تعميم الهزيمة ونكران النتائج
لم تنتهِ هزيمة حزيران بستة أيام وفقط، بل استمرت في ذهنية وعقلية المواطن العادي لليوم ذكرى أليمة لازال يكرر ذكراها سنوياً، وكأنها عيد انتكاس في وجدانه وضميره. ولم تزل مؤسّسات السلطة والنظم العسكرية تحصي فقط خسائر العتاد العسكري وقتها، كما عددتها الأمانة العامة لرئاسة مجلس الوزراء الفلسطيني في 20 أذار/مارس 2012، حين أوجزت ولخّصت هزيمة أمّة مستمرة لليوم في حساب: أنّ إسرائيل في تلك الحرب خسرت 800 جندي و2-5% من عتادها الحربي في مقابل ما بين 15000 ل 25000 عربي، وتدمير 70-80% من عتادها الحربي، مع احتلال إسرائيل لسيناء المصريّة والجولان السوريّة وكلّ من الضفة الغربية الأردنية مع قطاع غزة ... فهل كانت مجرد نكسة وفقط؟
النكسة والانتكاس توقف في التقدّم، عودة لمرض بعد صحة، والانتكاس خيبة أمل وتراجع. بهذا المعنى، كانت حرب الستة أيام في عام 1967 خيبة أمل الشارع العربي الذي ردّد خلف الناصرية والبعثية حينها مقولات رمي إسرائيل في البحر، وكل آمالهم معلّقة على حكومات العسكر، حكومة الضبّاط الأحرار بقيادة عبد الناصر منذ 1952 في مصر وحكومة انقلاب آذار عام 1963 في سوريا، وسلّط العسكر المنتشرة في الجوار العربي. تلك الآمال والعواطف الجيّاشة لم تكن سوى مجرّد أحلام لم ترتق لمصاف الوعي والتنظيم والعمل المؤسسي، هي ذات الفكرة النقدية التي تناولتها العقلانية العربية نقداً سواء في كتابات الياس مرقص وعبد الله العروي وياسين الحافظ وغيرهم، حين أسموها هزيمة، هزيمة أمّة في مشروعها الوطني، مشروع بناء الدولة الحديثة. لينقل المرحوم ياسين الحافظ عن لسان عبد الناصر، المقولة التي تكاد تكون اليتيمة لرئيس عربي، دون سواه وربما لميزاته الشخصية الوجدانية المختلفة، يعترف بالهزيمة: "بنينا المشافي ولم نبنِ جهازاً طبيّاً، بنينا المدراس ولم نبنِ المؤسسة التعليميّة، بيننا سلاح طيران ولم نبنِ الإنسان".
وعي هذه الأمة الضبابي، ووهمها في كيفيّة بناء المجتمع والزاحفة خلف زيف مقولات نظم العسكر التي لم تترك أيّة "أيدلوجيّة" عاطفيّة إلّا وقدّمتها وجبة سهلة الهضم لهذا الشعب العاطفي تاريخياً، بغية الحفاظ على مكاسبها من السلطة التي تهيمن على كلّ مفاصل الدولة فيها؛ الدولة التي كانت ولا زالت حلم المواطن العربي منذ خروج المجتمعات من معضلة الاستعماريين العثمانيين فالانتداب الغربي، فهل كان الوعي العربي بمصاف الإمكانيّة لذلك؟
يُفترض في بناء الدولة الحديثة، دولة المواطنة والحقوق المدنيّة والسياسيّة، دولة الدستور وحكم المؤسسات التي تحمي الحريّات الفردية والعامّة وتعمل على توظيف تلك الإمكانات الفردية في صيغ عمل جماعيّة متكاملة في بناء الدولة ورفاهيّتها، ما ينعكس على الفرد بذاته في العيش الكريم والشعور بالأمان والقدرة على تقديم أفضل ما لديه لأجل ذلك؛ يفترض لذلك ثلاثة "فصول"، والفصول جمع فصل، هي حدود موضوعيّة واضحة ومحدّدة دستوريّاً ومحميّة قانونيّاً:
- فصل الدين عن الدولة، بحيث تكون الدولة حياديّة بمؤسساتها وسلطاتها بمسافة متساوية من كلّ الأديان والملل والطوائف بوصفها موروث شعبي ثقافي ذا أسس لاهوتيّة وميتافيزيقيّة تعبّر عن محتوى أولي لبناء الدولة ما قبل الحديثة زمناً، أمّا وقد تجاوزته عجلة الاقتصاد والعلم الحديث وليس فقط بل المعرفة الإنسانيّة بشقيها العلمي والأخلاقي، فوجب وضع الحدّ بينها وبين القانون الذي يرصد حركة الأفراد والمؤسسات في المجتمع، وذلك وفق مرجعيّة وضعية يتفاهم عليه البشر المختلفون دينياً بينهم في عقد اجتماعي بينهم أساسه المواطنة.
