هل يتمتّع الفن والأدب السوري بالحياديّة في ظلّ الحرب؟

كان الأدب منذ القدم ومازال شاهداً على الحروب، فهنالك الكثير من الملاحم والروايات ودواوين الشعر والأفلام السينمائيّة، واللوحات الفنيّة والصور الفوتوغرافيّة والأغاني التي تتناول الحرب كموضوع أساسيّ، وما زالت حتّى الآن تحمل قيمةً فنيّةً وإنسانيّةً رغم مرور السنين.
الحرب السورية أحدثت تغييراً جذريّاً في بنية المجتمع السوري على كافّة الأصعدة، النفسية والاجتماعية والاقتصادية، وإذا نظرنا من الأعلى إلى سوريا سنرى حجم الدمار في الأبنيّة والمنشآت والطرقات، وبالطبع يوماً ما سيُعاد بناء كلّ ما تمّ تدميره، ولكن ستبقى هناك ندبةٌ لن تُمحى في كلّ مدرسةٍ جديدةٍ بُنيت على أنقاض مدرسةٍ دمرتها الحرب، وفي كلّ مستشفى وبناية ودكّان، ستبقى تلك الندبة لتذكرنا بالجروح التي أصابت هذه البلاد.
الفن والأدب أيضاً أثّرت بهما الحرب، فإلى أيّ حدّ استطاع المنجز الإبداعي للسوريّين بكافّة المجالات الفنيّة والأدبيّة تناول الحرب السوريّة بعمقٍ، وبعيداً عن الانحياز وردود الأفعال؟ وهل استطاع هذا المنجز أن يكون حياديّاً في ظلّ حرب لم تنته بعد؟ أم أنّه مازال من المبكّر الحديث عن فن وأدب حيادي؟
"قتيبة غانم"، مخرج سينمائي وتلفزيوني سوري:
"بعد عشر سنوات من عملي في السينما والتلفزيون خلال الحرب السوريّة وصلت لقناعة، وهي أنّ أيّ شخص يعيش ضمن هذه الحرب من المستحيل أن يطرح وجهة نظر حياديّة حتّى لو قرّر ذلك قبل البداية بتنفيذ عمله، لأنّ هناك رسائل تخرج من تلقاء نفسها أثناء العمل يرغب الشخص في إيصالها، وهذه الرسائل تأتي نتيجةً لتراكم ما عاشه وشاهده واستنتجه خلال الحرب، وهذا يمنعه من أن يكون حياديّاً. وبرأيي إنّ أيّ عمل فني مهما كان نوعه لن يكون حياديّاً في ظلّ الأزمة السوريّة، وأيّ شخص يقول الآن إنّه يُقدّم عملاً حياديّاً أظنّ أنّ كلامه فيه شي من التصنّع، فلتقديم عملٍ فنيٍّ حياديٍّ على المستوى الإنساني يجب الانتظار إلى أن تصبح الأزمة بالنسبة لنا أشبه بحالةٍ سرياليّة، وهذا يحتاج لسنوات بعد انتهائها، عندها فقط يمكن إنجازعمل إبداعي حيادي. بالنسبة للسينما والتلفزيون إذا أردت تقديم فكرة ما ضمن عمل فني فأنت لست حرّاً كمخرج، لأنّ شركة الإنتاج هي المتحكّمة، وحريّتك تقتصر على الحالة الفنيّة التي تريد بها إيصال هذه الفكرة التي تعتبر نتاج الجهة المنتجة والمموّلة للعمل".
"حسام حمو"، موسيقي سوري:
"ثقافة الموسيقى في مجتمعنا العربي مرتبطةٌ ارتباطاً وثيقاً بالكلام والشعر، فالأغنيّة تحتلّ الصدارة، بينما المؤلّفات الموسيقيّة والموسيقيّين في المرتبة التي تليها، والطريق الأقصر للوصول إلى الساحة الفنيّة هو الأغاني المحكيّة، وبالتالي فإنّ تناول الحرب السوريّة بالكلام "الأغاني" يعبّر عن آراء شخصيّة لمن يكتبون ويقدّمون الأغنيّة، والتي أغلبها تكون أعمال غير حياديّة تهدف إلى استقطاب طرف ما على حساب أطرافٍ أخرى، ويعود الأمر لقلّة وجود منصّات إعلاميّة مستقلّة داعمة لفكرة الحياديّة في الفن، إضافةً إلى أنّ الآراء في ظلّ الحرب تكون متطرفةً وفيها حديّة، مما يجعل هناك صعوبة بإيجاد قواسم مشتركة بين الأطراف المتنازعة، لذا علينا انتظار انتهاء الحرب كي نتمكّن من جعل الآخر يسمعنا بمنطقيّةٍ وبعيداً عن الانفعال والغضب، وفي المقابل ليس من الصواب دائماً أن يكون الفن حياديّاً؛ لأنّ الفن بشكل عام أداة تعبير يمكن من خلالها كسر الخطوط الحمراء في الحياة، ولكن حين نكون داخل الحرب فصوت الرصاص يبقى أعلى من كلّ الأصوات، والدور الوحيد للفن وللموسيقى بشكلٍ خاصّ هو إيجاد أصوات موازية وملاذ ومتنفّس للبشر وتقريب وجهات النظر عبر محاولة إيجاد تقاطعات بين جميع مكوّنات المجتمع الواحد، فالفن بشكلّ عام ليست مهمّته إيجاد الحلول إنّما الفن الحقيقي هو الذي يطرح الأسئلة ولا يعطيك الأجوبة الجاهزة. أهمّ الأعمال التي تناولت الحرب العالميّة جاءت بعد انتهاء الحرب".
"نسرين أكرم خوري" روائيّة وشاعرة سوريّة:
"من الطبيعي جدّاً أن تصدر أعمال أدبيّة كثيرة تتناول الحرب السوريّة، ومن الطبيعي أيضاً أن تتمّ الكتابة عن هذه الحرب لعشرات السنين القادمة، هذا ليس أمراً جديداً في العالم، فمثلاً أزمة كورونا والحجر الصحي لم يمضِ عامٌ واحدٌ بعد على بدايتها وطُبعت كتبٌ تدور حولها، فما بالك بحرب ستدخل عامها العاشر؟! أمّا بالنسبة لفكرة الحياديّة فلا أعرف كيف يكون المرء أو المرء الكاتب حيادي حيال الحرب، برأيي هذا مستحيل وليس مطلوباً ادعاؤه. أذكر أنني قرأت مراجعات لكتاب قيل فيها إنّ إحدى ايجابياته استطاعةُ الكاتب أن يكون حياديّاً، ووجدت هذه الإشارة استخفافاً بالعمل والقارئ. أجد أنّه من الظلم في مكان تقييم الأعمال الأدبيّة من هذا المنظور، من نافلة القول إنّ جودة العمل ليست بما قاله بل كيف قاله مهما اعتبرنا هذا القول مجحفاً".
"رشا بلال" ممثّلة سوريّة:
"حين نقول الفن السوري أول ما يخطر ببالي هو الدراما التلفزيونيّة، وهي صناعة مثل كلّ الصناعات، محكومةٌ بجهات الإنتاج ورأس المال، التي لن تكون حياديّةً بشكلٍ أو بآخر. برأيي ليس على الفن أن يكون حياديّاً، وأرى أن عدم الحياديّة جزءٌ من طبيعة العمل الفني بأنواعه، ولكن هذا لا يمنع أن نقدّم على كافّة الأصعدة الفنيّة والأدبيّة أعمالاً عن الحرب... هناك محاولاتٌ لرسم وجه مشوّه لهذه المرحلة من تاريخ سوريا، وعلينا أن نعمل جميعاً كي لا يحدث ذلك. التجربة حقٌّ وواجبٌ في آن معاً، ومهمّة كلّ مبدع سوري أن يحاول رغم كلّ شيء أن يعمل لإثبات وجهة نظره في مكان ما بالطريقة التي يراها مناسبة وبالوقت المناسب".
"جوني سمعان" فنّان تشكيلي سوري:
"لا يوجد فن لا ينتمي إلى جهة ما، أو لا يكون له توجّه إنساني وسياسي واجتماعي، وللفن قضايا يطرحها ويدافع عنها... وحتّى ضمن الرؤية الرومانسيّة التي تقول: (الفن للفن) هو محمّل بقضايا تتماشى مع توجّهات وقناعات الفنّان، لذا لا يمكن أن يكون هناك حياديّة للفن لأنّه نتيجةٌ لرؤية الفنان، أو الجهات الداعمة والمموّلة له".
"فارس خدوج" سينمائي سوري:
"من خلال متابعتي لما تمّ إنجازه سينمائيّاً خلال الحرب في سوريا، يمكنني القول إنّ السينما السوريّة غير قادرة على رصد الوضع السوري بحياديّة لسببين: الأول انقسام صُنّاع السينما إلى فريقين كلّ منهما يتبع إلى جهة معارضة للأخرى، إضافة إلى أنّ الوضع السوري موضوعه ضخمٌ، وفيه الكثير من الزخم والتنوّع، وهذا الأمر يحظى باهتمام الكثيرين ممّا يجعلهم يقومون بطرح آرائهم ضمن أفلامٍ سينمائيّةٍ طويلةٍ وقصيرةٍ ووثائقيّةٍ بدون فهمٍ كاملٍ للأحداث.
والسبب الثاني أنّ السينما كفنٍ بصريٍّ يتمّ استخدامها كسلاح في الحرب السوريّة من قبل الطرفين، بحيث كلّ منهما يقول من خلالها ما يخدم مصلحته وتوجهه، وقد حدث ذلك في كثير من دول العالم، فمثلاً الحرب الباردة بين الاتحاد السوفييتي كانت السينما فيها سلاحاً خطيراً للغاية.
لتدرس نتائج العاصفة وتحصي الأضرار التي خلّفتها عليك أن تنتظر انتهاء هذه العاصفة. الحرب لازالت مستمرّةً، ومن يصنع السينما في سوريا لازال يعيش داخل هذه الحرب، وبما أنّ السينما ليست كلّها وثائقيّةً والكثير منها روائيّة فيمكن كتابة قصّة وتحويلها لفيلم تكون نابعةً من غضب وانفعال داخليّ ومنحازةً لطرفٍ وظالمةً لعدّة أطراف، وبرأيي السينما السوريّة أكثر سينما ظلمت الحرب، لأنّ من يصنعها لا ينظر إلى ما يحدث من الأعلى وبعيداً عن العواطف والانفعال والانتماء السياسي، لذا فإنّ الأفلام التي أُنتجت خلال الحرب كانت مُسيّسةً واستعطافيّةً وفي بعض الأحيان لا أخلاقيّة".