info@suwar-magazine.org

جنازة تحملها القلوب

جنازة تحملها القلوب
Whatsapp
Facebook Share

 

المشهد: جنازة شيرين أبو عاقلة في فلسطين. حملت الجنازة أيدٍ وأكتاف، وسير طويل لقلوب تحمل الجنازة لمثواها الأخير. الأيادي ترفع الجنازة وتمنعها من السقوط، بينما هراوات سلطة الاحتلال وأمنه العام تنهال عليهم بالضرب. الأثر الأوضح أنّ من دفعته قوّات الاحتلال وسقط على الأرض، يُسرع لالتقاط الجنازة قبل أن تسقط على الأرض، رافضاً أن تسقط ناقلة الحقيقة والحقيقة هي قضية شعب! الجمهور يشاهد بشتّى صنوف المشاعر المشهد بكلّ أصقاع العالم بما فيه الفلسطيني والإسرائيلي وكلّ شعوب الأرض....

 

يُدهشك المشهد في تداخلاته النفسية والسياسية: قلوب تحمل جنازة صوت الحقيقة، أيادي سلميّة لا تملك القدرة على ردّ الهءراوات عنها والدفاع عن أنفسها ولكنّها تحمي الجنازة بقلوبها. المشهد منقول علناً بالفضائيّات من داخل الأرض المحتلّة بقوّة الاحتلال الإسرائيلي، فيما لم تكن لا المقاومة ولا حماس حاضرة على ساحة الحدث. وحدها الحشود الشعبيّة هي أبطال المشهد، والقصّة قصّة شعب يصرّ على وجوده وحضوره التاريخي وحقّه في الحياة وقضيّته العادلة ونقل صوته العلني لكلّ أرجاء العالم. والمشهد عنوانه: جنازة تحملها القلوب!

 

في مشهد سابق من المسرحيّة، مسرحيّة الجنازة ذاتها، وقبل 11 عاماً، كانت جنازة المعارض السوري مشعل تمو في القامشلي، الذي اُغتيل في بداية الحدث السوري حين كانت الأصوات تقول: سوريا واحدة، وذات القلوب والأيادي تحمل الجنازة رغم اختلاف الأشخاص. بدل الهراوات كان الرصاص الحي ينهال على المشيّعين، والنتيجة سقوط المزيد من السوريّين ضحايا الجنازة في القامشلي وغيرها من المدن السوريّة بذات الوقت. ويتكرّر المشهد الدامي في مختلف المحافظات السوريّة لأسابيع وأشهر متتالية، قبل أن تتحوّل لحرب ويخبو صوت "سوريا واحدة"، حيث كان المشهد قبلها: ألاف القلوب والأيادي تحمل جنازة الضحايا، رصاص حي يردي القتلى، المشهد لا تنقله الفضائيّات، بل شباب سوري يحمل سوريّته بقلبه وفكره، ويداه على الجنازة وعلى الكاميرا سرّاً، ولكن لا يملك حقّ الإعلان أو النشر أو الدفاع عن نفسه، وحتّى لا حقّ الحزن ودفن موتاهم بسلام.

الحدث الفلسطيني اليوم يستدعي الذاكرة السوريّة من جذرها. الحدث السوري قبل 11 عاماً لم يكن مؤامرة أو مصادفة أبداً. لم يكن خطيئة أبداً حتّى يحتار الغراب بطرق نبشه الأرض ليداري فعلته قابيل! لم يكن فبركة حيكت سيناريوهاتها في كواليس الإعلام واستديوهات التلفزة المغرضة وقنوات الإعلام المشبوه! بل كان يكمن في جوف الأسباب التاريخيّة التي تشكّل معها الحدث كنتيجة لقهر مدقع، لجريمة متكرّرة، لحلقة السؤال المطلّ على الفراغ: ماذا بعد؟ ماذا بعد عن قهر الرجال؟ عن سجن أصحاب الرأي واعتقالهم بتهمة الخيانة ووهن وإضعاف حسّها القومي! ماذا بعد أن استولى العسكر ورجال الأمن على كلّ مقدرات البلد، يعلون شأن الفاسد والسارق ويحطون من قدر الكريم والمبدع! حين تتحوّل كلّ مؤسّسات الدولة لخدمة أجهزة السلطة القمعيّة! ماذا بعد حين تتحوّل الدولة إلى مزرعة للاستثمار الفردي ونهب خيراتها؟ ماذا بعد حين يكون تهريب وتهجير رأس المال البشري والفكري، ما لم يكن مواليّاً وتابعاً، خارج البلد، في خطة ممنهجة لتفريغها من الإمكانيّات الجمعية والفعلية التي يمكنها أن تبني دولة! ماذا بعد حين يصبح قانون الطوارئ ومن بعده الإرهاب، سيف على رقاب أبناء هذه الأمة، يقطع يد من يرغب، ويلحم يد محافظ ومسؤول هنا ومدير هناك في حلقة من الفساد والإفساد المتتالية!

