حرب أوكرانيا . . . حكاية مسمارية
"حكاية مسمارية" فيلم قصير للمخرج السوري المبدع ورسام الكاريكاتير المعروف موفق قات، الفيلم الذي حاز على جوائز عديدة حين إنتاجه عام 1991 هو فيلم رسوم متحركة يتناول في أربع دقائق الحروب التي يشعلها الكبار، ويحترق فيها الصغار.
يتبادل مسماران كبيران التحدي والتراشق بالكلام، ثم يبتعدان لتبدأ مئات الآلاف من المسامير الصغيرة المقسمة بين الكبيرين بالتقدم بخطى موزونة مع مارشات عسكرية لتبدأ مذبحة المسامير الصغيرة وهي تتصادم مع بعضها وتلتوي ثم تسقط صرعى.
خلال دقائق يصبح الفراغ بين المسمارين الكبيرين ركاماً من المسامير الصغيرة الصريعة المكومة فوق بعضها البعض.
المشهد الأخير: يتقدم المسماران الكبيران، ومن فوق ركام المسامير الصغيرة يمدان جسديهما ليتعانقا، وتنتهي الحكاية.
بعبقرية لافتة يختصر الفنان السوري، الذي انتقل إلى المنفى مع اندلاع الاحتجاجات الشعبية 2011 ووقوفه معها مما جعل بقاءه في سوريا محفوفاً بالمخاطر، يختصر حكاية الحروب عبر التاريخ، ورأى بعض النقاد بأنّه يختصر رواية تولستوي "الحرب والسلام" في أربع دقائق، وفي الأمر مجازٌ طبعاً، إذ يستحيل اختصار ملحمة هي أوديسة العصر في دقائق.
اقرأ أيضاً:
الحكاية المسمارية تتكرَّر في كل حرب، يتناهش الكبارُ جثثَ الصغار خلال الحرب، ثم يجلسون على جبال الجثث والردم والخراب ليتفاوضوا ويقولوا بعد الاتفاق على تقاسم جديد قررته نتائج الحرب: عفا الله عما مضى.
بلاد تولستوي الآن تشنُّ حرباً عدوانية على جارتها الصغيرة أوكرانيا، في إطار هامشي للصراع بين القوى العظمى (أمريكا وروسيا مع حلفائهما) تدوس فيه على دولٍ وشعوبٍ كما يدوس الوحش أعشاب الحدائق فيحيلها يباباً، الشعوب والبلاد الصغيرة مجرد تفاصيل في لعبة لي الذراع بين الجبابرة، تفاصيل نافلة.
لا يخفى فارق القوة الهائل عسكرياً واقتصادياً وبشرياً بين روسيا وأوكرانيا بمقاييس القوة التقليدية (القوة الروسية تعادل أربعة أضعاف القوة الأوكرانية البشرية، وخمسة أضعافها بالنسبة للعتاد المدرّع، وتصل إلى حوالي عشرين ضعفاً بالنسبة للطيران والقوة البحرية)، لهذا لم يكن مفاجئاً توغل الجيش الروسي السريع نسبياً داخل الأراضي الأوكرانية، بالمفهوم التحليلي العلمي الصارم، وكذلك لن يعتبر مفاجأة سقوط العاصمة ومقتل الرئيس ربما، وانهيار الدولة الأوكرانية أمام جحافل الغزاة المدججين بأحدث وأقذر ما توصلت إليه الصناعة العسكرية الروسية، والتي جرّبها الروس على أجساد السوريين وبيوتهم ومستشفياتهم مع تدخل الجيش الروسي في الحرب السورية عام 2015، وقلب الموازين لصالح النظام وحلفائه، كما صرّح بوتين ذاته مراراً متباهياً بذلك.
لكن هناك دائماً القطبة المخفية في ثوب التاريخ، ما يسمّونه بـ"قوة المنطق في مواجهة منطق القوة"، أو قوة الحق في مواجهة حق القوة، وهو ما كان الرهانَ الرابحَ على مرّ التاريخ، إذ لا تقاس الصراعات بين الأمم بالأرقام الباردة التي تحصيها مراكز الأبحاث والدراسات الاستراتيجية والتحليلات العسكرية، ولا بالنتائج الميدانية على الأرض رغم الكلف المادية والبشرية الهائلة للمعركة.
هنا يدخل التاريخُ وروحُ الشعب والعمقُ الثقافي والتراثي كعواملَ غير مرئية، وبعيدة المدى في ظهورها وتأثيراتها في صراعات من هذا النوع، إذ يستطيع المحتل تدمير القوة العسكرية والبنيان العمراني والمؤسساتي للدولة المحتلة وإحلال بنى موالية له مكانها، لكنه لن يستطيع قلب التاريخ ليمشي على رأسه إلى الأبد، إذ سرعان ما تنهض هذه القوى الخفية والعاتية من غفوتها، وتعيد التاريخ ليستوي على قدميه.
يشبه الأمر إلى حدٍّ كبير ما تقوله الميثيولوجيا الدينية عن حدث نهوض الموتى من أجداثهم لاستقبال القيامة الموعودة: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ)، مع النفحة الأولى يموت من بقي من البشر هلعاً ورعباً كما الأسماك حين يرميها الصياد بالديناميت، ثم تأتي النفخة الثانية فينهضون ومعهم كل من ماتوا منذ آدم ليحاسَب كلٌّ على ما عمل.
هذا المشهد الذي تقدِّمه هذه الميثيولوجيا في قيامة الموتى ألهمَ الكتّابَ والفنانين لتقديمه في أعمال كثيرة تبرز قوة الروح والمثل في قهر القوى المادية العاتية، في تحول المثل العليا والأفكار إلى قوة مادية لا قاهر لها.
هنا بالذات يكمن الرهان على هزيمة العدوان، سينتصر بوتين وجيشه، سيستعرض عضلاته ومواهبه الإستراتيجية والعسكرية الفذة أمام جمهور منتشٍ بالنصر، فيما يعيش الأوكرانيون أوجاع الحرب والتشرد والهزيمة، لا مناص من ذلك الآن هنا، لكن إلى حين.
المنتصر هو من ينتصر أخيراً، وهذه الـ"أخيراً" لا تأتي من تلقاء نفسها، كما الولادة التي تطول ثم تأتي آلام المخاض لتهب حياة جديدة وتبدأ بداية مختلفة، إنه حاضرٌ يلد من رحم الماضي لكنه يتجاوزه ويناقضه أحياناً.
لم يكن يوسف العظمة جاهلاً بالعلوم العسكرية، وبالتفاوت الهائل في الإمكانات بين جيش فرنسا وجنوده القلائل، الذين بقوا ملتفين حوله مع أسلحة بدائية بعد تسريح الجيش السوري تنفيذاً لإنذار الجنرال الفرنسي غورو للحكومة السورية عام 1920.
لم يكن لديه أي وهم بهزيمة جيش منظم متطور لدولة عظمى حينذاك من بضع مقاتلين لدولةٍ ناشئةٍ خارجةٍ من ربقة احتلالٍ عثماني طويل، لكنه مضى إلى المعركة وهو يعلم إنها حتفه، خاض معركة ميسلون الخاسرة ضد جيش غورو في تموز 1920.
قُتِل يوسف العظمة في المعركة، ودخل غورو دمشق منتصراً، لكن كم بقي غورو في دمشق؟ وكم بقي يوسف العظمة؟
الآن، لحظة كتابة هذه الكلمات يقاتل الأوكرانيون بكل ما يملكون من قوة ومن بأس، وإيمان ببلدهم وتاريخهم وشعبهم، غزوةَ الطاغية المليء بالسيليكون والأحلام الإمبراطورية، وجيشه المدجج بأحدث الأسلحة وأشدها فتكا وتدميراً.
الآن يقول الأوكرانيون ورئيسهم للتاريخ: لا تقف، سنخسر الحرب، سنموت فداء لهذه البلاد الجميلة، لكن ستكون الغلبة أخيراً للروح التي لا تموت إلا لتنهض من جديد.
هي الأسطورة ذاتها، طائر الفينيق الذي ينهض من رماده، القيامة التي لا بدّ منها، فيما كل ذلك السلاح الفتّاك سيصبح خردةً في المتاحف، يشاهدها أطفال أوكرانيا، في زمن ليس ببعيد، وهم يتأبطون أحلامهم الغضة، وأكفهم الصغيرة تتمسك بأيدي الأمهات اللاتي حملن السلاح في وجه الوحش دفاعاً عن الجميلة.
أوكرانيا ستنتصر وإن هُزِمت، يعرف ذلك الغزاة جيداً، لكنهم كعادتهم لا يتّعظون.