجريان الأمور وفقاً للفرضيّة الأولى سيجعل أمريكا تبدو وكأنّها انسحبت من أفغانستان لصالح المتطرفين التكفيريّين والعنفيّين الإسلاميّين، ويُضعف مصداقيتها في محاربة التطرّف والإرهاب عند من يعتقد ذلك، ولكن هل لهذا قيمة عمليّة في الحسابات الأمريكيّة؟ واقعيّاً.. هذه القيمة أيّا كانت هي نفسها تبقى أمريكيّاً محكومة بالمعايير البراغماتيّة وحسابات الربح والخسارة، وعدا عن ذلك فبمقدور أمريكا دوماً أن تجد المبرّرات والذرائع المناسبة لأيّ تصرف تتصرّفه، لتقلّص بها تداعيّاته السلبيّة، وهي اليوم مثلاً تتذرّع بـحماية حيوات جنودها وعامليها وعدم تعريضهم لأخطار خارجيّة هي في غنى عنها.. وبأنّها ليست مضطرة للتدخّل العسكري في كلّ مكان تتواجد فيه القاعدة، وهلمّ جرّى...

 

أمّا جريان الأمور وفقاً للفرضيّة الثانية، فهو يقتضي تغيّراً ملموساً في السلوك الطالباني، ومن الممكن أنّ ثمّة في السرّ اتفاق وضمان ما بهذا الشأن، جعلا أمريكا تعيد أفغانستان لطالبان وهي مطمئنة إلى أنّ طالبان "ستفي بالتزاماتها"، والالتزامات الطالبانيّة هنا تعني كما سلف الذكر "عدم المساس بالمصالح الأمريكيّة وعدم التسبّب بإحراجات لأمريكا"، وإن تمّ ذلك بالفعل، فسيكون ذلك نجاحاً لأمريكا بالمعايير الأمريكيّة، وهو لن يتوقّف عند حدود أفغانستان، بل سيمتدّ إلى بقيّة العالم الإسلامي ليبدو وكأنّه بادرة حسن نيّة من أمريكا تجاه المسلمين والإسلاميّين، وسيكون ذلك جيداً من الناحية الدعائيّة لأمريكا في العالم الإسلامي الذي يتفشّى فيه التشدّد والتطرّف الدينيّين.

 

عدا عمّا تقدّم يمكن أن نتوقّع أيضاً أن تجري الأمور بشكل يجمع بدرجة ما وشكل ما بين كلا الفرضيّتين، بحيث يستثني نشاط طالبان المتطرّف مصالح أمريكا وحلفائها، ليطال فقط من ترضى أمريكا أو تريد أن يطاله هذا النشاط.

 

وخلاصة الكلام.. التفسير الأرجح للانسحاب الأمريكي من أفغانستان هو أنّه تمّ بناء على ثقة أمريكيّة بأنّ طالبان ستعود إلى الحكم بعده، ما يعني وجود نيّة أمريكيّة مسبقة لإعادة طالبان إلى السلطة، والغاية من ذلك هو إحراج كلّ من روسيا والصين وإيران بشكل رئيس والضغط عليها بواسطة طالبان، وبدرجة أو بأخرى شغلها بها أو دفعها للتنسيق مع أمريكا لمواجهتها.

 

مع ذلك.. فهذه الأمور كلّها ستنكشف كوامنها في ما يأتي من أيام، وستتبدّى بشكل أوضح حقيقة السلوك الأمريكي، والسبب الذي انسحبت أمريكا بموجبه من أفغانستان لتتركها لطالبان وغايتها من ذلك، لكن ما يمكن الجزم به منذ هذه اللحظة أنّ كلّ حديث عن "هزيمة أمريكيّة" في أفغانستان هو في أحسن أحواله يصل إلى درجة الخرافة!

 

والقضية كلّها قضية حسابات نفعيّة بحتة، فوجود أمريكا في أفغانستان لم يكن بلا مكاسب فعليّة، وانسحابها بهذا الشكل لم يتمّ بدون تداعيات وانعكاسات سلبيّة لا يمكن تجاهلها، فلماذا تضحّي بمكاسبها وتستبدلها بخسائر مجاناً، وفي وقت ليس هناك أيّة ضرورة حازمة تضطرها لفعل ذلك؟

 

وبالتالي لا يبقى إلّا القول أنّ ما يجري هو مجرّد تغيير في شكل وأسلوب لعبة تحقيق المصالح الأمريكيّة لا أكثر.

 

 

[1] -باكستان تتخوف من المتشدّدين واللاجئين بعد مكاسب طالبان، قناة الحرة، 10 حزيرانيوليو 2021، https://cutt.us/hQhQy

[2] - خريطة انتشار الجيش الأمريكي في العالم.. أعداد ودلالات، وكالة الأناضول، نقلا عن Washington DC ، 11-12-2017، https://cutt.us/OomdU

 

[3] - ما أسباب الانهيار السريع للجيش الأفغاني أمام طالبان؟ فرانس 24، 17-8-2021، https://cutt.us/e9aKg

[4] -رغم حربها عليها.. لماذا لم تدرج واشنطن طالبان في قائمة المنظمات الإرهابية خلال الـ20 عاما الماضية؟ أخبار الجزيرة نت،19-8-2021، https://cutt.us/w6Oi5

[5] - ما أسباب الانهيار السريع للجيش الأفغاني أمام طالبان؟ مرجع سابق.

[6] -أمريكا وطالبان توقعان اتفاقا تاريخيا لانسحاب القوات الأجنبية من أفغانستان، Reuters، 29-2-2020، https://cutt.us/sgWDR

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard