آذار السوري... انقلابات ومجازر وثورات مغدورة
لعلها ليست صدفة أن تكثر الأمثال السورية عن "آذار الغدار"، الشهر الذي يعتبر مفتتح الربيع والخصب، مما يقوله عنه السوريون " خلي حطباتك الكبار لعمك آذار"، وقد كان آذار 2022 قاسياً على السوريين طقساً وانحداراً مريعاً في مستويات المعيشة لدى أكثر من 95 بالمائة منهم هم الآن تحت خط الفقر بهوة سحيقة.
شهر آذار السوري ليس شاهداً على "ثورتين" فقط، إنه حافل بالمطبات التاريخية التي ما زالت سوريا تتخبط فيها منذ تشكيل الوطن السوري بحدوده الحالية بعد انهيار السلطنة العثمانية.
ربما يغيب عن الكثير من السوريين إنّ تاريخ الثامن من آذار الذي تكرس في الوعي الشعبي السوري كيوم انقلاب حزب البعث على حكومة الانفصال هو يوم استقلال سوريا الأول، عيد الاستقلال، ففي مثل هذا اليوم من عام 1920 أعلن استقلال سوريا في حفل شعبي ورسمي كبير باسم المملكة العربية السورية، ونصب فيصل ابن الحسين ملكاً على البلاد التي تحررت للتو من ربقة الاحتلال التركي (العثماني) الذي دام أربعة قرون، وقد كان تحرير البلاد نتيجة طبيعية لهزيمة وانهيار السلطة العثمانية في الحرب العالمية الأولى (1914 ـ 1918).
إذاً آذار شهر استقلال سوريا بكيانها المعروف وحدودها المعترف بها دولياً، إضافة إلى كونه شهر الثورات والانتفاضات المغدورة.
انقلاب 8 آذار.. تأسيس الخراب
بدأت سلسلة الأيام الدامية من آذار السوري بانقلاب 8 آذار الذي أوصل حزب البعث إلى السلطة في سوريا (يسميه البعثيون ثورة 8 آذار وكان حتى عام 2011 عطلة رسمية)، وكان المنعطف "الآذاري" الثاني في تاريخ البلاد، حيث استلمت السلطة ثلة من الضباط البعثيين المتحمسين لأهداف البعث في إعادة "أمجاد" الأمة وإقامة الدولة الواحدة للأمة "ذات الرسالة الخالدة"، وكعادة العسكر لم يستقروا على كراسي الحكم حتى بدأت الصراعات بينهم مجموعات وأفراداً، وبعد انقلابين (23 شباط 1966 ـ 16 تشرين الثاني 1970) استتب الأمر لوزير الدفاع حينذاك حافظ الأسد الذي نجح في إدخال سوريا إلى عهد جديد لا انقلابات عسكرية فيه ولا برلمان ولا أحزاب حقيقية ولا مؤسسات دولة بمعنى الكلمة، إنما أسّس لسلطة استبدادية فردية عائلية آلت مع رحيله عام 2000 بتسليم السلطة بسلاسة منقطعة النظير لابنه بشار.
صراع البعث والإخوان.. فصلٌ دامٍ آخر
شهدت سوريا بين عامي 1979 و1981 حراكاً مسلحاً قاده تنظيم "الإخوان المسلمين" بهدف إسقاط سلطة البعث وإقامة خلافتهم الإسلامية الموعودة، وواجهتها السلطة بعنف شرس واستطاعت قمعها بعد مجازر مروعة في حماه وحلب وإدلب وسلسة تفجيرات أودت بحياة الآلاف من المدنيين والعسكريين، وآلاف المعتقلين والقتلى في السجون وخصوصاً مجزرة سجن تدمر. واستفادت السلطة من حركة الإخوان في تشديد قبضتها الأمنية وفرض حالة طوارئ سافرة كانت موجودة مسبقاً، وتعزيز الطابع الطائفي لأجهزة السلطة.
نوروز 1986 والانتفاضة المنسية
هناك يوم "تاريخي" فعلا شهده آذار السوري يكاد يغيب عن اهتمام المؤرخين والمتابعين للتحولات السورية، وكان كاتب هذه السطور شاهداً ومساهماً فيه.
