دمشق التي لا أعرفها
نستعين بـ "غوغل" لنعرف دمشق التي نجهلها، فيما يستعين غوغل بـ "ابن الجبير"، ليعرّفنا، وهذا بدوره، ينبئنا بأنها "الجنة الموازية"، بالإضافة إلى :
ـ عاصمة الإمبراطورية الإسلاميّة الأولى.
ـ مدينة الهندسة.
ـ بعد 36 عاماً على رقاد الرسول، كان معاوية بن أبي سفيان يحاول عبور البوسفور، ويحاول الوصول إلى القسطنطينيّة.
دمشق هي التي أيضاً من شقّت طريقها إلى اليونانية، والآرامية.
ـ الأثر العمراني العظيم الذي تركه عبد الملك لم يكن في دمشق بل في القدس، حيث بنى مسجد قبة الصخرة العظيم، وإلى جانبه المسجد الأقصى.
وهكذا دخلت دمشق القرن الثامن كعاصمة إمبراطوريّة شديدة الثقة بالنفس.. بارعة في الافتتان بـ "دمشقيّتها".
كلام "غوغل" المستند بدوره إلى كلام "ابن الجبير"، يبعث لا على الغصّة بل على الاختناق، أو لنقل الموت كمداً ما دامت الرصاصات الطائشة لم تجد طريقها إلى كاتب هذه السطور، بعد أن نالت من مئات الآلاف من غير المتحاربين مِن السوريّين، ويساويهم مئات آلاف من المتحاربين الذين التحقوا بالحرب بلا هدف ولا معرفة، ولكنها ولطيشها كانت الرصاصة التي لم تنل منه لـ "وعكة" فيها أو لـ "قلّة بخته".
كلام ابن الجبير يبعث على الموت كمداً لا اشتهاء للموت، وإنّما لعجز أصاب الحياة، وعلّة بات علاجها أقسى من الموت وأكثر مذلّة، فالموت، وكان فاتح المدرس قد قالها لي:
ـ الموت "إهانة".
والراحل، ولسوء فهم منه، لم يقل و"البقاء على قيدها" إهانة مضاعفة، فلا دمشق "عاصمة لزاروب"، ولا هي "مدينة الفتوحات والهندسة"، ولم يتبقّ من لغتها سوى صوت السيدة القابعة في عتمة ليلها، وهي تئن جوعاً دون أن تُعلن جوعها، لكرامة فيها أو لانحباس أصاب صوتها.
دمشق "ابن الجبير" غير دمشق "ابن القحبة"، فالأولى جنّة، والثانية تتدحرج نحو مقبرة طفحت بالجثث حتّى لم تعد تتسع لمزيد من القتلى، فمن بقي فيها من غير لصوصها، بقي لعجز عن مغادرتها أو لعجز عن مغادرتها، ومن لا حيلة له، لا ملامة عليه، والعجز طالما أصاب النسور المحلّقة، بفارق أنّ النسور طالما أنبأتنا بأنّ النسر حين يعجز، ينتقي صخرة في مرتفع، ثم يقبع لينتف ريشه ريشة ريشة، فيتعرّى استعداداً لموت مشرَّف يلوي به رقبة عجزه، ويذهب إلى نهايته حرّاً قبل أن يناله ذلّ الزواحف وصراعها على الجيفة.. يموت وقد بقي على عرشه، عرش الطائر المراهن على وقف خراب كرامته.. خراب أمّته.. خراب سمائه، خراب فضاءات يغادرها كي لا يغادرها.
كان عليك أن تجلس في مقهى الروضة لترى كلّ الأنواع فيها، كلّ الأجناس، كلّ الثقافات، وكلّ الألوان، وكلّ اللغات، وقد يهيأ لك، أنّ تلك البنت قد خرجت من ثوب زنوبيا، فيما تلك السيدة قد أحاطت زندها بـ "ثعبان كليو باترا"، وكلّهن يطلقن لأقدامهن مسيرة ولاّدات يعرفن اختزال القصيدة في ابتسامة عابرة وخطّ الخجل يمرر أصابعه فوق وجوههن الواعدة، النضرة، وكلّهن، كلّهن شاميّات، قادمات من أصقاع أرض معجزة، شاميّات من موزامبيق إلى خط الاستواء، لا يتعثّرن بحصى الطريق، وقد تستوقفهن سراويل الجينز، وقد بتن مزرعة للحياة، يملين الحياة على تفاصيل حياتنا.
كان عليك أن تعرف دمشق، لتتعرّف على كلّ اللغات، بما فيها لغة بابلو نيرودا، ومن لغته لابدّ وتتعرّف على لغة القمر، وتتعرّف أكثر على الحنين لبلد ينجب أبناءه لا يأكل أبناءه، وقد تحوّل كلّ من فيها إلى آكل ومأكول، حتّى تداعت قصص الموت على أرصفتها وصولاً لموت الزمن.
وقد باتت مدينة:
ـ أضاعت الزمن.
سوى زمن آخر لا يشبهها، هو من مكث فيها، زمن سماسرة الحروب، وسرّاق الرغيف، وحين يتوه الزمن، تضيع معه اللغة أو تغيب أو تغيّب.
ـ الزمن لغة يا صاحبي، ما الذي تبقّى من اللغة؟ من الزمن؟
كلّ ما تبقّى أن تحوّل الزمن إلى ضيف شرف على يومياتنا، يغادرها إلى المنافي:
ـ منافي طوعيّة، وثانية قسريّة، ومن لم ينفَ يشتهي المنفى.
ثمّة "ابن جبير" آخر، سيسرد حكاية عن "دمشق" أخرى، دمشق التي لا بديل لها وقد تبدّلت فاستبدلت صوامع حبوبها بالبراميل المتفجّرة، وبات "الله" فيها بلا "مال" لمتسوّل يهمس في أذن عابر:
ـ من مال الله.
مساجدها تغصّ بالمصلين، أي نعم، مصلّون يعرفون بالتمام والكمال أنّ "الله ليس في عونهم".
ـ من يراهن على أنّ وعود الله لدمشق، لن تهطل من سمائها على شكل "براميل متفجّرة"؟
براميل متخصّصة في سبي اللغة وإخصاء مانحيها، كما لو أنّ نصف قرن من الإرهاب لا يكفي، كما لو أنّ محنة نصف قرن من الهشاشة والوضاعة لا تكفي، كما لو أنّ على الناس كلّ الناس مقايضة "كوميديا" الآلهة بتراجيديات الدم لا تكفي.
ـ ما الذي يكفي دمشق لتذكّرنا بأنّها منذ نشوئها لم تقف على قارعة الطريق سوى يوم حلّ بها طاعون مقايضة الصوت بالزنزانة وقد بات الخوف أهمّ منتجاتها، ويوم استدرج حكّامها ضباع الأرض، كلّ الأرض، لنهش لحمها فقط لأنّ كلمة حريّة تنال من مناماتهم؟
خمسين عاماً من الاستبداد، كافية لنقول للسيد "ابن الجبير":
ـ لقد طوت دمشق أجنحتها يا صاحبي، دمشق التي تحكي عنها هي اليوم:
ـ دمشق القفص.