info@suwar-magazine.org

حينما تحمل الثقافة مثالب السياسة

حينما تحمل الثقافة مثالب السياسة
Whatsapp
Facebook Share

 

حينما نرى اليابانيين يقرؤون في محطات القطار وفي الحافلات، رغم التقدم التكنولوجي والخدمي، ندرك تلك الأهمية للقراءة كحوار للذات مع فاعليتها وروحها التوّاقة، ومع الآخر سلوكياً في عقد تشاركي هدفه النهوض بالذات وبالآخر.

 

وندرك بأسى أننا أمّةٌ كانت أو لم تعد تقرأ. ولم نعد قادرين على الفعل الحضاري المنتج، رغم علمنا أنّ الثقافة تحمل بطياتها محمولاً مادياً، أو تكون محمولاً لحامل اقتصادي، في الحالتين هما نموذجٌ للعمل والفاعلية. فالإنسان ينتج قيمه المادية والمعنوية بآن معاً على حسب تعبير ماركس.

 

أمّا أن تتحوّل القراءة والثقافة لأشكال من الهيمنة الأيديولوجية، فهذا متخارجٌ مع هدف القراءة والتثاقف، وليس غريباً على تاريخ الشعوب في إنتاج نماذج للهيمنة والسلطة، بأشكالٍ متعددة، نازيّة أو فاشيّة، أو عقائدية، أو أصولية.

 

في سياق هذا الحديث نستحضر تجربة دول الخليج العربي، منذ استقرارها بنموذجها البترودولاري في نهايات القرن الماضي، حيث تحوّلت لمراكز استقطاب ونشر للثقافة العربية، عبر التمويل، وعبر احتضان مراكز البحث والدراسة، ونشر الكتب والدوريات الأدبية والعلمية، مرفقةً إيّاها بالجوائز المادية المجزية. فاستقطبت الكثير من الكتّاب والباحثين العرب والمبدعين الشباب. وكان لها دورٌ كبير في الثقافة العربية يُحسب لها.

 

لكن عودة للسؤال، ما حدود الثقافة وعلاقتها بحاملها المادي في فرض هيمنة سياسية أو اقتصادية؟ حيث أُثيرت هذه القضية منذ عامين من قِبل مجلة ذوات التابعة لمؤسسة (مؤمنون بلا حدود) والتي ترعاها وتموّلها الإمارات العربية.

 

وعاد السؤال حول الثقافة كبوابةٍ للهيمنة، وحول هذا الدعم اللامحدود أحياناً لبعض الجوائز الأدبية والعلمية.

 

وممّا يؤكّد هذا التوجّس، وأنّ الثقافة بوابةٌ على السياسة والاقتصاد، وقد تكون مقدّمة لهيمنة أو تسلّط نطرح مثالاً آخر. ففي نهاية عام 2021 كانت زيارة ولي العهد الإماراتي بوّابة لكسر عزلة النظام السوري، وتزامنت الزيارة مع الإعلان عن مسابقة أدبية ثقافية هي (تحدّي القراءة العربي) في موسمها السادس، والتي ترعاها الإمارات بجوائز مالية ضخمة، كشفت عن مشاركة سوريا في الإعداد لهذا الموسم حسب تصريح منسّقها العضو في اتحاد شبيبة الثورة.

 

المفارقة الأولى أن تكون الثقافة بوابةً بين مداخل اقتصادية وسياسية للتطبيع، والثانية أنهم ذاتهم قد قاطعوا – حسب المعلن- النتاجات الثقافية الآتية من دول الخليج، حتى مجلّات الأطفال بحجة دعم تلك الدول للإرهاب في سوريا منذ انطلاقة الثورة 2011.

 

وهذا ليس غريباً أو متخارجاً مع بنية وذهنية النظام السوري، من حيث توجيهه للثقافة وتأطيرها، ففي النظام الشمولي الثقافة دعايةٌ وأيديولوجيا وعقيدة، تقوم بها مؤسسات السلطة، بهدف تحجيم فضاء الحرية والحركة للأشخاص، خاصة في المجتمعات البطريركية الوارثة لإرث الاستبداد، فاستثمار السلطة التوتاليتارية فيها يشكل صورةً مخيفة كما درستها حنّا أرندت[1].