21 آذار 1986، كان أكراد دمشق المتمركزين بشكل أساسي في حي الأكراد (أسمته السلطة البعثية بحي ركن الدين ضمن سياستها في إلغاء أي ملمح كردي في البلاد ولو كان اسم حي) إضافة إلى مئات ألوف الوافدين من الجزيرة وعفرين وكوباني للعمل في دمشق والسكن فيها بسبب ظروفهم المعيشية القاسية، يحتفلون بعيد النوروز كل عام بالخروج إلى مناطق ريف دمشق الخضراء بباصات يستأجرونها لهذه الغاية، ويقوم كل حزب كردي سوري (أو كل مجموعة أحزاب) بتحديد مكان لإقامة احتفالات النوروز، وتقديم عروض فولكلورية ومسرحية بسيطة في الهواء الطلق، ويقضون يوما احتفاليا هناك مستفيدين من سياسة غض النظر المتبعة من قبل السلطة مع نشاط الأحزاب الكردية غير المعترف بها.
حتى جاء صباح ذلك اليوم، وكان يوم جمعة، تجمع الناس على امتداد شارع ركن الدين الرئيسي ينتظرون الباصات التي ستقلهم إلى أماكن الاحتفال بالنيروز.
كنا مجموعات من الشباب والرجال والنساء والأطفال، نحمل أمتعة الرحلة، وبعضهم يحمل آلاتهم الموسيقية (الطنبور الكردي أو البزق غالباً).
فوجئنا بوجود دوريات أمنية على امتداد الشارع بوجوههم المتجهمة والصامتة، كانوا يسارعون إلى كل باص يأتي لنقل الناس ليأخذوا من السائق أوراقه ويأمرونه بالمغادرة فوراً، لم يكن هؤلاء العناصر يتحدثون إلى الناس بكلمة، يبدو أن الأوامر كانت بإلغاء الاحتفالات دون شوشرة، ودون التصادم مع جمهور تعود على حقه في الاحتفال، ومن الصعب أن تعود إلى أيام منع الاحتفالات مع بدايات حكم البعث.
بقي الناس ينتظرون ويتهامسون فيما بينهم عما يحصل، وبحدود العاشرة صباحاً كان بضع شباب يجتمعون في الشارع الرئيسي الفارغ تقريباً من السيارات والباصات كونه صباح يوم جمعة وهم يهتفون لنيروز والحب والحياة، كانوا مثيرين للسخرية بداية، لكن ما لبث أن كثر المحتجون، وبدأ هتافٌ عاديٌّ بسيط غير مسيَّس يتردد على ألسنتهم (يا حافظ بدنا نيروز)، ومن كان يتجرأ أن يتوجه إلى هذا الرجل المرعب بهتاف في شارع سوى هتاف (بالروح بالدم نفديك يا حافظ)؟!.
خلال أقل من نصف ساعة كان ذلك الشارع من "موقف الكيكية" إلى جسر النحاس يعج بالمتظاهرين والهتافات، وهم يرفعون آلاتهم الموسيقية ويغنّون أغاني النيروز، ثم جاء من يوجه المتظاهرين إلى نقطة الخطر الحمراء، القصر الرئاسي في المهاجرين.
"الكولبات" النائمة على أبواب أبنية المسؤولين فوجئت بحشد يمشي ويهتف بعبارات لا تنتمي إلى "المسيرات العفوية" التي كانت تخرج هاتفة بحياة القائد والحزب وفلسطين والصمود والتصدي، لم يحرك أحد ساكناً، وأصحاب القرار يبدو أنهم كانوا نائمين في بلد يعرفون أنه من المستحيل أن يتجرأ أحد على التظاهر أو الهتاف في ظل حكم طوارئ طويل وثقيل، فيما كان الدمشقيون الذين يستيقظون متأخرين في مثل هذا اليوم يتفرجون من شرفات منازلهم على مظاهرة أو مسيرة ليست فيها صور القائد أو أعلام البعث أو هتافاته، وإنما آلات موسيقية فقط، وأغانٍ كردية.
