النار حين تحرق نفسَها
يقول الخبر: "أقدم مواطن سوري من مدينة حمص وسط سوريا، في 13/12/2021، على إطلاق النار على محولة كهرباء في حي ع.... بحمص احتجاجاً على ساعات التقنين الكهربائي الطويلة"، والتي حولت حياة الناس إلى جحيم في ظل أزمة محروقات خانقة في شتاء هذا العام مما حرم الناس من أي وسيلة تدفئة، حيث كان الناس يستعيضون عن فقدان المازوت بالتدفئة بسخانات الكهرباء خلال ساعات التزويد القليلة بالكهرباء خلال السنوات الماضية، ويلجأ بعضهم إلى التدفئة بالغاز المنزلي، أما الآن فلا مازوت ولا كهرباء ولا غاز!! وإن توفر في السوق السوداء فأسعاره تفوق طاقة المواطنين العاديين، ولا يتحملها إلا الأثرياء.
الاعتداء أدى لحرمان خمسة أحياء من المدينة من الكهرباء بعد خروج المحولة التي يبلغ ثمنها 130 مليون ليرة عن الخدمة حسب مصادر شركة كهرباء حمص.
حدثٌ عادي كان يمكن أن يمرّ مرور الكرام لو حدث في بلد آخر غير سوريا، إذ يحصل أن يخرج أناس من المجتمع عن القانون، أو تكون ردود أفعالهم قاسية تجاه مشكلة ما تعترض حياتهم تتعلق بالخدمات المقدمة من الحكومة، فينتقمون ـ تحت تأثير فورة الغضب ـ من المنشأة التي تقدم الخدمة بتخريبها أو تدميرها، وبالتالي يزيدون المشكلة تعقيداً وكلفة، عندها تقوم الجهات المختصة بتوقيف الشخص ـ أو الأشخاص ـ وتطبيق القانون عليه بتحميله تكاليف إصلاح ما أحدثه من عطل وضرر للمنشأة ولمستخدميها، وتنفيذ ما ينص عليه القانون إزاء فعلته.
الحالة تذكرنا بما أشار إليه البيان الشيوعي (1848) لماركس وأنجلز من حالات الحقد على الآلة التي يعمل عليها عوضاً عن الحقد على مالكها المستغِّل لجهده: (وهُم ـ أي العمال ـ لا يوجّهون هجماتهم إلى علاقات الإنتاج البرجوازية فحسب، بل أيضاً إلى أدوات الإنتاج نفسها، فيتلفون السلع الأجنبية المضاربة، ويُحطِّمون الماكينات، ويُضرمون النار في الفبارك، ويَسعون إلى استعادة الموقع المفقود، موقع الصانع في القرون الوسطى).
الخبر يشير إلى ظاهرة بدأت تنمو في الأوساط التي كانت إلى وقت قريب معاقل للنظام و"الحاضن الشعبي" له، وإن كانت في بداياتها، ومظاهرها هامشية وضعيفة.
مؤيدون ولكن . . .
الاعتداء على المحولة جرى في حي ع.... المعروف بأنه أحد معاقل التأييد للنظام، وقد استخدم النظام أبناء الحي، وشبابه تحديداً، في قمع المظاهرات الشعبية التي انطلقت في معظم أحياء حمص، وكان هذا الاستخدام الأرعن لسلاح الطائفية أحد العوامل الأساسية في تحويلها إلى حرب أهلية على خلفية طائفية جرّت البلاد إلى مستنقع دم وخراب ما زلنا نشهد تداعياته.
الحي الذي ينتمي إلى بيئة الموالاة، وكان غالبية سكانه يعتبرون أنفسهم أصحاب البلد والحريصين على بقائه واستمراره، ومعنيين بحماية المنشآت الحكومية ضد أي اعتداء ممن يعتبرونهم أدوات المؤامرة الخارجية التي تتربص بالممانعة ومحورها، لكنهم يجدون أنفسهم الآن أمام مجاعة حقيقية، وحرمان من أبسط متطلبات العيش (خبز، ماء، كهرباء، مواصلات . ...الخ).
هكذا تتزايد نقمة الوسط المؤيد على الوضع المعيشي والخدمي السيئ جداّ، وقد بدأت بوادر التململ من وعود تحسين معيشة الناس التي تذهب مع الريح، فبعد أن حارب هؤلاء سنوات طويلة دفاعاً عن النظام، وفقدوا مئات الآلاف من شبابهم، يصبح جزاؤهم كل هذا الحرمان والبؤس، في حين أنهم يشاهدون بأم العين، وعبر وسائل التواصل أيضاً، مظاهر الإسراف والرفاهية والترف والبطر التي يمارسها المسؤولون وتجار الحرب، الذين سرعان ما تحولوا إلى رجال أعمال يبيّضون أموالهم المسروقة من دماء أبناء هؤلاء الفقراء بتسهيلات لا يحلم بها أي مستثمر، وبشراكات مكشوفة مع رموز السلطة التي فرّختهم ورَعَتْهم، وتستخدم بعضهم كواجهات مالية واستثمارية سرعان ما تستبدلهم، وتأتي بوجوه جديدة.
لقد أصبحت دارجةً حوادثُ سرقة تجهيزات وكابلات المنشات الحكومية وآبار المياه ومراكز تحويل الكهرباء من قبل عناصر مسلحة تابعة للنظام، سواء بشكل رسمي (جيش، أمن)، أو بصفة ميليشيات رديفة له (دفاع وطني وغيره)، وتؤدي حوادث السرقة هذه إلى تحميل الميزانية المتهالكة أساساً مبالغ طائلة لإصلاحها.
ويتم تسجيل هذه الجرائم ضد مسلحين مجهولين، أو ضد "العصابات الإرهابية المسلحة"، وهي التسمية التي يطلقها النظام على مسلحي المعارضة، في حين يعلم الجميع هوية القائمين بهذه الأعمال، خاصة بعد استتباب سيطرة النظام والميليشيات المؤيدة على ثلثي الجغرافيا السورية، وهي المناطق ذاتها التي تشهد هذا الاستحلال لممتلكات الدولة وأموالها.
أول الرقص
النقمة التي تتزايد في صفوف مؤيدي النظام تظهر على صفحات التواصل وفي مقاطع يوتيوب ينشرها شباب وشابات منهم، كما تظهر في مظاهر احتجاج فردية غالباً. لكن المميز فيها جميعاً أنها ما زالت تشير بأصابع الاتهام الى إلحكومة بشخص رئيسها ووزرائها، والجهاز التنفيذي من محافظين ورؤساء بلديات ومدراء عامين وحتى أعضاء مجلس الشعب المعروف للجميع كيف "يُنْتَخب" أعضاؤه، وما هي حدود مداخلاتهم وصلاحياتهم.
بينما يتجنب المنتقدون أي إشارة إلى موضع الخلل الأساسي، وهو سلطة الاستبداد المطلق الشمولي، والأجهزة الأمنية التي تتبع لها وترسم كل السياسات حتى في أدق تفاصيلها، إذ لا يُعيَّن مختار أبعد قرية في سوريا دون نيل رضاهم وموافقتهم، فيبقى الأمر مجرد "فشة خلق" ترمي بكل أسباب الفساد المستشري والرشوة وغياب القانون، وتنمر حملة السلاح على وزراء وموظفين تنفيذيين لا حول لهم ولا قوة أمام تغوّل السلطة المستبدة.
الأمر أقرب إلى تمثيلية هزلية يشارك فيها الجميع حكاماً ومحكومين، يعود عمرها إلى عقود منذ أول انقلاب عسكري اغتال الحياة المدنية، وحوَّل البلاد إلى ثكنة عسكرية تأتمر بأمر القائد الأوحد.
الكل يعلم أنّ من تُوَجَّه إليه سهام النقد والاتهام هو مجرد منفِّذ لأوامر سلطة مطلقة شرسة لا تسمح بمجرد نفس معارض لإرادتها وقراراتها، والوزير أو المدير أو المحافظ ما هو إلا موظف يسمح له بأخذ جعالته من موارد الفساد ضمن حدود وشراكات تحت المراقبة المستمرة، وهو في الوقت نفسه يقبل بدور مَكْسَر عصا للحكام والمحكومين.
لكن، حين يعضّ الجوع بنواجذه على بطون الناس، ويتركهم ولي أمرهم، الذي وصلوا إلى حدود عبادته، فرائس للجوع والحرمان والبرد، والتزاحم على وسائل المواصلات، تصبح صيحة الطفل "الملك عارٍ" أعلى وأعلى، ويرددها الجميع.
فهل سنشهد ثورة جياع ضمن البيئة الموالية للنظام قريباً؟!
من المعلوم أنّ الفقر وحده لا يصنع ثورة، الأمر يحتاج تنظيماً وقوى سياسية تقود الحراك إلى أهدافه، وتكون في مقدمة الناس الثائرين ومعهم، وهذا غائب تماماً في سوريا بعد عقود من احتكار العمل السياسي من قبل حزب البعث، وتفريغ المجتمع من قواه الحية، وقمع وسجن كل من يعارض سياسات النظام وأعماله. وبعد أن أنتجت السنوات العشر من الحرب الأهلية معارضة أقرب إلى نسخة جديدة من النظام، وأزاحت المعارضة السياسية الحقيقية فاسحة المجال أمام الانتهازيين وراكبي الموجات لاحتلال واجهات العمل السياسي المعارض.
البلاد أمام طريق مسدود في ظل تعنت السلطة ولامبالاتها بوضع شارعها من جهة، وغياب أو تغييب معارضة فاعلة قادرة على تعبئة الشارع وقيادته وتنظيمه نحو تحقيق مطامح الناس التي لم تعد تريد سوى حياة تليق بالبشر أولاً وثانياً وثالثاً، ولم يعد همها الأول تغيير نظام أو "الظفر بالحريات الديمقراطية"، بل أصبح حلمهم وشغلهم الشاغل هو "الستر"، الذي يعني تأمين الحاجات الأساسية من غذاء ودواء وماء وكهرباء ومحروقات وتعليم وصحة ومواصلات . ...الخ.
هذا الاستعصاء الشعبي والرسمي يفسح المجال واسعاً أمام احتمالات فوضى عارمة لا تبقي ولا تذر، وتكمل الخراب الذي أنتجه الصراع المسلح خلال عشرة أعوام، وهو أسوأ احتمال يمكن أن يتمخض عنه هذا الوضع المتوتر.
نعم، إن النار تحرق نفسها حين لا تجد ما تحرقه.