info@suwar-magazine.org

لا أعرف جسدي! عن الشك الذي تعيشه النساء حيال أجسادهن

لا أعرف جسدي! عن الشك الذي تعيشه النساء حيال أجسادهن
Whatsapp
Facebook Share

 

 

يرتبط وجود المرأة ارتباطاً وثيقاً بأنوثتها، بملامحها الجسدية وجمالها وقدرتها على استقطاب أنظار الرجال، وإذا ما أخذنا معيار الأنوثة كشرط للوجود الاجتماعي على الأقلّ، فلن يتجاوز عمر المرأة الفعلي العشرين عاماً، والبقيّة الباقية ستكون سنوات تقضيها إما لتحضير نفسها للفترة الجوهرية في حياتها أو للخروج منها بأقلّ الخسائر النفسية. تبدأ المرأة بالتماس ملامح أنوثتها مع بداية العشرينات من العمر، لتتحوّل بعد ذلك بعشر سنوات إلى امرأة تُجاهد كي لا تغيب هذه الملامح، ويصبح هاجسها الوحيد هو النظر إلى نفسها وإبعاد الشك الذي يغزو عقلها، وقد يسبب الأمر لدى بعض النساء بحالة هوس مع كلّ خط دقيق يظهر في وجوههنّ أو على أجسادهن، فهذه الخطوط دليل على محدودية أهميتها، على اختصار حياتها كلها في مظهرها. خوف لن تفهمه إلا النساء، حيث الانكماش على النفس واليقين بفقدان رونقها كلّما تقدّم العمر، والمحاولات اليومية لإيقاف الزمن وتأثيراته التي لا تنال سوى من جسدها.

 

لا أعرف جسدي!

 

يغيب جسد المرأة كحقيقة فيزيائية لتحلّ الصورة محله، فالنساء لا يعرفن أجسادهنّ، وإنّ ما يعرفنه هو الصورة أو الانعكاس الجسدي في المرآة، فالنساء لا ينظرن لأجسادهنّ بشكل مباشر ولا يشعرن به كهوية للأنا النفسية لهنّ، فهو امتداد لرغبة الآخر، وهو تركيبة من المحظورات والتفضيلات التي فُرضت عليهنَّ منذ الولادة، وتقليص كيان المرأة في جسد هو عملية عنف تنطوي على إقصاء لمشاعرها ورغباتها الذاتية والتماهي مع الآخر الخارجي ورغباته، ليتحول جسدها إلى موضوعة استهلاكية تَستهلك وتُستهلك من قبل الآخرين، وبذلك تنتفي خصوصيته، عوامل عديدة تُساهم في تصنيع الأنوثة وتُفرغ المرأة في النهاية من إنسانيتها.

 

تبدأ هذه العملية منذ الطفولة وتتبدى ملامحها في المراهقة، حيث تسلك المراهقات سلوكاً لا شعوريا يبيّن بأنّ وجودهن في الحياة مرتبط بأجسادهن، فتصبح شعورهنّ المنسابة وأحمر الشفاه وعيونهن الجميلة وسيلة لإثبات الذات في الخارج واكتساب الثقة والحصول على الإعجاب، وبعد سنوات من ذلك يُضاف تلقائياً لهذه الصفات الطفولية الجسد بتمظهراته المختلفة، انسياباته ومكامن الإغواء فيه، ليصبح اهتمامهن الأول هو بلباسهن وطريقتهن في المشي والحركة، ويمكننا اعتبار هذه المراحل في تطوّر الأنوثة عامة حتى وإن ترافقت مع التعليم والعمل والوعي لدى الفتيات.

 

يبقى الحضور الجسدي المحرّك الأساسيّ للمرأة وتواجدها في الفضاء العام، وبالرغم من كلّ الخطابات التي كُرست لتسيطر على عقلها إعلامياً وفنياً واقتصادياً إلا أنّها تظهر في النهاية، وكأنها المسؤولة عن تحويل جسدها إلى موضوع للاستهلاك، ويتم تجاهل ما تتعرّض له المرأة من خطابات تجردها من هذا الجسد.

 

ربما تبدو النساء المعاصرات وكأنهنّ يبالغن بالاهتمام بصفاتهنّ الأنثوية وجمالهن، فالأمر أبعد من ذلك. إنها حالة من الرفض العميق للأجساد الأنثوية، تتشربها المرأة منذ صغرها حتى تصل لمرحلة الشباب جاهزة للتغيير وإعادة صناعة نفسها تبعاً لرغبات وإكراهات خارجية. تُساعد النساء على ذلك تقنيات متقدمة طبية وتجميلية تجتاح العالم، وصورة جاهزة عن كيف ينبغي أن نكون كنساء. لا يقتصر الأمر على الترويج الاقتصادي والربح التي تحقّقه هذه المنتجات، فبالتوازي مع ذلك تُبنى ثقافة كاملة عن النساء وأدوارهنّ. هذه الثقافة هدفها تقليص مساحة الفعل لديهنّ لتقتصر على الجسد وعمليات التحسين التي تُجرى عليه، وإيصاله للصورة المثاليّة له كموضوعة جمالية جنسيّة مجردة من العقل والفاعلية والوظيفة.