وصلنا إلى حواجز القصر في المهاجرين، بدأت الهتافات والدبكات هناك ولا أحد يعلم إلى أين ستنتهي وكيف.
خرج الحرس الرئاسي الموجود هناك ببزاتهم الرسمية، وطلبوا أن يتقدم عدد من المسؤولين عن التظاهر ليتحدثوا معهم، وهو ما حصل، حيث دخل عدد من الشباب إليهم ولم يعودوا، بل عادت أعداد من الحرس وبدؤوا في دفع المتظاهرين باللكم والرفس لإبعادهم عن القصر، تراجع الحشد قليلاً تحت تأثير الضربات الاحترافية لهؤلاء الرجال الشرسين، ونتيجة التدافع وقع العديد تحت أقدام المتراجعين، وما هي إلا دقائق حتى بدأ الهجوم المعاكس، اجتمع كل بضع شباب على واحد من هؤلاء وبدؤوا بضربهم فهرب الحرس ودب الحماس في الشباب والشابات.
كانت سيارات المرسيدس السوداء تعبر مسرعة من الساحة التي تراجع الحشد إليها، وفي ظل توتر الوضع كان التراشق بالحجارة بيننا، وبين رجال الحرس والشرطة العسكرية التي وصلت كتعزيزات، فكان نصيب تلك السيارات التي تعبر بين المتظاهرين حجارة قوية وصائبة.
هنا بدأ إطلاق النار في الهواء بداية لتخويفنا، ثم أطلقوا الرصاص على الناس، سقط حينها الشهيد الشاب محمد أمين آدي وجرح العديد، وازدادت حرارة المواجهات حين سقط الشهيد.
جيء بالآلاف من قوات حفظ النظام، وأُحكِم الحصار تماماً حول المنطقة، وبدأت مكبرات الصوت تنذر المتظاهرين بالعودة إلى بيوتهم.
جاؤوا بضابط شرطة كردي من عفرين من بيت سيدو، وأصبح يطرح حلولاً على المتظاهرين، استقدمت السلطة عشرات الحافلات الخضراء التابعة لشركة النقل الداخلي الحكومية، وكان الاقتراح أن يصعد المتظاهرون إلى الباصات، ويذهبوا إلى الاحتفال بالنيروز.
لكن مطالب الناس كانت أولاً جثمان الشهيد الذي نقل إلى مشفى المواساة الحكومي، والإفراج عن "الوفد المفاوض".
بعد أخذ ورد وافق الجمع على الصعود إلى الباصات والعودة إلى بساتين الفيحاء القريبة من حي الأكراد.
هناك على أوتستراد الفيحاء تجمع الناس وكانت صفوف من آلاف قوات حفظ النظام تغلق الأوتستراد باتجاه المدينة لأن المحتجين قرروا التوجه إلى المشفى لإخراج الجثمان.
كان الرعب متبادلاً، السلطة التي استنفرت قواتها وأدواتها في وجه أول هبّة شعبية منذ انقلاب آذار و"الحركة التصحيحية"، والمحتجون الذين يعرفون جيدا شراسة السلطة وخطوطها الحمراء.
جاءت وصال فرحة بكداش زوجة خالد بكداش الأمين العام للحزب الشيوعي المقرب من السلطة، والمقيم في حارة الأكراد، وبدأت تحاول تهدئة الناس، وكذا فعل عدد من الشخصيات الكردية الدمشقية الموالية للنظام مثل المفتي كفتارو، وبعض الدعاة من آل شيخو وغيرهم.
مضى النهار بين كر وفر بين المحتجين وقوات حفظ النظام.
كان نوروزاً دامياً
الساعة الثامنة والنصف مساء موعد نشرة الأخبار في التلفزيون الحكومي الوحيد الذي يمكن التقاط بثه يذيع مرسوماً صادراً عن رئيس الجمهورية يقضي باعتبار يوم 21 آذار عطلة رسمية بمناسبة عيد الأم!! وربما كان ذلك "الحلّ" بنصائح من أتباعه من الشخصيات السياسية والدينية والاجتماعية الكردية. حتى في هذه لم يستطع النظام أن يذكر عيد النوروز أو يعترف رسمياً بوجود الأكراد في سوريا.
ليلاً كان حزب العمل الشيوعي المعروف بمعارضته للنظام وتعرضه لحملات اعتقال شرسة يوزع آلاف النسخ من بيان للحزب في حي ركن الدين يتضامن مع الحراك الكردي وحق الكرد في تقرير مصيرهم، فيما اكتفت الأحزاب الكردية المعروفة من النظام بترديد مقولاتها المترددة والخائفة.
انتفاضة قامشلو 2004
كان يوم 11 آذار 2004 يوماً سورياً دامياً آخر تشهده مدينة القامشلي إثر مباراة بكرة القدم بين فريق المدينة "الجهاد" وفريق الفتوة القادم من ديرالزور المدينة التي يتعاطف قطاع كبير من سكانها مع الطاغية صدام حسين، الذي كان قد سقط نظام حكمه قبل عام إثر الغزو الأمريكي للعراق، ونتيجة استفزازات الجمهور الديري القادم مع الفريق لجمهور القامشلي، وإدخالهم الحجارة والعصي إلى أرض الملعب، تحولت المباراة إلى عراك سياسي بين الجمهور الكردي وجمهور الفتوة الذي كان يردد هتافات تمجد صدام وتشتم مسعود البرزاني، فيما يهتف جمهور الجهاد بهتافات معاكسة، وبدأت الحجارة تنهال على الملعب وجمهور الجهاد.
ثم تدخلت السلطة كعادتها، وأطلقت النار على شباب القامشلي، وسقط عدد من الشهداء وعشرات الجرحى، وعندما سمع الأهالي بما يحدث في الملعب البلدي توافد الآلاف منهم وبدأت المواجهات مع قوات النظام التي امتدت في ذلك اليوم، وفي الأيام التالية، إلى كل المدن الكردية وإلى تجمعات الأكراد في حلب ودمشق والرقة، وشنّت السلطة حملات اعتقال ودهم للمدن والأحياء الكردية، وخلدت انتفاضة قامشلو كثاني يوم آذاري دامٍ في تاريخ سوريا بعد انقلاب البعث حيث بلغت حصيلة الشهداء 40 شهيداً، وعشرات الجرحى وآلاف المعتقلين.
وقد نالت هذه الانتفاضة حظاً أكبر من سابقتها في التغطية الإعلامية والتوثيق كونها كانت أكبر، وأشمل وجاءت في زمن آخر كانت قد بدأت فيه تحركات من ناشطين ومعارضين مثل ربيع دمشق، وكانت عشرات المواقع الإلكترونية ووسائل الإعلام ترصد الحدث.
الحرب السورية
ثم جاء يوم 15 آذار 2011 الذي ما زلنا نعيش آثاره وتبعاته، وكانت ثورة شعبية بحق، ثورة سلمية مطالبة بالحرية والكرامة للسوريين نتيجة عوامل عدة منها تأثير ثورات الربيع العربي وتراكم القهر واليأس في نفوس السوريين من حصول الإصلاحات التي وعدوا بها مع استلام بشار الأسد السلطة بعد وفاة أبيه.
ومعروفة المآلات التي انحدرت إليها الثورة نتيجة التدخل الخارجي وعسكرة الثورة وسيطرة التيار الإسلامي الذي لا يؤمن بالحراك الشعبي، ووسيلته الوحيدة هي العنف، الأمر الذي قدّم خدمة كبيرة للنظام ونقل المعركة إلى ميدانه المفضل والوحيد، العنف الأعمى، وكان من أسباب انكفاء الثورة وتحولها إلى حرب أهلية وإقليمية ودولية ضروس على الأرض السورية وأدّت إلى ما أدّت إليه من خراب ودمار وتهجير، ومئات الآلاف من الضحايا والجرحى والمعاقين، وملايين المهجرين.
بعد هذه الإطلالات السريعة على بعض أيام آذار في الذاكرة السورية نعود الى حيث بدأنا، أليس هو ذاته آذار الغدار أو ربما آذار المغدور؟!