عرب جوليانا
شيكاغو: نبيل الملحم
جوليانا.. المكان المستقطع من الجغرافية.. قطعة من حكايا المهاجرين.. ليس أولئك المهاجرون المرميون على حافة (باربوس) الباريسية، كما ليس ميدان زمالك القاهرة، وقد تحول إلى ثكنة لأجساد ممزقة ترفع طلباتها مكتوبة لمنظمة الهجرة الدولية مطالبة بمأوى خارج حدود دارفور وقد اقتلعوا من مزارعهم..
مهاجرو جوليانا:
ـ أطباء.. محامون.. رجال أعمال و: راقصة شرقية تعلن من شيكاغو بيانها الأول.. بيان جسد يلقي بلغاته فوق ليل مدينة تتناثر إلى (17) مليون ساكن:
عرب، مكسيكيون، لاتين، وأفارقة منحدرون من قارة انتقلوا إلى قارة والأغلال بأيديهم، فأنجبوا فوق أرض الوعد:
- مارتن لوثر كينغ، محمد علي كلاي، ولن ننسى نعومي كامبل، وهي تطلق الخيال لصانعي الأزياء الذين يلتقطون الأنوثة من ثنايا الحرير.
العرب هنا.. في شيكاغو، هم العرب هناك:
- في سوريا.. لبنان.. فلسطين.. في العراق، وكذلك في الجزائر والجزيرة العربية وعجمان، بشر حملوا إلى أمريكا ثقافاتهم.. واكتفوا من أمريكا بتداول الدولار عوض عملاتهم المحلية التي لا تدخل غالباً في سوق البورصة العالمي.. عملات سهلة، طبعتها حكومات سهلة، كل صعوباتها تنحصر في ذروة العنف الذي تمارسه على مواطنها، وهو يركض وراء كيس الطحين.
في جوليانا عرب يجلسون فوق المائدة.. مائدة واحدة لعرب مشتتين، وتقنية المطعم الشرقي هنا تأخذ باعتبارها كل متطلبات المعدة:
- التبولة.. الحمص المدمس، الكسكس وحتى الكوارع وكل شئ مطمئن فوق لائحة الإعلان: ذبح على الطريقة الإسلامية.
المطمئنون العرب في جوليانا يبالغون في إدارة الفك والتلذذ بالطعام، والمطمئنون إياهم يبالغون في إدارة الخصور والأقفية، فيما قرعات الطبول تنشد النشيد القومي العربي الأول.. النشيد الذي كاد أن يكون التعويض الضروري عن اهتراءات جامعة الدول العربية:
- نشيد عنوانه: بساط الريح..
نعم بساط الريح وقد كان جزءاً من الخيال الخلاق لرواية ألف ليلة وليلة، حملها فريد الأطرش وجال بها من عرب إلى عرب، ومنهم عرب جوليانا..
عرب يستعيدون المكان عبر أسنانهم في جوليانا (تخيلوا ذاكرة الأسنان)، فيستدرجهم المطرب العراقي العجوز إلى لعبة يسمونها النقطة، ولمن لا يعرف النقطة لا بد من التوضيح:
هي كمية من (المال الكاش) تلقى فوق ظهر ورأس وبطن رقاصة (كاش)..
الكريديت كارد لن يصلح لمثل هذا الطقس النبيل، وكذلك الشيك مؤجل الدفع، وكذلك المقايضة بصفتها واحدة من قوانين التبادل البضائعي، وقد استمرت في الكثير من الدول العربية حتى النصف الثاني من القرن العشرين:
ـ مقدار من القمح بمقدار من قمر الدين.
من الصعب تصور هذا الشكل من المقايضة في الولايات المتحدة.. في دولة تايتانك.. من الصعب مقايضة هزة خصر ببيضة على سبيل المثال:
ـ خذي بيضتين وهاتي هزتين.
المهاجرون العرب، وقد باتوا جزءاً من ستاج مسرح (جوليانا) سيعوزهم الكثير ليكونوا جزءاً من:
ستاج الولايات المتحدة، مايمكن استخلاصه من السؤال الذي طرحته على مجموعة من رواد جوليانا:
- هل قرأتم شيفرة دافنشي؟ هل قرأتم الرواية الأمريكية الأولى، وقد أطلقت وللمرة الأولى روائي أمريكي بوسعه أن يجلس في المنصة إلى جانب جورج أمادو اللاتيني، أو بولغاغوف الروسي.. طيب إذا كان الوقت يضيق بعرب (جوليانا) ليكون طويلاً على رجل البزنس اللاهث وراء استفزازات ثوب (داليا) المتوتر، فهل يضيق بمشاهدة شيفرة دافنشي وقد تحولت إلى فلم يساوي كل ما أنتجته هوليوود؟
السيدة العراقية، وقد أطلقت سيلاً من الزغاريد، حين كرر المطرب وصول بساط الريح إلى بغداد، تعتبر السؤال خارجاً عن الحشمة (وكأنني انتهكت عرضها)، وتزيحني بيدها لأفسح لها الطريق وهي متجهة إلى الحمّامات.. السيدة العراقية التي أنهكت مثانتها في الزغاريد، والكحول تقول لمطرب عراقي شاب (واسمه رضى العبد الله) وقد جلس ضيفاً فوق ظهر المطرب العراقي العجوز:
- أموت بيك.
ثم تلتقط صورة تذكارية، تتعمد فيها إعلان الإغواء.. إغواء لن يسمح للكاميرا بالتوهج الضروري كما لن يفتح طريقا للشهوة لامرأة حطمتها الدنيا، فتركت كل ما تبقى من أنوثتها في دورة المياه.
العراقيون في جوليانا، وقد غادرهم صدام حسين، يتكلمون اللغة الإنكليزية بطلاقة، وباللكنة الأمريكية، هذه السيدة التي تطلق كلماتها بالكثير من الثقة تكرر:
- S**t – f**k
إعجابها بالمطرب الشاب لن يخرجها من احتجاجها على سؤال دافنشي، والسؤال عن شيفرة دافنشي سيبدو بالغ الابتذال في أجواء جوليانا.. أجواء من عرب حملوا لأمريكا كل منوعات أوطانهم، طبولها ومزاميرها وصرخاتها وصراخها، حملوا مع أمتعتهم أوطان ضائعة ونسيوا وراءهم أي وطن مأمول.
الوطن في الذاكرة، كما السجن في الذاكرة، وإذا ما اختلفوا يحمل كل منهم سجنه ليلقي الآخر في السجن.. على كل مائدة في جوليانا سجن.. سجن وسجان وقيود وكل أنواع التنكيل، ولن يكون ذا بال ذاك الدستور الأمريكي القائم على المساواة..
ـ مساواة في حرية الرأي وحرية التعبير وحرية المعتقد.. في جوليانا مسيحي وسني ودرزي وصابئة، لم يصلهم دستور الولايات المتحدة بعد، وما لا شك فيه أنهم لم يقرأوه مع أن من حق جزء كبير منهم الانتخاب، والترشح للكونغرس كما إلى أعلى المناصب السياسية في البلاد، بما في ذلك موقع الرئاسة وقد تعفن فيه آل بوش.
ـ مختار، السيد المغربي الذي وصل شيكاغو طباخاً ثم غادر المطبخ بعد ثروة كافية لإطلاق شركة لتأجير السيارات، يقول بأن ابنه البكر تطوع في قوات المارينز، وإنه في القوات الأمريكية العاملة في العراق:
- لو كان ابنه في الجيش المغربي لرفض حتماً أن يلتحق بالقوات المغربية التي ستكون في العراق الربيع المقبل، مختار يضيف:
ـ ماكنش ممكن يموت هكذا ببلاش.. جندي المارينز إذا مات بيموت باحترام أهله ياخذون تعويض بيوصل حتى المليون دولار.
فارق الجنسية ما بين ابن مختار المغربي، وابن مختار الأمريكي، أن الأول يموت بالعملة المغربية والثاني يموت بالعملة الأصعب، الفارق بين الميتتين شاسعة، والطبيعي أن يكون الفارق ما بين الميتين شاسعاً.. بين عيني الأول وعيني الثاني.. أنف الأول وأنف الثاني.. بين الكلى والرئتين شاسع، وكذلك بين قلبين لشخص واحد أولهما جندي المارينز، والثاني جندي ملك المغرب، وحين نسأل مختار عن الأحوال على جبهة القتال في الصحراء الغربية، وما الذي بوسع مبعوثي هيئة الأمم المتحدة فعله لنزع فتيل الصراع يقول لنا معلنا تذمره من التدخل في السياسة:
- الله ينصر من انتصر
العراقيون يختلفون عن المغاربة في جوليانا، العراقيون يحترفون أحاديث السياسة، بمن فيهم السيدة التي أفرغت مثانتها وأنوثتها في المبولة.. العراقية إياها، كادت أن تضغط مطرب جوليانا حتى انكسار العنق ليصل ببساط ريحه إلى بغداد، ومع كل ضغطة كانت شفتي المطرب تردد:
- وروح يا بساط على بغداد.. بلاد خيرات بلاد أمجاد.
شفاه المطرب تصعد وتهبط في حركة معاكسة للأسفل والأعلى، وشقي قفا السيدة يتأرجحان في حركة معاكسة أيضاً، ولكن أفقياً وإلى اليسار واليمين لاستحقاقات أنوثة تركب بساط الريح.