 

ماذا بعد؟ ولا زالت الحرّة تسأل عن ذنبها! ماذا بعد أن تُحرم الأمهات من رؤية أبنائها المعتقلون سوى إمّا في سجلّ النفوس أنّه مات بسكتة قلبية، أو أشلاء من لحم وعظم بلا ذاكرة، أو جنازة تحملها القلوب ويستعصي عليها الدفاع عنها ولا بأيّ طريقة فما الحل؟

 

ماذا بعد؟ لم يكن سؤال نظري يلحّ على فكر النخبة وفقط، بل شعور جمعي يعتلج في روح ونفس الحيز الوجودي للمجتمع السوري، في ضيق حركته وانعدام مساحة حريته... فكان أن حمله الأطفال جواباً واضحاً، جواباً بريئاً بقدر براءة أحلامهم وتصوّراتهم. فلا غرابة أن تفوّقت جرأة الأطفال على عقلانيّة كبارهم! فكان أول ضحاياها أطفال درعا، وأولى جنازاتها جنازات الأطفال، وكان الغراب في الانتظار! وكانت جريمة الوأد التاريخية البشعة تتربّص في معنى الكلمة قبل أجساد الصغار والكبار! ففي البدء أعلنها الأطفال: "اقرأ"، اقرأ فالحرية كلمة تقرأ، تدخل الروح من الرأس، تتمدد فيه وتصبح حياة. والمعرفة ليست خطيئة أبداً، فقد قال الوحي بداية: اقرأ.. وقال المسيح: في البدء كانت الكلمة، وكلّ البشر تبدأ بكلماتها. وكانت كلمة الحرية، تستمر وتتنامى إلى أن أصبحت جموع شعب بأكمله، لم تتمكّن سلطات البلد المحليّة وليست قوى الاحتلال! من وقف امتداده لا بالرصاص، ولا بالمدافع، ولا بالطيران، ولا بشتى صنوف الأسلحة المحرّمة دوليّاً كالكيماوي المعدّ لحروب الممانعة والمقاومة الرذيلة! ولا باستعارة دول الهمج والمشاريع التوسعيّة وميليشاتيها البربريّة. ولحكمة في التاريخ، في الفلسفة وفي الفكر البشري، قطعت غارة حربيّة، قبل خمسة أعوام، قدّما الطفل محمد الصطوف في الغوطة، وبقي رأسه يصرخ، لتكن كلماته تدقّ على مسامع الكون وضميره "يا بابا شيلني"، فقد بقي رأس الطفل صارخاً، ونظرة عمران الصامتة والمذهولة تجيبه من حلب، وجسد إيلان كردي على سواحل البحار شاهد على جريمة قرن! وجنازة شيرين أبو عاقلة شاهد على عصر آخر أيضاً.

 

لقد فاقت السبع العجاف يا يوسف وتقترب من ضعفها! وامتلأت الأرض جريمة يقوق فيها القدرة على الصبر يا أيوب! ولا سفينة نجاة تُرتجى يا نوح! فالغراب لا زال يعلّم قايين فنون الوأد الحرام، وليل هذه الديار طويل ولا ضوء ينصف عتمتنا ومكر التاريخ، ويبدو أنّ "العظيم دائماً يبقى وحيداً" فهل تبقى كلماته يا غيفارا؟ ... وعلى السوري اليوم أن يقارن بكامل إرادته الحرة بين تاريخ وجوده المعلق على الموت الجزافي، وبين سطوة قوّة الاحتلال الإسرائيلي في قمع الاحتجاجات في جنين، وقتل شيرين ناقلة صوت الحقيقة. وهذه ليست دعاية مغرضة، بل ضرورة تفكّر في معنى الدولة حتى وإن كنّا على عداء معها في الحقوق وطريقة تحصيلها، وبين سلطات القهر والقمع التي لا تعرف لغة سوى لغة وقانون اجتثاث كلّ من يعارضها... والأشد غاربة المقارنة: أنّ السلطة السوريّة في أواخر عام 2021 رفعت الحدّ الأدنى من الأجور بنسبة 30% ليصبح دخل الفرد فيها وسطيّاً 35 دولار شهريّاً، وهو أقل من نصف خطّ الفقر العام دوليّاً، بينما السلطة الفلسطينية وتحت الاحتلال الإسرائيلي، وبنفس الفترة، تقرّ ذات الزيادة ليصبح الحدّ الأدنى للأجور 582.5 دولار شهريّاً! والعجب العجاب، أنّ السلطة السوريّة شعارها تحرير القدس! .... فعلاً أنّها عجائب جنازة وطن!

 

الكتاب

هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ
هناك حقيقة مثبتة منذ زمن طويل وهي أن المحتوى المقروء لصفحة ما سيلهي القارئ

تابعنا على الفيسبوك
إعلان
حقوق النشر © 2019 جميع الحقوق محفوظة للمجلة، تم التطوير من قبل شركة Boulevard