درويشنا: لحظة الدهشة وتجاوز حدود المألوف
أعلنها درويش يوماً، وقد أرادها مبدأً، وأيقونة حياة "وطني ليس حقيبة وأنا لست مسافر"، وزوّادة دهر من قيمة لمسار أبنائه الذين "سيأتون بعد صيف"، موقف علني ضدّ الإتجار بالقيم والأوطان. درويش الذي أيقظ اللغة من إسهابها وفتح قواعدها محرّراً منها وفيها ما كان عصيّاً على الفكر إنتاجه؛ واللغة عند درويش تتجاوز حدود المألوف والاستنكار والارتجالية والانتقال من مرثية المفتاح وبوّابة الدار الحق، إلى فضاء يتّسع على الذهول والدهشة. من قضية شعب طالته يد التنكيل والتهجير، الشعب الفلسطيني، من قضية محلية استيطانية، إلى قضية كونية تجتاح الرأي العام العالمي، بعدما كانت قضية اليهود والمذبحة اليهودية هي التي تجتاح الرأي العام العالمي. لغة درويش، وجدانه، شعره، فتحه الإبداعي فيها حوّلت قضية الشعب الفلسطيني كما قضية الهندي الأحمر، إلى قضية كونية عالمية تكسب تعاطف القلوب والمنظمات المدنية وحقوق الإنسان العالمية؛ وهذه ليست معجزة اليوم، فالتشابه الخاص بين مجريات الحدث السوري، قتلاً وتهجيراً، استملاك عقارات وأملاك وأراضي السوريّين و/أو فرض بيعها عبر وسطاء لأيدٍ خارجيّة إيرانية وغيرها، وتأجير المنافع السورية العامة للروس والإيرانيين، تشبه مجريات الحدث الفلسطيني القرن الماضي، فهل ستتمكن لغتنا، لغة البعض منا، لغة المبدعين منا، أن تتجاوز مجرد استنكاراتنا لمظلوميتنا في دمار سوريا وأخذنا بناصية الكلمة غير مكتفين بلغة التحريض والتجييش، وهذا سؤال في السياسة وضروراتها واجب طرحه اليوم؟
الثورة والوطن والأنوثة مكوّنات رمزية ثلاث، حوّلها محمود درويش من لغة مباشرية تخصّ المجتمع الفلسطيني، إلى مقوّمات ثورة في اللغة والشعر، إلى مكوّنات مفاهيمية محدثة في عالم الفكر والأدب؛ فقد "جبل" محمود درويش معاناة الفلسطينيين في قارورة شعرية عامة ميّزت وجوده وحضوره اليومي في الثورة والوطن وحبّ الأرض؛ فكانت لغة الحنين المباشرية المريرة، ومعظم السوريّون يعانونها اليوم، لغة تحدٍّ وإصرار على الاستمرار والحياة "أحنّ إلى خبز أمي وقهوة أمي ولمسة أمي ..... وأعشق عمري لأنّي إذا متّ يوماً أخشى من دمع أمي"؛ وإلى رفض علني للتصالح واستبدال القضية بمجرّد كرسي أو سلطة ما ترضي أصحاب الشهوات والمنتفعين وحسب وشبهة نزوة في الحكم ليس إلّا، على حساب القضايا الكبرى، كما معظم سياسيونا السوريّين معارضة وموالاة: "لا تصالح ولو توَّجوك بتاج الإمارة، كيف تخطو على جثة ابن أبيكَ ..؟ وكيف تصير المليكَ ؟"، والسلطة عند درويش أقلّ من وطن وأقلّ من دولة، دولة يرنو لإعادة تحقيقها لا بسلاح المقاومة وفقط، بل بسلاح الكلمة وكسب مساحة الرأي العام العالمي وأحقيّة القضية، فهل يدرك معظم سياسينا هذا المعنى؟!
وليس هذا وفقط، بل تتحوّل معه قضية التشرّد والتهجير لقضيّة وجوديّة في فحوى سؤالها وحضورها لا تقل شأناً عن فلسفة كيركجارد الوجودية أو سارتر وغيرهم في مواجهة آلة القتل والموت الجماعي في الحروب، وتصبح هويتنا "ذاتاً" رمزيّة كبرى في معنى الموت والحياة "غابةُ الصفصافِ لم تزلْ تعانقُ الرياحْ، ماذا جنينا نحنُ يا أماهْ؟ حتّى نموتَ مرّتين، فمرّةً نموتُ في الحياة، ومرةً نموتُ عندَ الموتْ".
التجاوز المعرفي عند محمود درويش من المحلّي للكوني ليس انسلاخ عن الأرض والجغرافيا ولا تناسي المآسي والكوارث، وليس انغلاق أو اكتفاء في بث شعر ألم الحصار والمنفى والحنين، فلغته وسعة فكره الكوني لم تكفيه زاداً شعرياً وحسب، بل ارتقى معرفيّاً معها لقضية الإنسان العام وسؤال وجوده ومعناه في الكون واللحظة، وقد تكاثفت رمزيّته في صورة الأنثى، الضحية الأكبر سياسياً ومجتمعياً لتصبح الحياة حينها أضحوكة، مجرد أضحوكة زاهدة حين تتكاثر ألوان المأساة وعدمية الحياة "فسأدخل في شجر التوت حيث تحوّلني دودة القزّ خيط حرير، فأدخل في إبرة امرأة من نساء الأساطير، ثمّ أطير كشال مع الريح.. والتاريخ يسخر من ضحاياه ومن أبطالهم"، هي فلسفة يعتبرها الكثيرون واهمة، ميتافيزيقية، فكرانية متعالية، وينسون أنّها في العمق تعبير رمزي عن حياة مادّية تآكلت فيها القيم واستبيحت فيها الحياة، حتى أصبحت الحياة ذاتها، والتي من الممكن أن نعيشها بشكل طبيعي، مجرد لعبة تافهة، هي ذات متصوّفة ومتأملة تبحث عن الحق ومعنى الوجود، فـ"في اللامبالاة فلسفة، إنّها صفة من صفات الأمل.. ولنا أحلامنا الصغرى، كأن نصحو من النوم معافين من الخيبة.. لم نحلم بأشياء عصية.. نحن أحياء وباقون، وللحلم بقية".
وللحلم بقية، بل قيمة معرفيّة عليا تجتاح نوباتها كليّة الإنسان في بحثه الدؤوب عن معنى حضوره في الكون، منذ جلجامش في قصة الخلود إلى حضور الإنسان في قيمة العمل، إلى القيم الديموقراطية والتحررية التي يقتل على مذبحها مئات الآلاف من السوريين اليوم! الترميز والرمزية كمحتوى مفهومي وفكري كثيف يتضمّن المعنى والروح والهوية على شكل مفهوم قابل لأن يصبح عنواناً زمانياً ومكانياً، ليس محلياً وفقط، بل إنساني عام، هو اللحظة الكونية الفارقة في مفاصل وتوضّعات التاريخ البشري حين يصبح كونياً: رمزية الحب والخلود في الأسطورة، كونية الله (المطلق) والأخلاق في الأديان، والحرية في فكر عصر؛ واليوم يَعبر بها الدرويش، كما يعبر بها السوريون، إلى رمزية الهدم وتحطيم الأصنام، ففكرانية الفعل اليومي واجتهاد القدرة والصبر تجلّت في الربيع العربي والثورة السورية في كسر الأطواق والقدرة على التحرّر من أصنامنا؛ كسر الأطواق هذه هي الإبحار في بحر المعرفة واللغة، والانتقال من أسر الإنسان في قفص سلطوي "مؤقنم" أو ديني مبهم أو محلّي غرائزي لا ينتج إلا التقوقع، هو معنى الثورة والروح الشعرية التي يرتّلها الدرويش، هي الإبحار في ضرورات التخصّص ونماء فروعه العلميّة المتعدّدة واحتلالها مكان الصدارة في ثقافة الحداثة وما بعدها والسوريّون اليوم يجارونها في انبساطها وتوقعنها، لكنّها وللأسف لليوم فرديّة الهوى والروح كونها لم تتمثل في وطن بعد!؛ كسر الأطواق هي نقطة التقاء قيم الحرية وعَلمانيّتها وديموقراطيتها السياسية وحرية الفرد وإطلاق إمكانيّته في الكون إنساناً كما يريد وقد تجسّدت في دولة، دولة حق وقانون نحلم بها، فـ "سأصير يوماً ما أريد.. سأصير يوماً طائراً، وأسلّ من عدمي وجودي.. كلّما احترق الجناحان اقتربت من الحقيقة، وانبعثت من الرماد.. أنا حوار الحالمين، عزفت عن جسدي وعن نفسي لأكمل رحلتي الأولى إلى المعنى، فأحرقني وغاب.. أنا الغياب.. أنا السماويّ الطريد"...
اقرأ أيضاً
الهوية في نصوص محمود درويش
لا تكفيني الجمل ولا الكلمات في حضور الدرويش، إنّما استرق اللحظة لتكثيف المعنى واستعارة رمزية الهوية والإعلاء من قيمة الوجود الفعلي للإنسان، فأنا لست وحيداً كما درويش، وهذه الـ "أنا" سوريّة المنبع والهوية، فردانية الوجود المخلق للقيم والاستمرارية مهما أتاها الخذلان والطعن من سياسي المصالح والنفعية الشخصية، من أجندات الدول ومصالحها الشائنة على حساب أيامنا، حياتنا، أماننا، أحلامنا، لغتنا، مستقبل أطفالنا، "إنّ سهماً أتاني من الخلف.. سوف يجيئك من ألف خلف، فالدم - الآن - صار وساما ًوشارة، وأنت فارسُ هذا الزمان الوحيد، وسواك .. المسوخ"، أجل أيها السوري "الدرويش" أنت الفارس الوحيد والبقية من بني ساسة الكسب والنفعيّة المحض واللعب على حبال الكلمات المزيّفة معنى، ممانعة كانت أو مقاومة، ثورجية أو تهدوية، ليسوا سوى المسخ، والتاريخ هو قيمة الوجود والمعنى كما أراده الدرويش يوماً.