هل تتحول سوريا إلى (كوريا شمالية) جديدة؟!
في إحدى المشاهد التي يكررها الرواة والنقاد مراراً من رواية تشارلز ديكنز الخالدة "قصة مدينتين" مشهد انكسار برميل مملوء بالنبيذ الأحمر في أحد شوارع حي (سانت أنطوان)، أفقر أحياء مدينة باريس وأكثرها بؤساً، فيترك الناس هناك أعمالهم ويسرعون إلى المكان ليحاولوا التقاط ما استطاعوا إليها سبيلاً من قطرات النبيذ قبل أن تبتلعها الأرض.
بعضهم يخلع ثيابه ويغمسها في النبيذ المسكوب ثم يعصرها في فمه!! النسوة أيضاً يملأن المحارم القماشية بالنبيذ، ويعصرنها في أفواه أطفالهن.
كان ذلك عام 1775 قبل قيام الثورة الفرنسية، والهجوم على سجن الباستيل رمز الاستبداد والظلم. . .
يملأ رجل كفه من النبيذ الأحمر المسكوب، ويكتب به على الجدار كلمة blood . . ستمتلئ هذه الشوارع بالدماء. .. وهو ما حصل فعلاً.
بينما كانت الارستقراطية الفرنسية تمارس حياتها بكل الترف والبذخ، متناسية أن هؤلاء الجياع حرائق قادمة ستأتي على كل شيء بما فيه أنفسهم.
الوضع الآن في سوريا يفوق البؤس والفقر في سانت أنطوان بما لا يقاس. في سوريا الآن جوع حقيقي، لا إلى النبيذ، فهو ترف غير وارد في أذهان سكان نهر عيشة ووادي المشاريع والسبينة وكشكول، وبقية أحياء حزام الفقر الذي يحاصر دمشق والمدن السورية الكبرى كنتاج لغياب أي خطط تنموية في عهود حكم العسكر، منذ أن اغتالت وحدة 1958 حلم الدولة المدنية العصرية التي كانت تُشيَّد في سوريا، تحوَّلت أطراف المدن، التي نظّمها الانتداب الفرنسي (1920 - 1946) بطريقة عصرية حينذاك، إلى ثآليل ضخمة ومرعبة لا تنتج سوى التوتر والتطرف والحقد والعنصرية نتيجة الاختناق، والبيئة غير الصحية اجتماعياً وثقافياً وبيئياً، تجمعات لا علاقة لها بالمدينة كمفهوم وبنية اجتماعية، بل كتل مقتلعة من ريفٍ غزاهُ التصحُّر والفقر إلى هناك لتعيد بناء عصبياتها ومجتمعاتها، الأمر الذي خرج إلى السطح مع اندلاع المظاهرات المطالبة بالإصلاحات والحريات، إذ تحوّلت ـ بفعل التحريض والتحشيد من السلطة أولاً ومن الفصائل الإسلامية تالياً ـ إلى صراع بين أحياء حسب لونها الطائفي والمناطقي للأسف.
بينما انحصر اهتمام العسكر بتراكم المزيد من الثروات، وبتجنيد أبناء هؤلاء المرميين في هوامش المدن في أجهزتهم وميليشياتهم كملاذ أخير لهم يستقوون به على بعضهم.
الجوع الآن هو إلى رغيف الخبز، وكمشة رز وسكر وقارورة زيت نباتي، الغذاء الضروري لاستمرار الحياة صار المطلب الأول للسوري الذي لم يهاجر خوفاً أو طمعاً، وبقي هنا إلى أن وصل دخله الشهري إلى 20 دولاراً فقط لا تكفيه للعيش سوى ليوم أو يومين في أحسن الأحوال، مع أزمات خانقة في كل القطاعات من المحروقات بأنواعها إلى المواصلات والسكن وغيرها.
السوري شابّاً كان أم عجوزاً، رجلاً أم امرأة، معارضاً كان أم مؤيداً، لم يعد له سوى حلم وحيد، أو حلّ وحيد: الهجرة، وقد أصبحت معظم الأبواب مغلقة حتى أمام هذا الحلم.
انتشرت مؤخراً في وسائل التواصل الاجتماعي فيديوهات ساخرة عن ندوة تلفزيونية في التلفزيون الحكومي عن ظاهرة هجرة الشباب السوريين، وكانت فعلاً تبدو كما لو أنها مشاهد من مسلسل كوميدي (مرايا أو بقعة ضوء).