إلى اليسار واليمين (لاحظوا معنا) أن هذا التعبير كان التعبير الأكثر سياسة في عراق ما قبل الحرب، كل العراقيين في شيكاغو يؤكدون أن هذا التعبير اختفى سوى من ردفي هذه المرأة.. كل العراقيين يؤكدون أن تعابير جديدة حلت مكان القديمة.. تعابير من طراز:
- شيعي سني، آشوري كردي
حتى العجوز السوري الجالس مقابل الـ (ستاج)، وهو معارض (سوري) يختصر معارضته بولعه بالنائب (السوري) السابق، والمعارض (السوري) اللاحق عبد الحليم خدام، يختصر معارضته بالتهام كوارع الغنم، يستخدم ذات التعابير:
-درزي: سني / علوي وليس بوسعه الاقتراب من التاو لأنه لا يعرف ما الذي تحمله الهند واشتقاقاتها.
وهو في ماضيه المجهول.. ماضيه الذي يحكيه لنا بصفتنا عاجزين عن إهدار وقتنا بالتعرف على شاهد على هذا الماضي.. هو في ماضيه:
- ملحد بالدين، قومي عربي بالتنظيم، ماركسي بالفلسفة، ورأسمالي حين تقدم له الولايات المتحدة استضافة مؤقتة، لا علم للبنتاغون بها كما لم تعلم بإقامته دائرة الهجرة، ونستطيع إضافة صفة كوارعجي للرجل، أما فيما يتصل بالكوارع فما هو مؤكد أن لا علم لـ "ديك تشيني" فيها، وها هو ذا يحتج بصخب على حملة اعتقالات قام بها نظام بلاده، ليقطع احتجاجه عودة الراقصة الأردنية إلى المسرح، وقد خصته بهزات متصلة من خصرها، لتختلط شهوته بلعابه متيقناً أنه كان قد هجر زوجتيه الاثنتين، في بلاده بعد إعلانه عن معارضة متأخرة.
الرقاصة الأردنية، حائرة بين أن تكون:
- أردنية شرق أردنية
- أردنية فلسطينية
وهي بالتأكيد لم تصل الأردن مع قدوم الشريف حسين يوم أطلق فرسه الشقراء.. سيكون من الأفضل في مثل هذه الحالة أن تكون:
- أمريكية خارج أسوار جوليانا.
- وجامعة للدول العربية حين يطاح بالساهرين على وقع ذات الأغنية.. أغنية طالما اعتقدنا أنها منسية بفعل سنوات من الولادات المتصلة لنجوم العناء العربي.. أغنية بساط الريح.
اسمها داليا، يساعدها على أن تكون انترناشونال.. اسم قريب جدا من داليدا.. اسم كوني إن شئنا.. تماما كما بوسعها أن تكون سيدة كونية..
استخلاص لا يبحث كثيراً عن الدليل، ولكن إفريقيين فقط كانا في ليل جوليانا يؤكدا لنا حقيقة كونية داليا.. كونية بلا ضفاف، فقد رقصا حتى دارت الأرض بهما.. رقصا تحت عصا داليا، الإفريقيين إياهما، لم يجيئا من فراغ الجسد.. جاءا من رقصات ممتدة في الكائن الأول.. كائن ما قبل المارينز.. جاءا من رقصة قبائل.
اللاكوتا. قبائل بنت عمارتها من الطين فرضت بعشوائية مذهلة شكل المكان.. سقوفها سعف من النخيل، وظلال ساحات الرقص يتوسطها قارعو الطبول ليحيط بهم الراقصون في أروع شكل هندسي هو الدائرة في إيقاع حدته تحجب الرؤية .. أيام ثلاث من الرقص.. الأول يوم البكاء، والثاني لنقارة وقارعي الطبول، والثالث كذلك، فالموت بالنسبة للإفريقي ولادة جديدة.. ولادة ربما لا ذاكرة للعبودية فيها.. عشرات الطبول تحيط بالدائرة.
ما الذي يجعل الإفريقيين العجوزين يرقصان على خصر داليا وردفيها إذن؟
الوحدة العربية وحدها؟ الوحدة العربية الإفريقية، وهي واحدة من منوعات خطاب العقيد الليبي معمر القذافي مثلا؟ أم وحدة هذا الكون وقد مزقته البضاعة والأسواق والنفط والمراكز والأطراف والأمم الغالبة والأمم المغلوبة؟
داليا لن تطرح هذا السؤال وليست منشغلة بالإجابة عنه..
في نهاية السهرة ستأخذ داليا جزءاً من النقوط، وستغادر مجهولة إلى مكان مجهول، وربما إلى عشيق مجهول أو طفل ولد في اللحظة الخطأ.
