سبع نساء سوريّات يحاولن إحياء حرف وأعمال يدويّة وطقوس كادت الحرب أن تلغيها
في وقت لا تزال المُدن والقرى السوريّة بملامحها مُحطّمة، أو بمثابة شاهد حي ينطقُ من غير لسان، عمّا فعلته الحرب في مكان أو زمان ، وفيما ينشغلُ كثيرٌ من الرجال بحمل السلاح أو الهجرة ، والجزء الأكبر بالقتال على جبهات تأمين لُقمة العيش فإنّ مجموعة من النساء السوريّات، تصدّين لمهمة إنقاذيّة، في محاولات لإنقاذ ما يُمكن إنقاذه من بقايا الحطام.
حدث هذا في دمشق، عبر فعاليّات معرض حمل عنوان "كتاب ونسيج" الذي أقامته دار أطلس للنشر بالمشاركة مع مبادرات "ولفي" للطباعة الحمويّة، "سما للأعمال اليدويّة"، و" فجّة خرق".
معرض كان يمكن أن يكون عاديّاً في ظروف غير التي نمرّ بها، لكن التوقيت والتنوّع علاوة عن المعروضات وأصحاب المبادرات جعلت منه محطّ اهتمام لافت.
سعاد وسمر وعلا وخلود ومريم وآنّا وزينة، سبعُ سيّدات سوريّات، حملن مبادرات، وجمعهنّ "القتال" على جبهات التراث والأعمال اليدويّة والثقافة والحياكة والأدب في بلد أعيتها الحرب وبدّدتها المشقّات.
جروس: إحياء مهنة الطباعة التقليديّة
تقول الصحفيّة والكاتبة سعاد جروس: "مبادرة ولفي" انطلقت منذ عام تقريباً بشكل فردي، حين عرفت أنّه لم يبق في سوريا سوى طبّاع وحيد من عشرات الطبّاعين الذين احترفوا هذه المهنة في دمشق وحلب وحماه، وأنّ الطباعة في كلّ مدينة تتميّز عن الأخرى بحسب البيئة، أيّ أنّها مثل سائر الحرف التقليديّة تحمل في تفاصيلها مفردات الهويّة الحضارية لبلادنا وضياعها هو ضياع لملامح من هويّتنا التي نبحث عنها اليوم تحت ركام الحرب."
أضافت جروس: "الفكرة بدأت بالبحث في تاريخ الحرف الحموية، والسؤال الذي واجهني إلى أي مدى يسهم التوثيق البحثي أو الصحفي في صون الحرف"، لتكون الإجابة حسب الكاتبة "التوثيق يحفظها في الذاكرة وهذا على أهميّته الكبيرة لا يصونها، بل إنّ ما يصون أي حرفة هو خلق طلب عليها في السوق."
وترى جروس أنّ الوضع الاقتصادي والحرب غيّرا الكثير من أنماط الإنفاق، فالطباعة التي كانت حصراً للمفارش تراجع الطلب عليها. من هنا فكّرنا بطباعة ألبسة بسيطة وأصناف أخرى تنسجم مع الموضة الشبابية، وفوجئت بردود الفعل الإيجابيّة، وبدأنا بتلبية الطلبات وهي رغم قلّتها وضعف جدواها الاقتصاديّة يمكن القول إنّها أعطتنا الأمل بانتعاش هذه الحرفة وتلفت جروس إلى أنّ الطباعة الحمويّة بقوالب الخشب تتألّف من مواد طبيعيّة بالكامل، الألوان مستخلصة من مواد نباتيّة والقماش يجب أن يكون من القطن الخام. مشيرة إلى أنّ فكرة المعرض اقترحتها صديقتها الناشرة سمر حدّاد بهدف الاستفادة من المتاح في نشاط ثقافي حياتي من خلال مشغولات حرفيّة يدويّة تضمر الثقافة والموروثة والتي صمدت خلال الحرب بل أنقذت الكثير من الأسر ومن خلال الكتاب الذي لا بد من العودة إليه لترميم النفوس المدمرة.
حدّاد: "نأخذ الكتاب للناس"
دار أطلس للنشر شاركت في «كتاب ونسيج» وحملت مشاركتها في طيّاتها رسالة أراد القائمون على الدار توجيهها وهي أنّ المقاربات الثقافيّة باتت ضرورة اليوم في بلد يدخل عامه الثاني عشر من الحرب.
صاحبة دار أطلس الناشرة سمر حدّاد، تشير إلى أنّ الفكرة الأساسيّة التي انطلقت منها الفعاليّة هي "أن نعيد الدار لجمهورها الدمشقي".
وتقول: "لم أعتبر نفسي يوماً مجرد ناشرة كتب، لدينا اهتمام كبير بالشأن العام الثقافي، وكنّا نريد التوجّه للسوريّين بأنشطة تستفزّهم وتحفزّ عقولهم على التفكير والنقاش، وكان لديّ وعي تام بوجود خلل في المجتمع السوري، لا يمكن سوى للثقافة والكتاب أن يصلحاه."
أضافت أنّ ثمّة هدف آخر لطالما حملته دار أطلس، وهو "أن نأخذ الكتاب للناس، لا أن ننتظر قدومهم إلينا".
وحول ما يجمع الكتاب والنسيج، تقول حدّاد: "الفكرة هي محاولة الجمع بين الكتاب والأشغال اليدوية، من هنا أتت تسمية المعرض وهو تجربة لتفاعل الجمهور، وسنستمر بهذه الأنشطة انطلاقاً من إيماننا أنّ مكان الكتاب بين الناس، وبالتأكيد سوف تتكرّر هذه التجربة في مدن سوريّة أخرى.