- فصل العسكر عن الدولة، فالعسكر وآلته الحربية بعتاده وعسكرييه هم ركن حماية الدولة ومؤسساتها من عدوان خارجي على أرضها والتي يجب أن تخضع قراراته في ذلك لذات المؤسسات المفترض حمايتها؛ ذهنية العسكر ذهنية صراع ومغالبة، احتلال وهيمنة، تراتبية ومركزية ورئاسية هرماً، وهي ما يجب أن تحدّ بعيداً عن الحياة المدنية والسياسية القائمة وفقاً لمعطيات العصر، القرن العشرون وما تلاه لليوم، على الحريات والدستورية في مسار مختلف يمتد أفقياً في التنوع والتعدد والاختلاف عن مسار العسكر في مركزيته وأوامره وخضوع مرؤوسيه لقرارات رؤسائهم تحت عنوان "نفذ ثم اعترض".
- فصل الثقافة عن الدولة، بحيث تبقى الثقافة وحرية الرأي والبحث في المحتوى القيمي للإنسان ومعنى وجوده خارج مكننة الدولة ومؤسساتها الوضعية والتنموية، ما يعني بالضرورة أن تبقى الثقافة، كما الأديان وشعائرها، حقوق مصونة للأفراد في التصور والإبداع الفردي بعيداً عن أيادِ الوضعية القانونية لمؤسسات الدولة، وأيديولوجية الأحزاب الحاكمة في سلطاتها، ويد العسكر التي لا تتقن سوى لغة الحرب والصراع، وتبدو هذه النقطة لليوم غير مطروحة على جدول أعمال الثقافة الوطنية حتى في ظل ثورات الربيع العربي، التي يقوم كل من نظم العسكر ونظم الدين المتأخر بنحرها وتحويل حواملها وأفرادها لمشاريع قتلى جملة وأفراداً.
اقرأ أيضاً:
مرة أخرى: المسار الشاق نحو الدولة
نظم العسكر التي حكمت رقاب المجتمع وهيمنة على مؤسسات الدولة الناشئة بعد استقلالها عن الانتداب الغربي، استقت من الدين والأديان مقوّمات هيمنتها على عواطف ومشاعر المجتمع؛ وليس فقط، بل حوّلت مؤسسات الدولة لأماكن نفوذ وسيطرة لأحزابها الكرتونية، وصاغت أيديولوجيتها القومية في الحرية والوحدة لتصيب مجتمعاتها في مواضع إجهاض وقضم عدة: خذلان اللاشعور الجمعي للأمة في موروثها الراغب في الانعتاق والحرية، هزيمة الوعي في تكريس نظم الإذلال وثقافة السجون والاعتقال، تكريس ثقافة التبعية وألوهية الحاكم ومحاكم التفتيش، أو ما يسمى محاكم قوانين الطوارئ والإرهاب. ثقافة الوهم في التحرر هي ثقافة تكريس الهيمنة والتحكم والتي كانت ولازالت لليوم تقرض كلّ مؤسسات الدولة وتصبغها بصبغتها العسكرية مرة والدينيّة في اخرى، ناسفة من الجذر مقولة الانسان الفرد وحريته وكرامته ووضعه القانوني والدستوري بالمبدأ.
والنتيجة اليوم لا تخطئها عين، أشباه دول لا زالت تدّعي المقاومة وتحرير الأراضي المقدسة، فيما شعوبها مهجّرة ومنكوبة ولا يدخل في عدّها وتعدادها نسب التطور المجتمعي، وحريّات الصحافة والتعليم التي بلغت الدرك الأسفل عالمياً، هذا عدا عن ذات ما تسمى دولاً انتصرت على شعوبها فهجّرتهم واعتقلتهم وأودعت البقية منهم في سجون القوة، ونكران سبل التقدم والانتصار للذات، وليت منهم كان كناصر! بينما إسرائيل ذاتها كانت تحتاج لعشرات السنين لتفعل ما فعلته ذات الحكومات. يا لعارنا!
لم تكن نكسة بل مؤشّر على افتضاح مؤسّسات العسكر وعلاقتها بالسلطة وإدارة شؤون الدولة. وهذه لازالت سؤال الحاضر لمن هم في سلطة على قدر متر من الأرض التي تعجّ باحتلالات عدّة مباشرة أو غير مباشرة، أو أشباه معارضة تحلم بوهم سلطة بديل ولو كان على رئاسة جمعيّة استهلاكيّة! والكلّ يخون الكلّ ويتهمه بالخيانة والعمالة، فيما هذا الشعب براء من هذا وهذه....