 

ومن المعروف احتكار السلطة التوتاليتارية لأي نشاط حياتي في الاجتماع أو الاقتصاد، ولعلّها في سوريا كانت واستمرت، ضمن مراحل تمركز الدولة التسلطية، عبر إلغاء الأحزاب وتقييد الدستور والعمل بالمراسيم، ثم خلق منظمات جديدة كأذرع لهذه السلطة في المجتمع مثل منظمة الطلائع والشبيبة والنقابات للسيطرة والضبط الاجتماعي[2]، وما زالت تمارس دورها، بتلازم الدعاية والإرهاب، وضمن التلقين العقائدي[3] حيث لا تكتفي هذه المؤسسات بالتلقين أو بأشكال العنف الرمزي بل تتجاوزه للعنف المباشر لتحقيق عقائدها.

 

فما معنى أن تكون منظمتا الطلائع والشبيبة كأذرع للحزب القائد، هما المسؤولتان حصراً وحكراً عن نشاطات الأطفال والشباب وإبداعاتهم، مروراً بما يُسمّى مسابقات روّاد الطلائع، ثم مسابقات المناظرات، وماراثون القراءة، والأولمبياد العلمي، وحتى المسابقات الشعرية، ومسابقات تمكين اللغة العربية.

 

حيث يتساءل المطلعون، أليس من الأجدر أن تكون وزارة التربية أو الثقافة هي المسؤولة عن هذه الأنشطة، فهي من ضمن اختصاصها، ولأنه من المتعارف حجم المحسوبيات والفساد في تلك المنظمات.

 

إذ يدّعي المنسق المذكور أن أكثر من 160 ألف طالب مُسجّلين الكترونياً للمشاركة في المسابقة الآنفة الذكر، وهم ممّن شاركوا في مسابقة محليّة (ماراثون القراءة)، كما قال بأن أكثر من 7 آلاف طالب تمكّنوا من قراءة خمسين كتاباً، وأنهم استطاعوا الوصول للطلاب في الأماكن غير الخاضعة لسيطرة الحكومة حسب تعبيره.

 

ربما هذه الأرقام صحيحة وهي تثبت الفاعلية الفردية للشباب السوري، بل وتثبت حاجاتهم للدعم وأجواء الحرية، فلا أدّل على ذلك من نتائج الشباب المهجّرين أو اللاجئين على مستوى الدراسة والإبداع، إنّما أن تكون الأحلام والطموح مجالاً للاستثمار، حسب المصالح الأيديولوجية فهذا أمرٌ آخر.

 

فمنذ عام 2011 تحاول الدولة التسلطية عبر أذرعها إعادة هيمنة الثمانينات، وإعادة احتكار نشاطاتهم وفاعليتهم، وعبر دعائية الإعلام والتخويف والمسيرات والجمهرة ثم العسكرة، حتى في التعليم فالإيديولوجية العقائدية واحدة لا تختلف بين المؤسسة العسكرية أو التعليمية أو الدينية إلاّ بالطريقة. وكلها تقوم على التخويف والتلقين، فلا عجب أن تخرج سوريا من مقاييس جودة التعليم في العالم بمدارسها وجامعاتها. وأن يأتي نجل رئيس النظام بنتائج مخيّبة في الأولمبياد العلمي الذي مثّل به سوريا قبل حوالي ثلاث سنوات.

 

بل يستمر النظام التوتاليتاري بالتضييق عبر قانون الجريمة المعلوماتية بعدما استشعر النظام مساحة ما خرج من يده وسيطرته، حسب قول أحد مسؤوليه بأن نسبة مستخدمي الإنترنت بلغت 59%. مما يعني إعادة فرض التخويف واحتكار مساحة المتنفّس الباقي للمواطن والشاب السوري.

 

ولعلّ هذه المسابقة، كنافذة على الثقافة، هي أحد أشكال إعادة فرض الهيمنة لا بل الاستثمار بباقي الروح، من أجل المصالح السياسية والاقتصادية.

 

يبقى السؤال إلى متى ستبقى الثقافة حاملةً ومحمولاً لنموذج التوتاليتارية، وهل تستطيع تلك الأطر أو المنظمات كبح جماح الشباب الثائر؟ والأدهى هل يستطيع هؤلاء الشباب بعد ما وصل 90% من الشعب لدرجة الانسحاق بالفقر والعوز والتهجير أن يخوض مجالات الثقافة كما يرسمها ويرسم له الطغاة طريق المستقبل.

 

[1] حنا أرندت، أسس التوتاليتارية، ترجمة أنطوان أبو زيد، دار الساقي، الطبعة الثانية، 2016، صفحة 36.

[2] النقيب، خلدون حسن، الدولة التسلطية في المشرق العربي المعاصر، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، الطبعة الأولى، 1991، صفحة 43.

[3] حنا أرندت، مرجع سابق، صفحة 79.

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard