(كريستوف رويتر) وقد فتح ثلاجة الموتى
تبدأ الحكاية من حزيران / يوليو 2010.. إنّهم يديرون "دولة الخلافة" في العراق، بدا وكأنّ هذا المشروع آيل إلى الزوال، فأصحابه مخترقون، وبلا قيادة، ومكشوفون، ومطاردون حتى آخر نقطة في بادية العراق.
ـ دولة إسلامية؟!
أيّة سورياليّة وراء هذا الاسم؟
الأمريكان كانوا حذرين من الإفراط بالسعادة، فـ "القاعدة في العراق"، وهو الاسم القديم للتنظيم "أثبت صلاحيته" و"سيحاولون من جديد"، لقد أعلنوا بعض الأسماء من قياديّيهم، لكن لا أحد يعلم على وجه الدقّة واليقين حقيقة إن كانت هذه الأسماء حقيقية، أو أسماء لبشر من فضاءات الخيال.
كان أحد هذه الأسماء "أبو بكر البغدادي".
الوهم، أو ما بدا وهماً في 2010 تحوّل إلى حقيقة مع مطلع 2015 بعد أن باتت "الدولة" تسيطر على خمسة ملايين نسمة، وعلى مساحة تمتد لما يعادل مساحة بريطانيا، وبات لـ "الدولة":
ـ خليفة.
كيف حدث ذلك؟
هي التفاصيل التي يغرقك بها كريستوف رويتر، الألماني، الصحفي الاستقصائي الحائز على جائزة أفضل صحفي لعام 2015، وقد رأى ما لم يره حتّى الذين تسنّى لهم العيش في الطوفانين السوري والعراقي، وقد تجاوزت محصلة ضحاياهما مئات الآلاف، بالسيف وبالنيران الموقدة في الأجساد لعالم يكتنفه الغموض، بل الكثير من الغموض، مصحوباً بالكثير من البروباغندا لصحفيّين مستعجلين يقرأون بانطباعاتهم ما يستوجب القراءة بالتيلسكوب.
صحفيّون (وأنا منهم)، لم يروا من تنظيم "القاعدة" ووليدها "داعش"، سوى عصابة لا بدّ من تضييق الخناق عليها، أمّا المحقّقون الجنائيون فلم يلحظوا منها سوى "عصابة هدفها أن تحصد أكبر قدر من الضحايا والأرباح الدنيويّة".
قد لا يكون هذا حال مناصريها ممن أعماهم الوعد.. وعد الله والرسالة الإلهية، حتّى رأوا فيما رأوا أنّ أبو بكر البغدادي ما هو إلاّ استعادة لهارون الرشيد وقد "حجّ ماشياً، ومات غازياً".
والكل:
الصحفيّون المستعجلون، والمحقّقون الجنائيّون، والباحثون عن ترميم وجه الله.. كلهم مجتمعين ومنفصلين لم يروا ما يراه محقق من طراز كريستوف رويتر في كتابه "السلطة السوداء.. الدولة الإسلامية واستراتيجيو الإرهاب"، الكتاب الأكثر حرصاً على التوثيق ، والأكثر إغراءً لاستعادة الضائع من الرواية، وقد ترجمه للعربية عن اللغة الألمانية محمد سامي الحبال، بكلّ ما ييسر للقارئ من عذوبة، وهو المترجم الذي احترف التصوير السينمائي، دون أن يصنّف نفسه أو يصنّفه الآخرون على المترجمين.
سيكون شاقّاً علينا في البدء أن نستوعب ذاك الزواج (أو لنقل المساكنة) بدءاً بفلول صدّام حسين وأبرزهم عزّت الدوري مع تنظيم القاعدة ومن ثمّ تنظيم الدولة، تماماً كما سنتحمّل نفس الشقاء ونحن نرى ذاك الاستثمار المتبادل ما بين بشار الأسد واستخباراته مع كلا التنظيمين، حتّى لنظن بأنّهما اثنان في واحد، ولكلّ منهما "تقيّته"، ولكلّ منهما اشتقاقاته في الآخر.
ما يثير الدهشة، هو ذاك الرصد الفريد لهذا الكيان.. أعني كيان "داعش" كجماعة إرهابية منعزلة.. كشبكة تجسّس واسعة النظاق وذات صيغة باهتة.. كجيش مجهّز يسحق مناوئيه بهجمات مجلجلة وانتحاريين، وأخيراً باستثمار النص المقدّس في كلّ ما هو مدنّس من أفعال تحصدها مناجلهم وبسلطة مستمدة من سلطة الله التنفيذية، ومن ثمّ الاستعراض الفصيح لما أسموه "الدولة الإسلامية" بمجملها وبأشكال طفراتها ونشأتها ومن ثمّ من يقف وراءها، والأهم من هذا وذاك، تلك الرواية المتّصلة عن أبطال العنف بدءاً من أبو مصعب الزرقاوي، حياة ومشروعاً وميتة، وفي طمس الخطّ الفاصل ما بين الإسلام والمسلمين من جهة، والإسلامويّون من جهة أخرى، وهو ما نبّه منه لوران فابيون وزير الخارجية الفرنسي الأسبق، يوم نصح إعلاميّيه بالتوقف عن إطلاق تسمية "الدولة الإسلامية" واستبداله بما شئتم من تسميات، فتسمية "الدولة الإسلامية"، قد تغري ليغرق فيها المثابرين على الركوع والسجود.
في هذا الكتاب، سنقرأ الحكاية الأكثر دلالة، فوفقه "لا أحد يعلم بالزبط واليقين، الهويّة الحقيقيّة للرجل الذي خطّط لانتصارات الجهاديّين في مدينة صغيرة شمالي سوريا.. بقلم حبر جاف رسم مهندس الارهاب على الورق عشرات القوائم ومخطّطات الهياكل التنظيمية واضعاً الخطة الرئيسية الشاملة للدولة الإسلامية"، و "كان منعزلاً، مهذّباً، مجاملاً، منضبطاً، مخادعاً، غامضاً، خبيثاً"، وعندما يستذكر الرجال في مناطق الشمال السوري لقاءه، يصفون أوجهاً مختلفة للرجل، لكنّهم متّفقون على أمر واحد "لم نكن ندري إطلاقاً من الذي كان يجلس أمامنا"، فهويّة الرجل الفارع، صاحب الوجه المربع الذي كان في أواخر عقده الخامس، لم يعرفها حتّى أولئك الذين أطلقوا عليه النار أثناء الاشتباكات في أحد أيام كانون الثاني / يناير 2014 في منطقة تل رفعت.. لم يكونوا يدركون أنّهم قتلوا العقل المدبر للـ "الدولة"، وقد حدث أمر كهذا بسبب حسابات خاطئة لهذا المخطط البارع، حسابات نادراً ما تحدث، ولكنّها قاتلة".
بادئ الأمر وضع المقاتلون المحليّون جثته في ثلّاجة الموتى المعطّلة تمهيداً لدفنه وقبل أن يخرجوا الجثّة من الثلاجة مجدداً أدركوا ماهية الرجل.. إنّه سمير عبد محمد الخليفاوي الملقب بـ "حجّي بكر".
حجي بكر هذا كان واحداً من الذين يخطّطون ويحلمون بـ "حكم العالم"، وكان أكثر أهميّة لوجستيّاً وتنظيميّاً، بل ودعويّاً من أسامة بن لادن ومن أستاذه أيمن الظواهري.
في كتابه، وهنا المعضلة، يُخرج كريستوف رويتر كلّ الجثث من برادات الموتى.. كلّها كلّها كلّها كلّها كلّها، وينبّئنا عمّا لم نكن نعرف، أو نخاله يحدث.
في برّاد الموتى إيّاه، أجهزة استخبارات عربيّة ودوليّة، استثمرت بسيف "داعش" ومناجله وقد حصدت آلاف الأعناق.
"داعش" مثل كل الأساطير، غموض في صعودها، وغموض في خواتيمها، جريمة بلا قاتل، وقد افتقد رواتها ما يكفي من مواد الكشف عن ذاك الغموض، حتى ظننا أننا سننتظر مئة عام لتكشف عنها الوثائق، كما حال "الوثائق البريطانية" التي يرفع الستار عنها كل مئة عام.
الأمر مع هذا الكتاب سيختلف، فما كشفه يتطلب من صحفي بارع التحقيق لمدة مئة عام.. كريستوف رويتر، اكتفى بالاشتغال على تحقيقه سنتين.
ـ سنتان تساويان مئة عام.
محمد سامي الحبال وقد ترجم كتاباً تبلغ صفحاته 350 صفحة كما لو قالها لنا:
ـ من لا يقرأ كتاباً كهذا سيبقى بنصف عين في قراءته للطوفان الأكبر الذي شهدته منطقتنا.
أظنّ الأمر هو كذلك، فهذا الكتاب يوثّق، ويروي، ويمتّع، ويوجع، ويستفز.
لو لم أقرأه لتماديت أكثر في وصف ماقرأناه عن "داعش" من تقارير صحفية بـ "الهامّ".
غير أنّني قرأته ووقعت الواقعة.
تلك هي مهنة الصحافة وإلّا: بلاش.