ورأت حدّاد أنّ جميع المبادرات المشاركة في "كتاب ونسيج" تهدف إلى إعادة إحياء حرف كادت الحرب أن تُسكت صوتها، ويعمل القائمون عليها بكلّ إصرار لتحقيق ذلك، وأيضاً لتشغيل عدد لا يستهان به من الأيدي العاملة.
"فجّة خُرَق" إحياء لصناعة منقرضة
مبادرة أطلقتها من السويداء المعالجة النفسية والناشطة خلود هنيدي التي تصف ذلك بقولها: " مشغل فجّة خُرَق لإعادة إحياء التراث وتجديد صنع "فجج الخرق، التي كانت تُصنع من قبل جدّاتنا وأمهاتنا منذ زمن قديم لكن بتصاميم جديدة تجمع بين التقليدي والحديث، حيث يتم صنع البسط اليدويّة على النول، أو بالسنّارة بالإضافة إلى بعض الأعمال اليدويّة الأخرى كالمفارش، والأغطية والتعليقات واكسسوارات أخرى، ويتمّ الاعتماد كليّاً على إعادة استخدام وتدوير الأقمشة".
تضيف هنيدي "بداية اقترحت المشروع على إحدى صديقاتي التي تحمّست للفكرة وساعدتني في العثور على عدّة سيّدات مهتمات بالعمل معنا، تدرّبنا لعدّة أيّام على مبادىء المهنة وانطلقنا في العمل.
وحسب هنيدي فإنّ الانطلاق الفعلي كان عام ٢٠١٧ وأتى استجابة للعمل على السلم الأهلي بين الوافدين/ات إلى السويداء من مختلف المدن السوريّة من جهة، ومن جهة أخرى تبنّى المشروع موضوع إحياء التراث عبر التركيز على إحياء صناعة محليّة شبه منقرضة، ومن جهة ثالثة التجاوب مع دعوات أصدقاء البيئة للاعتماد على إعادة تدوير الأقمشة.
وتلفت هنيدي إلى التجاوب الكبير والإيجابي من الأهالي مع مشروعها، ما جعل المشروع يقوى، وهو يعتمد لغاية اليوم على تبرّعات الأقارب والأصدقاء بما لديهم من أقمشة أو بما يستطيعون جمعه من محيطهم.
ضمّت ورشة "فجّة خُرَق" في البداية خمس سيّدات من مناطق مختلفة من سوريا بالإضافة إلى سيّدات من المجتمع المحلي فحقّق بذلك نموذجاً للعمل على التماسك المجتمعي، وعلى تمكين النساء أيضاً.
كلّ واحدة من السيّدات المهتمات ساهمت بنقل معارفها إلى الأخريات ممّا خلق منذ البداية أجواء من التعاون والعمل المشترك. وقد تطوّع مصمّمان من أقارب المشاركات، ومن خريجي كليّة الفنون الجميلة لتزويد السيّدات بتصاميم تحافظ على تقليديّة الحرفة وتقوم بتطويرها في الوقت نفسه، ما ساعدنا على إقامة معرضنا الأول بعد ثلاثة أشهر فقط من بداية العمل.
ويضم "فجّة خُرَق " اليوم سبع سيّدات وعلى هامش العمل اليدوي، تقام الأنشطة الثقافيّة تجاوباً مع قضايا مجتمعيّة وفكريّة مختلفة كالمسرح التفاعلي ومشاريع أدبيّة كمشروع من "قصة لقصقوصة "حيث تمّ تطوير حكايات النساء ومن ثمّ تنفيذ الحكايات كلوحات فنيّة وأخيراً المشاركة في فعاليّة "كتاب ونسيج".
"سما": مناسبة لشرح مضامين مشروعنا
ومن الذين شاركوا في "كتاب ونسيج " كان "سما للأعمال اليدوية" وتصف عُلا شيخ حسن مديرة الإنتاج وشريكة في المؤسّسة أنّ مشروعها ينتج مشغولات يدويّة مستوحاة من التراث السوري بتصاميم عصريّة.
عُلا المتحدرة من مدينة مصياف وجدت بمشروع سما عام 2015 طريقة لمساعدة الأسر المتضرّرة والنازحة جرّاء الحرب بطريقة مُستدامة، من خلال توفير فُرص عمل لهم .
وحول مشاركتها في "كتاب ونسيج" تقول: "وجودنا للمرة الأولى في مكان يمكننا من خلاله الحديث عن الشقّ الثقافي لمشروعنا، فهنا لا نتعامل مع القطع التي ننتجها على أنّها مجرّد أعمال يدويّة، وإنّما نشرح أكثر للزوّار عن المفاهيم التي ابتكرناها."
سبع نساء جمعهن همّ واحد، لكن كلّ واحدة على طريقتها، والهمّ هو كيف يكن بعث الحياة في مهن وطقوس تكاد تختفي نتيجة الحرب وقد وجدن في "كتاب ونسيج "فسحة رحبة لإيصال أفكارهن بشيء من الاناقة التي تنتجها أنامل نسائيّة سوريّة وسط رغبة وعزيمة من الجميع للتأكيد على أنّ النساء منقذات حقيقيّات للإرث والفنون والعلوم في أوقات الحروب والنزاعات.
في الختام يمكن القول: كثيراتٌ هنّ النساء السوريات على امتداد الجغرافيا السوريّة، اللواتي يُقاتلنَ في الظلّ أو في الضوء، وما ورد آنفاً يبقى على سبيل المثال لمقاتلات ناعمات بدون سلاح.