 

إنكار مضاعف

 

المرأة ليس لها جسد. تكبر الفتيات في مجتمعاتنا على محاولات مستمرة لتغييب جسدها وتحويلها إلى جسد بلا ملامح تابع للرجل، وهي ابنة أحدهم أو زوجة أحدهم وجسدها ملك لذلك الأب أو الزوج، ولا هوية خاصة به ولا مشاعر أو رغبات، وعندما تصبح أُمّاً يصبح جسدها هو جسد الأم، له ملامحه ورمزيته الخاصة، إنكار تام تعيشه المرأة في مجتمعنا منذ بلوغها وحتى موتها، فجميع تحولات جسدها ومفرزاته وحاجاته يجب أن يبقى طيّ الكتمان.

 

إنكارات متتالية لجسدها تتحول مع الزمن إلى حالة من العدم، جسد لا روح فيه، مادة جامدة باردة تتحرّك وفق متطلبات الهيمنة الذكورية، والفتاة هنا تصطدم بإنكار آخر، فهي لا تعرف جسدها، ولا علاقة تربطها به، وتصل لعمر الشباب لتجد نفسها في عالم ينكر صفاتها الأنثوية الخاصة، ويرمي في وجهها قائمة لما عليها أن تمتلكه من مقومات لتكون امرأة مشتهاة، قادرة على أن تكون محط الأنظار، وتكسب مكانة اجتماعية بجمالها، فتنكر جسدها الطبيعي مرة أخرى وتتبنى الصورة المثال التي وضعت أمامها، الغياب الجسدي هنا أصبح مضاعفاً، هذا التشييء الذي تتعرّض له المرأة ينفي أي علاقة بين أناها الجسدية والنفسية ويحولها إلى جسد مصنّع خاضع لشروط الثقافة ومجرّد من قيمته الإنسانية الأصيلة.

 

يترافق مع كلّ عملية تغيير شكّ جديد لدى النساء، فعالم الصورة يُسيطر على العقول، ومع كلّ حالة شكّ تعيشها المرأة تجاه جسدها وجمالها تنمو بداخلها حالة من الإحباط تتبدى في مشاعر مختلفة منها عدم تقدير الذات والشعور بالدونية، وإن كانت تعيش حالة هوس بالعمليات التجميلية، فسيكون تأثير ذلك أكبر، فهي تدرك بداخلها أنّ الصورة التي تصنعها بشكلها وملامحها ليست حقيقتها، ولا يُمكنها تبنّيها وإقامة علاقة صحيّة معها، وهنا يصبح البلوغ للصورة التي ترغبها المرأة مستحيلاً. هذا العجز والإحباط يمتد ليشمل جميع مقدراتها النفسية والعقلية لتصبح محتجزة في حالة التأنيث التي فُرضت عليها والتي لا تمتلكها جميع النساء حسب المعطى الثقافي الذي عمل على اختصار التأنيث بمجموعة من الصفات.

 

وهْم الحرية

 

بعد سنوات طويلة من انطلاق حركات التحرّر النسوية في العالم، والتي لازالت حتى اللحظة تناضل لكسب حقوقها، استطاعت الثقافة الذكوريّة خلق حالة وهمية من الحرية لدى النساء، فنساء اليوم أكثر حرية بكلّ تأكيد في لباسهنّ وحياتهنّ وقادرات على اتخاذ القرارات، إلا أنّ حريتهنّ وتحرّرهنّ شكليّ، فهي حرية مؤطرة ضمن قالب جسدي، وكأنّ الرجال يقولون لهنّ سنعطيكنّ الحق في الخروج واللباس والعمل، ولكن عليكنّ أن تكنّ جميلات ومُغريات، إن أردتنّ أن تشاركننا مكاتبنا وشركاتنا وأماكننا المفضلة، فعليكنّ أن تحقّقن لنا المتعة بجمالكنّ. تغزو هذه الثقافة حياة النساء من كلّ جانب. استلاب مستمر لذواتهنّ وأجسادهن.

 

النساء اليوم هنّ تصوّرات الرجال الذهنية ورغباتهم، فحريتهنّ تنتهي في اللحظة التي يقفن فيها أمام المرآة أو يبالغن بتقييم مظهرهن، خضوعهنّ لهذا ناتج عن فقدانهنّ لهوية ذاتية جسدية ونفسية، وانسياقهنّ القسريّ للفكر الذي يتربين عليه، ويشكل اللاشعور لديهنّ بانعدام قيمتهنّ الذاتية وتفريغهنّ من العقل والمقدرة على الإنتاج أو الفعل، وتحويلهنَّ إلى أداة يتحكم بها الرجل ويستمتع بتغيير ملامحها لتناسب رغبته.

 

لا يمكن للمرأة أن تعيش فردانيتها طالما أنّ التغيير يحدث على السطح ولا يلامس أعماق النظام الاجتماعي والاقتصادي الذي يتحكّم عن طريق خطابه بها وبخطابها الذاتي. إنّ النظام الاقتصادي الرأسمالي الاستهلاكي يزيد من تكريس هوس التملُّك والشراء من قِبل النساء اللواتي يرغبن بزيادة قيمتهنّ بذلك، يُقابله هوس الرجال بامتلاك النساء الجميلات واستنساخ صور متشابهة لهن، لتبقى المرأة غير متملكة لجسدها، فهي ليست حرة، تلبسه وتعرِّيه وتجمِّله حسب رغبة الآخرين.

 

 

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
آخر المقالات
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard