غزوة غويران الفاشلة وهشاشة الاصطفافات في سوريا
غويران، ذلك الحي المنسي على أطراف مدينة الحسكة المنسية في أقصى الشمال الشرقي من سوريا.
كانت سجلات الحكومة تعتبرها دائماً من "المناطق النامية" التي بقي مستوى التعليم، والخدمات فيها من الدرجة الخامسة بالنسبة للمدن الكبرى ومناطق الداخل والجنوب على الرغم من أنها المحافظة التي تعتبر خزان الاقتصاد السوري من نفط وقمح وقطن.
غويران صارت ناراً على علم بعد ما حدث في 20 من كانون الثاني 2022. في هذا اليوم فاجأت داعش العالم وقوات التحالف الدولي بكل قدراتها التجسسية، وقوات سوريا الديمقراطية وأجهزتها الأمنية، وشنت هجوماً منسقاً غير مسبوق، منذ انهيار دولتها في آخر معارك الباغوز عام 2019، على سجن غويران العسكري الذي تديره قسد، وفيه حوالي 5000 سجيناً من عناصر داعش وقادتها وصبيانها، وهم من جرى اعتقالهم خلال فترات الصراع مع التنظيم الإرهابي، كما جرى نقل أطفال عائلات التنظيم (داعش) ممن بلغوا سن الفتوة من المخيمات التي تأوي نساءهم وأطفالهم إلى ذلك السجن وسجون أخرى ريثما ينظر المجتمع الدولي والدول التي يحمل الكثيرون منهم جنسيتها في مصير هؤلاء، الأمر الذي لا يحرز أي تقدم في المدى المنظور، بل إنّ بعض الدول أسقطت جنسياتها عن مواطنيها الذي تطوعوا للقتال مع داعش في سوريا والعراق ليتخلصوا نهائياً من أعبائهم وأعباء عائلاتهم، وليبقوا مشكلة مستعصية بوجه سلطة الإدارة الذاتية الناشئة في شرقي الفرات التي لا تكفيها مشكلاتها الكثيرة حتى يضاف إليها الميراث الداعشي الثقيل.
وفي الوقت نفسه كانت مجموعات من السجناء تنفذ تمرداً داخلياً بالتنسيق مع "إخوتهم" المهاجمين لإحداث المزيد من الإرباك والبلبلة في صفوف حراس السجن، وإدارته والمؤازرات القادمة من "قسد".
طبعاً الأسئلة كثيرة حول قدرة التنظيم الذي كاد أن يختفي من المشهد العسكري والسياسي خلال السنوات الثلاث الأخيرة، سوى بعض العمليات المحدودة حجماً وتأثيراً خلالها، على تأمين هذا العدد من المهاجمين وهذه الكمية من الأسلحة المتوسطة والخفيفة والذخائر، وإمكانات الوصول إلى السجناء والتنسيق معهم، ثم وصول انتحارييها إلى أسوار السجن، وتفجير أنفسهم لفتح ثغرات دخول "الانغماسيين" من أكثر من جهة.
المعارك التي استمرت خمسة أيام، وأسفرت عن مئات القتلى في صفوف الطرفين، وتدمير أجزاء من السجن والمباني المجاورة نتيجة تدخل طيران التحالف، والأهم والأقسى نزوح حوالي 45 ألف مدني من سكان الحي والأحياء المجاورة، حيث لاذ الهاربون من سجناء داعش ومقاتليها، واضطرت قسد إلى فرض حظر للتجول على الحسكة، وفرض طوق أمني كامل عليها لضبط الوضع.
لكنها أسفرت أخيراً عن هزيمة داعش، واستعادة السيطرة على السجن، واعتقال معظم المجرمين الفارين والمهاجمين أيضاً، وهو نصر عسكري لقسد وحلفائها، كما كان الهجوم خرقاً لا يمكن الاستهانة به.
بعد أن انتهت المعمعة، وبدأت التحقيقات لمعرفة ملابسات الهجوم وأسبابه، ونقاط الضعف التي تسلل منها أفراد داعش، سنتوقف عند مسألة مهمة لفتت الأنظار خلال المواجهات وموجة النزوح الكبيرة، وهي تبدُّل الاصطفافات والمواقف خلال هذه الأيام الخمسة التي هزت الجزيرة بل سوريا والمنطقة، حيث صار خطر عودة الوحش الداعشي خطراً ماثلاً أمام العيون، وربما راهن على تلك "العودة المظفرة" الكثيرون من جماعة "فصائل السورية المسلحة" الذين هم في حقيقتهم صفوف خلفية للفصائل الإسلامية المتطرفة من داعش، والنصرة، ومعظم فصائل "الجيش الوطني السوري" التي يسيطر عليها ويموّلها تنظيم الإخوان المسلمين مع حلفائه في قطر وتركيا خصوصاً.
الإعلام السوري الرسمي تعامى تماماً عن سبب الأزمة الطارئة، وهو هجوم داعش، وسلّط كلّ أضوائه عبر مراسليه في الحسكة، وتصريحات محافظ الحسكة، والمسؤولين الرسميين، على الأزمة الإنسانية الناشئة عن قيام قسد بحملة مداهمات، وحصار لحي غويران والأحياء المجاورة، ونزوح الأهالي مع الإجراءات التي اتخذها المحافظ المشلول أساساً، وأجهزته في مساعدة الأهالي، وتزويدهم باحتياجاتهم الأساسية.
وتم تصوير الأمر على أنّ "قسد" و"قوات الاحتلال الأمريكي" تنكل بالأهالي من العرب وتهجرهم من أحيائهم، دون أي إشارة إلى المسبب الأول للحالة الكارثية في المنطقة من قبل ومن بعد، وهو التنظيم الإرهابي الذي ما إن يختفي حتى يعود كلما أرادوا ممارسة ضغط على قسد أو الأمريكان، أو كلما احتاج الحليفان الروسي والإيراني لرمي أوراق جديدة في حلبة الصراع مع أمريكا والغرب.
اقرأ أيضاً:
أحداث سجن الصناعة دروس خارج إطار الصورة
وكان واضحاً إنّ الإعلام الرسمي السوري يلمح إلى محاولات "قسد" في تنفيذ "تطهير عرقي" للمناطق العربية من الحسكة، في محاولة لإشعال فتيل فتنة بين المكونين العربي والكردي في الحسكة (وكلاهما موجود في قسد طبعاً).
النغمة نفسها ظهرت لدى إعلام المعارضة التابعة لتركيا وقطر، من الائتلاف وتفرعاته، ووسائل الإعلام "المستقلة" مثل تلفزيون سوريا المدار من عزمي بشارة، وتلفزيون أورينت المعروف تمويلاً وإدارة.
فقد ترك كل هؤلاء الوحش الداعشي المنفلت، والذي يشكل خطراً على الحياة والناس، وركزوا نيرانهم على قسد و"إرهابيي PKK"، الذين وُضعوا مع إرهابيي داعش في سلة واحدة، لتمرير فكرة تصوير الصراع بين طرفين إرهابيين يدفع ثمنه المدنيون في الحسكة، وهي الطريقة ذاتها التي اتبعها مناصرو النظام خلال السنوات الأولى لاندلاع الثورة السورية، عندما كانت ثورة سلمية، حيث كانوا يصورون موضوع القمع الوحشي الذي مارسته قوات النظام ضد المتظاهرين والمناطق الثائرة على أنه أمر عادي تقوم به أي حكومة في وجه نشاطات إرهابية تنشر الفوضى والخراب.
كما ركّزت المعارضة الحليفة لتركيا وقطر وإعلاميوها على النفخ في قربة الصراع العربي الكردي، والضجيج الإعلامي عن نوايا قسد إجراء تطهير عرقي في الأحياء العربية في الحسكة بحجة الهجوم الداعشي، وهم يصرون على استخدام اسم "تنظيم الدولة" في محاولة لتحسين سمعة التنظيم الإرهابي باسمه المتعارف عليه.
هذا الالتقاء الحميمي بين خصوم الأمس، والذي ولد فجأة مع هجوم داعش هل هو صدفة؟!
في الحرب السورية المستمرة ولدت حركات وتجمعات وقوى ثم غابت، وحلّت أسماء أماكن أخرى، لكن الجوهر كان إنّ من سيطر على منصات المعارضة الرسمية في غالبيتهم هم خريجو مدارس السلطة الذين شربوا من حليبها وتفيئوا مكاسبها، ثم اكتمل منهاجهم التثقيفي والنظري بالانضمام أو التحالف مع الإخوان المسلمين، فولدت تشكيلة مشوهة وهشّة من الانتماءات والانحيازات التي تختبئ تحت قشرة الدعوة إلى الثورة والتغيير وبناء نظام مدني (هكذا وكأن المدنية هوية سياسية لنظام قادم)، وهو المصطلح الذي مرره الإخوان كبديل عن النظام العلماني المنشود، والذي يصيب الإخوان وحلفاءهم الجدد بالحكة والحساسية.
هذه القوى الهشّة والمتراوحة بين أصوليات قومية ودينية ويسارية تلتقي حيناً وتفترق أحياناً، جاءت لحظة الهجوم الداعشي ليلتقوا كلهم ضد قسد وليس ضد الخطر الداعشي، وهو لا يعبِّر عن عمى فكري وسياسي ووطني أيضاً فحسب، بل يعبِّر عن حقيقة الفكر المسيطر لدى هؤلاء، وعجزهم عن الخروج من إسار أيديولوجياتهم البائدة تجاه خطر انفصالي مفترض تشكّله "قسد" كما يعلنون.
وربما كانت تشكيلة "قسد" و"مسد" في تنوعها العرقي والسياسي والأقرب إلى العلمانية في إدارتها للإقليم الذي تقيم عليه الإدارة الذاتية، مع كل ما عليها من ملاحظات ونواقص، هي الخطر الأكبر عليهم جميعاً، لأنها تفضح عجزهم وعقمهم الفكري والسياسي الذي يضعهم في موقع العداء لأي محاولة حوار مع النموذج الذي تقيمه قسد في الشمال الشرقي، وفي موقع التحالف مع كل من يحارب التجربة سواء كان النظام أو داعش أو حتى إيران التي يناصبونها العداء، طالما إنّ النيران تتوجه إلى الخصم الأخطر بالنسبة لهم، وهي الإدارة الذاتية لشمالي وشرقي سوريا.
الهجوم الداعشي كشف بوضوح هذا الحلف غير المعلن بين الأطراف المتحاربة، وقد سبق أن انكشف ذلك في جولات التفاوض حيث اختلفت السلطة والمعارضة على كل شيء باستثناء إبعاد مجلس سوريا الديمقراطي مسد عن التمثيل في المفاوضات، فكانت نقطة الالتقاء الوحيدة بين ممثلي السلطة ومعارضة الائتلاف.
فأي تغيير ننتظره من هذه النخب المتلوِّنة والمعارضات الهشَّة؟!