بطبيعة الحال لن يسمح الساهرون لداليا بالمغادرة، فعقد المتعة ما زال في أوله ما دام الليل لم يصل إلى آخره، وعلى داليا أن تأخذ حبات تعرقها بمنديل امرأة هي الأقرب إلى الكائن الضفدع.. منديل لا نعرف ما الذي علق فوق حوافه بعد ليل مضنٍ كانت السيدة اللبنانية تصك فيه أسنانها المستعارة، كما رموش عينيها المستعارين، فيما يحضنها زوجها الشاب مستعيراً منها الوقت.. وقتاً طويلاً على شاب ينتظر (الكرين كارد) عبر زواجه الموفق من امرأة تسقط أي رجولة عن أي رجل إذا اندسّ في فراشها.. السيدة اللبنانية التي:
- تصك حين تبتسم
- تصك حين تأكل
- مائدة من صكيك الأسنان وصلت إلى (جوليانا) بعد وصول بساط الريح إلى لبنان، وحين وصل بساط المغني إلى أسنان السيدة المستعارة، صفق المعارض السوري العجوز معلناً براحتي يده المصابتين بالكثير من دسم المقادم، أنه:
- معاد لإدارة رستم غزالة للبنان.. وأنه:
- مثلها يبحث عن دم الرئيس رفيق الحريري.. وأنه:
- ضد التدخل السوري في الشأن اللبناني، مفترضاً بأن سيدة الصكيك هذه منتمية في السياسة إلى البرتقالي، وفي المعتقد إلى المارونية، أما في الانفعالات فمنتمية إلى طرد المحتل السوري ومسكونة بالاستقلال.. مفترضا بالغريزة وحدها كل هذه الاستخلاصات.. الشيء الوحيد الذي كان بوسع العجوز المعارض الاحتكام إليه خارج الغريزة وبالعين المجردة، أن السيدة اللبنانية كانت ترتدي قميصاً بنياً، وربطة عنق بنية، وسروالا بنيا ضاق بردفيها المؤلفين من حوض للاستحمام، الأمر الذي يجعل صراخه بلا معنى بعد ظهور احتمال أن تكون السيدة إياها شيعية من محيط صيدا أو من الخيام.
لا بأس.. كل الاحتمالات لن تعيق المعارض العجوز، من أن يميل بجسده يميناً ويساراً مؤكداً إحساسه العميق بالإيقاع دون نسيان أنني إلى جواره درزي وصل لتوه من أنف الحاكم بأمر الله.
- أنف الحاكم بأمر الله؟
حكاية ثانية، ربما ستكون خارج ليل جوليانا، فالدروز، حيثما ذهبوا يبحثون عن جوليانـ (هم)، جوليانهم هم، وليس أي جوليانا آخر.. جوليانا ليس فيها كل هذا الاختلاط، فالغيتو الذي حملوه منذ العام 408 هجري ما زال محمولاً فوق أكتافهم إلى اللحظة، بمن فيهم دروز أمريكا.. بشر فاتوا إلى الداخل بعد أن أوقفوا التبشير بمعتقدهم منذ إقفال الدعوة وهم يسمونها دعوة التوحيد.. بشر لا يزيدون ولا ينقصون، وهم كذلك ثابتين بفعلين:
-الأول بإيقاف التبشير، فالداخل لا يخرج والخارج لا يدخل،
والثاني بفعل التقمص فمن يموت يولد درزي، والسبحة تكر إلى يوم القيامة، يوم يطلق الله محاسبيه، وقد حملوا أطناناً من فواتير الخير والشر، وبفعل ذهنية الغيتو هذه لن يكون لجوليانا مكاناً بين المفضل من الأمكنة عندهم، فالمفضل:
- عائلات درزية درزية فقط.. ولا بد من حضور المتة بصفتها النبتة التي اكتشفها مهاجر درزي إلى الأرجنتين عاد بها، فصارت بمثابة النشيد الوطني للدروز.
هل بوسع المرء استحضار شيء من المتة إلى جوليانا؟
متة، تأخذ الساهرين من كحول يقودهم إلى المغسلة في تقيؤ متواصل، نحو ذاكرة الأمس؟
ذاكرة العراق.. عراق جواد سليم وبدر شاكر السياب؟
ذاكرة المغرب حيث ناس الغيوان ورجل يرَقِّص القردة في الرباط،
ذاكرة لبنان والروشة وشيء من عرنوس ذرة مشوية فوق صخرة العشاق المنتحرين؟
أعطني متة.
ليس مسموحاً لك في شيكاغو أن تكسر القواعد.. قواعد بشرية أضاعت الهوية، فتاهت المرأة في زحمة المكان.. كان عليك أن تصرخ:
- أعيدوا لي خيال المرأة فضجيج جوليانا يقتل الخيال.