الندوة التي شاركت فيها دكتورة في كلية الإعلام معروفة بولائها الشديد، ومحلل سياسي برز مع اندلاع الأحداث عام 2011 ما زال يصر على أنّ كل ما حدث مرده إلى مؤامرة حيكت على البلد في غرف مظلمة، وأنّ (كل شيء حيتصلح) على قول أحد أبطال فيلم عادل إمام "النوم في العسل" المصابين بعجز جنسي جماعي، مع تاجر دمشقي لم يخف أنّ أولاده يعيشون في ألمانيا بينما هو يدعو الشباب السوريين إلى البقاء في الوطن، والاستفادة من القروض البائسة والعسيرة التي تمنحها المصارف المفلسة أساساً.
الجميع أجمع على أنّ مشكلتنا هي غياب الرقم الإحصائي لأعداد المهاجرين، وأنّ هناك تهويلاً وتضخيماً إعلامياً لهذه المشكلة. بل أنّ الفهلوة وصلت بهم إلى استنتاج أخطر، وهو أنّ أجدادنا الفينيقيين كانوا يعشقون الهجرة والسفر، ويجوبون البحار. وبالتالي فإن ما يحصل من هجرات جماعية الآن هو "عَرَض وراثي طبيعي" لا شفاء منه!! فالـ DNA تفعل فعلها فينا كما اكتشف السادة المحاورون، وصفقت لهم المذيعة، وضحك المشاهدون طويلاً.
وتنشط وسائل إعلام محلية على طرح الموضوع مؤخراً من باب مناشدة السلطة لإيجاد حلول للنزف الاجتماعي الحاصل بهجرة الشباب والخريجين الجامعيين تحديداً، والحلول طبعاً لا تكون حسب منطق الحكومة ومحلليها بتأمين حياة لائقة، وعمل وسكن ومواصلات لهؤلاء المنهكين من حرب السنوات العشر، بل بإجراءات زجرية ومنع وحظر وتعسير الحصول على جوازات السفر . ..إلخ من الحلول المعتادة منهم.
وإذا لبّت السلطة بطريقتها المعهودة ما يطرحه محللوها وإعلاميوها، وهم ليسوا منفصلين طبعاً عنها، بل لا يخفى أنّ وراء إثارة الموضوع المسكوت عنه لسنوات في الإعلام، ودق ناقوس الخطر لهذا النزف الشبابي في زمن "إعادة الأعمار"، ما وراءها، فإننا سنكون أمام معضلة أكبر، وهي الإغلاق الكامل على من تبقى في البلد.
وان ما يحصل الآن من تضييق على الشباب، سواء في الحصول على "مصدقات تخرج" من الجامعات، أو على جوازات السفر، أو موافقات من شعب التجنيد على السفر، وتكليف ذويهم مبالغ طائلة مقابل هذه الإجراءات سواء كرسوم وضرائب، أو كرشاوى لحلقات الفساد التي تتسع يوماً بعد يوم، كلّ هذه التضييقات تشي ببداية لإجراءات أقسى قد تحوِّل سوريا فعلاً إلى "كوريا شمالية" في الطرف الآخر من آسيا، حيث تُغلق أمام المواطن كل أبواب ونوافذ البلد، وتُمنع عنه وسائل الاتصال والإعلام سوى الإعلام الرسمي، حتى يقال ـ والعهدة على الراوي ـ إنّ المواطنين الكوريين صدّقوا مرغمين ما أعلنه مرة التلفزيون الكوري بأنّ كوريا الشمالية حازت على كأس العالم بفضل تعاليم وتوجيهات القائد الفذ طبعاً.
هناك طريق آخر لا يبدو أنّ أحداً جاهز للبدء الفعلي به لإيقاف هذه الكارثة، طريق لا يفضي إلى سجن من تبقى من السوريين خلف أسوار عالية وعزلهم عن العالم، وهو الحل السياسي الذي يعيد الثقة للناس بالمستقبل، ويفتح بوابة لطريق طويل ينهي زمن التفرد والفساد والتخلف ويبدأ ببناء دولة القانون والحق والمؤسسات.
فأي طريق ستسلك هذه البلاد التي تحتاج إلى رب يطعمها من جوع ويؤمنها من خوف؟!